أرشيف المقالات

هل سؤال وعذاب القبر ونعيمه للبدن فقط؟

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
هل سؤال وعذاب القَبر ونعيمه للبَدن فقط، أم للرُّوح فقط، أم لهما معً؟
الدار الآخرة أسئلة وأجوبة حول القبر
 
س: هل سؤال وعذاب القَبر ونعيمه للبَدن فقط، أم للرُّوح فقط، أم لهما معًا؟
اختلف أهلُ العلم في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أن سؤال القبر للرُّوح فقط، وذهب إلى ذلك: ابنُ حزم وابن هبيرَة.
 
القول الثاني: أن سؤال القَبر للبدن فقط، وذهب إلى ذلك: ابنُ جَرير الطَّبري، وجماعةٌ من الحنابلة، منهم ابن عَقِيل في كتاب "الإرشاد"، وابن الزَّاغواني، وجماعة من الكرَّاميَّة.
 
القول الثالث وهو قول الجمهور: أن سؤال القبر وعذابه أو نعيمه يكون للرُّوح والبدن معًا، وبه قال جمهور أهل العلم، وهذا هو الرَّاجح.
 
قال "شارح الطحاوية" رحمه الله (ص 451):
"وليس السُّؤال في القَبر للرُّوح وحدَها كما قال ابنُ حَزم وغيرُه، وأفسدُ منه قولُ مَن قال: إنه للبدن بلا رُوح، والأحاديثُ الصَّحيحة تردُّ القولَين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تُنعَّم النفس وتُعذَّب مفردة عن البدن ومتصلة به".
 
وقال ابن حجر في "الفتح" (3/377) في قصة أصحاب القَليب ووقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم: "قد أخذ ابنُ جرير وجماعة من الكراميَّة من هذه القصة: أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يَخلق فيه إدراكًا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم".
 
وذهب ابنُ حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الرُّوح فقط من غير عود إلى الجسم.
 
وخالفهم الجُمهور فقالوا: "تُعاد الرُّوح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من كَون الميت قد تتفرق أجزاؤه، ولأن الله تعالى قادر أن يُعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه، والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميِّت قد يشاهَدُ في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره ولا ضيق ولا سَعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب".
 
وجوابهم: أن ذلك غير ممتنع في القُدرة، بل له نظير في العادة وهو النَّائم، فإنه يجد لذَّة وألمًا لا يدركه جليسه، بل اليَقِظان قد يُدرك ألمًا أو لذَّة لما يَسمعه أو يُفكر فيه ولا يُدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلطُ من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظَّاهر أن الله تعالى صَرف أبصار العباد وأسماعَهم عن مشاهدة ذلك، وسَتره عنهم إبقاءً عليهم ليتدافنوا، وليست للجوارح الدنيويَّة قُدرة على إدراك أمر الملكوت إلا من شاء الله، وقد ثبت بالأحاديث ما ذهب إليه الجمهور:
كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لَيسمع خَفْق نِعالهم)).
وقوله: ((فيَضربانِه بين أُذنيه)).
وقوله: ((فيُقعدانه تَختلف أضلَاعه)) كلُّ ذلك من صفات الأجساد؛ اهـ.
 
وقفةٌ:
ذهب أبو الهُذيل ومَن تبعه إلى أن الميِّت لا يَشعر بالتَّعذيب ولا بغيره إلا بين النَّفختَين.
قالوا: "وحاله كحال النَّائم أو المَغشي علَيه لا يحسُّ بالضَّرب ولا بِغيره إلا بعد الإفاقة".
والأحاديث الثابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميِّت عنه تردُّ عليهم.
 
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"فلتعلم أن مذهبَ سلف الأمَّة وأئمتها أن الميِّت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يَحصل لرُوحه وبدنه، وأن الرُّوح تَبقى بعد مُفارقة البَدن مُنعَّمة أو مُعذبةً، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا ويحصل له معها النَّعيم أو العذابُ، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواحُ إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لربِّ العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى" (الروح: ص 69).
 
ويقول ابن القيم أيضًا كما في كتاب "الرُّوح" (ص 85، 86):
" إن الله سبحانه جعل الدُّور ثلاثًا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكامَ دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعًا لها؛ ولهذا جعل أحكامه الشَّرعية مرتبة على ما يَظهر من حركات اللِّسان والجوارح، وإن أَضمرت النُّفوس خِلافه، وجعل أحكام البَرزخ على الأرواح، والأبدان تبعًا لها، فكما تَبعت الأرواحُ الأبدانَ في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها والتذَّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النَّعيم والعذاب تَبِعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنَّعيم، فالأبدانُ هنا ظاهرة والأرواح خفيَّة، والأبدان كالقبور لها والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خَفيَّة في قبورها تجري أحكام البَرزخ على الأرواح فتَسري إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتَسري إلى أرواحها نَعيمًا أو عذابًا، فأَحِطْ بهذا الموضع عِلمًا واعْرفه كما يَنبغي يزل عنك كل إشكال يُورد عليك من داخِل وخارِج، وقد أَرانا اللهُ سُبحانه بلُطفه ورحمتِه وهدايتِه مِن ذلك أُنموذجًا في الدُّنيا من حال النَّائمين، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلاً، والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرًا مُشاهدًا، فيرى النائم في نومِه أنه ضُرب فيصبح وأثرُ الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شَرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فِيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
 
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش، ويدافع كأنه يَقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحُكم لما جرى على الرُّوح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسَّ، فإذا كانت الرُّوح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تَجرُّد الرُّوح هناك أكملُ وأقوى، وهي مُتعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم، صار الحُكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلاً، ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقَّه تبيَّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسَعته وضمِّه، وكونه حفرةً من حفر النار أو روضةً من رياض الجنة، مطابقٌ للعقل، وأنه حقٌّ لا مِريةَ فيه، وأن من أشكَل عليه ذلك فمن سوء فَهمه وقلَّة علمه أُتِي، كما قيل:






وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ






 
وأَعجبُ من ذلك أنك تجد النائِمَين في فِراش واحدٍ، وهذا رُوحه في النَّعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا رُوحُه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبرٌ بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
 
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى" (4/282) لمَّا سُئل عن هذه المسألة:
"الحمد لله ربِّ العالمين، بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تُنعم النفس وتعذَّب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدنُ متَّصل بها.
 
فيكون النَّعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للرُّوح منفردة عن البدن.
 
واستدل شيخ الإسلام - رحمه الله - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال المُعَذَّبين في القبر: ((ثم يُضْرَب بمِطرقة من حديدٍ ضربة بين أُذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين))؛ (أخرجه البخاري ومسلم).
 
والضَّرْبُ بين الأُذنين يكون للبدن، فيحصل الألم للرُّوح والبدن.
 
وعند التِّرمذي: ((ثم يُقالُ للأرض: الْتَئمي عليه، فتلتئم عليه، حتى تختلفَ فيها أضلاعُه، فلا يزال مُعذَّبًا حتى يَبعثه الله من مَضجعه ذلك)).
 
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
وفي هذا الحديث اختلاف أضلاعه، وغير ذلك، مما يبين أن البدن نفسه يُعذَّب.
وذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - جملةً من الأحاديث تدلُّ على هذا المعنى ثم قال: ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه.
 
وأما انفراد الرُّوح وحدها:
فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما نَسَمَةُ المؤمن طائرٌ يعلقُ في شَجر الجنَّة، حتى يَبعثه الله - عز وجل - إلى جَسده يوم القيامة))، وقوله: "يعلُقُ" (بالضم) أي: يأكل، وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
 
ثم قال شيخُ الإسلام: فقد أخبرت هذه النُّصوص أن الرُّوح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حقٌّ.
 
وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذِكر الموت" عن مالك بن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "بلغني أن الرُّوح مُرسلة تذهب حيث شاءت".
 
ومما يدل على أن عذاب القبر يقع على الروح والبدن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّث كما في "صحيح البخاري" عن أهل الكبائر ممَّن يُعَذَّبُون في قبورهم، فكان من جملة ما ذكر من عذابهم: ((أنَّ أحدهم يُشَرشَر شِدقُه حتى قَفاه، ومنخَرُه حتى قفاه، وعيناه حتى قفاه))، وهذا يكون في البدن، وكذلك هناك من يشدخ رأسه...
وغير ذلك ممن ذكرهم النبي في الحديث.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير