أرشيف المقالات

خروج عصاة الموحدين من النار

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2خروج عصاة الموحدين من النار
اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربُّه شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:   فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة - أن أهل المعاصي من الموحدين الذين تغلب سيئاتهم حسناتهم، واستوجبوا النار بأعمالهم، لا يخلدون في النار كباقي المشركين؛ ولكنهم يمكثون فيها بقدر معاصيهم، ثم يأمر الله تعالى الملائكة بإخراجهم من النار وإدخالهم الجنة، وذلك للأدلة التالية: (1) روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: ((وعزَّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأُخرجنَّ منها مَن قال: لا إله إلا الله))؛ (البخاري، حديث 7510).   قوله: ((وعزتي))؛ أي: قوة الله تعالى الباهرة.   قوله: ((وكبريائي)): الكبرياء: هو: حصول كمال لذات يستلزم ترفيعًا لها على الغير، ومن هنا كان الكبر قبيحًا في حقنا، واجبًا في حق الله تعالى؛ (المفهم في شرح مسلم؛ للقرطبي، جـ 3، صـ 67).   قوله: ((لأخرجنَّ منها من قال: لا إله إلا الله))؛ أي: تعظيمًا لاسمي وإجلالًا لتوحيدي؛ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ علي الهروي، جـ 8، صـ 3544).   (2) روى مسلم عن أبي سعيد الخُدْري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حممًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر الحياة، أو الحيا، فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتويةً؟))؛ (مسلم، حديث:184).   قوله: ((مثقال)): وزن. قوله: ((حممًا)): فحمًا. قوله: ((امتحشوا)): احترقوا. قوله: ((انظروا))؛ أي: انظروا يا ملائكتي في النار.   قوله: ((الحيا)): وهو المطر سمي حيًّا؛ لأنه تحيا به الأرض؛ ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون، وتحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض؛ (مسلم بشرح النووي، جـ 3، صـ 36).   قوله: ((جانب السيل)): المراد: أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة، فيقع في جانب الوادي، فتُصبح من يومها نابتةً.   قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه إشارة إلى سرعة نباتهم؛ لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه.   وقال أيضًا: ويُستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفًا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له، وإن لم يُباشر ذلك؛ (فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، جـ 11، صـ 458).   قوله: ((تخرج صفراء ملتويةً)): قال الإمام النووي رحمه الله: لسرعة نباته يكون ضعيفًا، ولضَعفه يكون أصفر ملتويًا، ثم بعد ذلك تشتدُّ قوته؛ (عمدة القاري؛ للعيني، جـ 23، صـ 124).   فوائد الحديث: (1) الحديث دليل على تفاضُل أهل الإيمان في درجات إيمانهم، وذلك بسبب تفاضُل أعمالهم.   (2) الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.   (3) مرتكب الكبيرة من الموحِّدين لا يُخلَّد في النار، ولا يخرج من دين الإسلام.   (4) مرتكب المعاصي معرض للعقوبة في الدار الآخرة، ودخول النار، إلا أن يعفو الله تعالى عنه؛ (منار القاري؛ حمزة قاسم، جـ 1، صـ 103).   (3) روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين))؛ (البخاري، حديث: 6566).   قوله: ((الجهنميين)): جمع جهنمي، نِسبة إلى جهنم، والمراد: أنهم عتقاء الله تعالى.   (4) روى الشيخان عبيدة، عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا، رجل يخرج من النار حبوًا، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهَب فادخل الجنة، فيأتيها فيُخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخُل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها - أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا - فيقول: تسخر مني - أو: تضحك مني - وأنت الملك))، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحِك حتى بدَتْ نواجذه، وكان يقول: ذاك أدنى أهل الجنة منزلةً)؛ (البخاري، حديث: 6571/ مسلم، حديث: 186).   قوله: ((حبوًا))؛ أي: مشيًا على يديه ورجليه كالطفل. قوله: ((وجدتها ملأى)): يعني وليس لي مكان فيها. قوله: ((فإن لك مثل الدنيا))؛ أي: في سعتها وقيمتها.   قوله: ((وعشرة أمثالها))؛ أي: زيادةً عليها في الكمية والكيفية، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]، فالمؤمن حيث ترك الدنيا وهي صارت كالحبس في حقِّه جُوزي بمثلها عدلًا وأضعافها فضلًا.   قوله: ((أتسخر مني))؛ أي: أتستهزئ مني. قوله: ((وأنت الملك))؟ أي: وأنت الملك القدُّوس الجليل. قوله: ((بدت))؛ أي: ظهرت. قوله: ((نواجذه))؛ أي: أواخر أضراسه؛ (مرقاة المفاتيح شرح المصابيح، علي الهروي، جـ8، صـ 3561).   أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا - أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم.   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١