أرشيف المقالات

المهيمن جل جلاله

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2المُهيمن جلَّ جلالُه   قال الله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 23].   معنى الاسم في حق الله: (المهيمن) جل جلاله: هو الموصوف بمجموع صفاتٍ ثلاث: أولها: العلم بأحوال الشيء.   الثاني: القدرة التامة على تحصيل مصالح ذلك الشيء.   الثالث: المواظبة على تحصيل تلك المصالح، فالجامع لهذه الصفات كلها اسمه (المهيمن)، ولن تجتمع على الكمال إلا لله سبحانه؛ فلا يكون مهيمنًا مَنْ لم تكن لديه هذه الصفات.   (المهيمن) جلَّ جلالُه: القائم على خلقه في كل أمورهم وشؤونهم، المطَّلع على خفايا أمورهم، وخبايا صدورهم، الشهيد عليهم بأعمالهم، الرقيب على أقوالهم وأفعالهم وتصرُّفاتهم.   "وإنما قيامه عليهم باطِّلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرفٍ على كُنْهِ الأمر مستولٍ عليه حافظ له، فهو مهيمنٌ عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى الفعل، فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن، ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله عزَّ وجلَّ "[1].
وهذا من أحسن ما قيلَ في اسم الله المهيمن. "وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، تقول: هيمن فلان على فلان إذا صار رقيبًا عليه..."[2].   متى قرأتَ قصص القرآن الكريم، رأيتَ تَجَلِّي اسم الله (المهيمن)، لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه، والتمكين لموسى في الأرض.   قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]؛ لكن كيف لأمٍّ أن تُلقيَ فلذة كبدها وثمرة فؤادها في اليم؟ الجواب: المهيمن (جل جلاله) هيمن على قلبها، فقذف فيه صبرًا وسكينة؛ فأطاعت وألقت طفلها في التابوت، ثم ألقته في اليمِّ!   ثم كادت أن تُبديَ به، لولا أن هيمن الله على قلبها كذلك فكتمته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، ثم هيمن الله على ذاك التابوت؛ فاستقرَّ عند قصر فرعون، فأراد الحرس قتل موسى، فهيمن الله على قلب امرأة فرعون؛ فخرجت قائلة لفرعون وجنوده: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، وهيمن الله تعالى على فرعون، فخرج من جبروته وطغيانه لحظة أطاع فيها زوجته، ولبَّى رغبتها، ليربيَ بذلك عدوه في بيته!   ثم لما أراد الطفل (موسى) الرضاع، هيمن الله على قلبه؛ فأبى أن يلتقم ثديَ امرأةٍ إلا أمَّه، كما قال عزَّ من قائل: ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 11 - 13].   فحين يهيمن المهيمن جلَّ جلاله على القلوب والعقول، والأحوال والأمور، تستشعر قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].   • ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾: قال عز من قائل: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، فالقرآن مهيمنٌ على الكتب قبله، فقد جاء بأحسنِ ما فيها، ونسخ منها ما نسخ، وقصَّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون؛ فأظهر تحريفهم، كما أظهر الحق الذي عندهم.   وإذا كان القرآن قد هيمن على ما قبله من الكتب، فينبغي أن يكون مهيمنًا على مَنْ أُنزل إليهم، أن يكون مهيمنًا على قلوبهم وسائر أحوالهم، ينبغي أن يعتنوا به، ينبغي أن يتحاكموا إليه ويعملوا به ويتعايشوا معه، ويرفضوا ما سواه؛ ولهذا لما قال الله تعالى: ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، قال بعدها: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].   فلو هيمن هذا الكتاب على حياتك، فاتبعت ما جاء به، وعملت بما فيه، وتحاكمت إليه وأحسنت صلتك به، فقد فزتَ فوزًا عظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 57، 58].   قال أبو سعيد الخُدْري وابن عباس رضي الله عنهما: "فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام"[3].   كيف نتقرَّب إلى الله باسمه (المهيمن)؟ ١- أن نعتصم به وحده، ونعتمد عليه وحده، ونلجأ، ونركن إليه وحده: إذا عَلِمَ العبد أن لله جلَّ جلاله الهيمنة الكاملة، والإحاطة العظيمة والسيطرة التامَّة، فكيف يلتفت إلى غيره؟ وكيف يتعلَّق قلبُه بسواه؟ والمتأمِّلُ لدعاء السفر الذي علَّمنا إيَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلَّى له أثرٌ عظيمٌ من آثار اسم الله (المهيمن)، علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نقول: ((اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل))[4]. جلالك يا مهيمن لا يبيد وملكك دائمٌ أبدًا جديدُ وحكمك نافذٌ في كلِّ أمرٍ وليس يكون إلا ما تريد وبابك معْدِنٌ للجود يا مَن إليه يقصِد العبدُ الطريد[5]   ٢- أن نستشعر رقابته تعالى في سرِّنا وعلانيتنا: فمن عرف الله (المهيمن)، وعرف أنه شاهدٌ على خلقه بما يصدر منهم من قولٍ أو عملٍ، وعرف أنه تعالى لا تغيب عنه غائبة، ولا تعزب عنه مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض؛ راقبه في السرِّ والعلن، وابتعد عن كل ما يسخطه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فإن ضَعُفَ يومًا ووقع فيما يُغضب الله، سرعان ما سيعود إلى الله؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].   ثم تأمل ما أثمره ذلك فيما قاله الله تعالى بعده: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 -64].   فثمرةُ رقابةِ الله ومعرفةِ هيمنته، تحقيق الولاية، وثمرة تحقيق الولاية السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"[6]. إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ ألم ترَ أن اليوم أسرع ذاهبٍ وأن غدًا للناظرين قريبُ[7].
  ٣- أن يستشعر العبد هيمنة علَّام الغيوب على القلوب: اقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يصرفه حيث يشاء))[8].   فالإنسان إذا امتلك أسباب الدنيا كلها ليهيمن على قلب آخر، ما استطاع؛ لأن قلوب العباد بيد رب العباد سبحانه وتعالى، فلا يجهدن العبد نفسه في كسب وُدِّ الخَلْق ورضاهم، ولا يسعين لتعلوَ مكانتُه في قلوبهم، وأرْضِ المهيمن جلَّ جلالُه، يُرْضِ عنك عبادَه.   فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من التمس رضا الله بسخط الناس، رضيَ الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس))[9]   فمن نسِيَ الله وراح يرضي الناس بأي وسيلة كانت، فلن تراه إلا مبغوضًا من الخَلْق وإن بدا له أحيانًا الوصول إلى مُبتغاه؛ فإنما هي فتنةٌ واستدراج، فإن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا، ألقى حبَّه في قلوب عباده، وإذا أبغضه، ألقى بغضه في قلوب عباده.   ٤- أن يعيش العبد هادئًا مطمئنًا، متوكِّلًا عليه وحده، واثقًا فيه وحده: فإذا عرف العبد أن الله هو المهيمن انقطعت آماله ممن سواه، فلا يتوكَّل إلا عليه، ولا يثق إلا فيه، ولا يستعين إلا به، ولا يلجأ إلا إليه، ومن كان هذا حاله، عاش هادئًا مطمئنًا، وانتقل من خيرٍ إلى خير، ومن رُقيٍّ إلى رُقيٍّ؛ لأنه إنما يعيش في كنف المهيمن جلَّ جلاله ولن يصيبه إلا ما قد قدَّره له.   ٥- أن يكون العبد شجاعًا في الحق، يصدع به، ولا يخاف في الله لومةَ لائمٍ: لأن المهيمن جلَّ جلاله يدفعه أن يتقوَّى بقوته، ويتعزَّزَ بعِزَّته، ويعمل في سبيل مرضاته غيرَ مُبالٍ بأحدٍ.   إن إبراهيم عليه السلام لما دار بينه وبين قومه ما دار؛ يقول تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 68، 69] ففي هذا الموقف الجَلَل أنَّى لإبراهيم أن ينجوَ من النار؟! ولكن المهيمن جلَّ جلاله حوَّل طبيعة تلك النار من مادة إحراق إلى مادة مليئة بالبَرَد والسلام.   ٦- أن ندعوَ الله تعالى باسمه (المهيمن): كأن يقول العبد مُناجيًا ربَّه: أسألك اللهمَّ باسمك المهيمن أن تؤمِّنَني من كل خوف، وتؤمِّنَ قلبي من كل ريبةٍ وشكٍّ، وتؤمِّن عقلي من كل ضلالٍ وزيغ.


[1] المقصد الأمني؛ الغزالي. [2] فتح الباري؛ ابن حجر. [3] الجامع لأحكام القرآن؛ القرطبي. [4] رواه أبو داود وأصله عند مسلم. [5] يحيى بن معاذ الرازي، وانظر: شعب الإيمان؛ للبيهقي. [6] انظر: مختصر العلوِّ؛ للذهبي بتحقيق الألباني. [7] إحياء علوم الدين؛ للغزالي. [8] رواه مسلم. [9] رواه ابن حبان في صحيحه وصحَّحَه الألباني.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن