أرشيف المقالات

التوحيد في سورة النحل

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2التوحيد في سورة النحل
وتُسمى سورة النعم لكثرة ما ذُكر فيها من عطاءات الربوبية: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، وقد ناسب هنا ذكر صفتي المغفرة والرحمة؛ لأن الله تعالى يغفر للناس عجزَهم وتقصيرهم عن شكر نِعمه، ثم هو سبحانه يُعاملهم بالرحمة، فيتفضَّل عليهم بمزيد النعم - رغم معاصيهم وكفرهم - ولا يُعجِّل لهم العقوبة؛ لأنه سبحانه لو سلَب عنهم نعمه أو منَع عنهم عطاءه، لما عاشوا، وهلكوا.   تَمضي السورة الكريمة في محورين؛ الأول: إثبات ألوهية الله عز وجل، وأنه وحده - ولا أحد معه ولا غيره - الأحق بأن يعبد، الثاني: إبطال الشرك ودعاوى المشركين، وبيان ذلك فيما يلي: أولًا: إثبات الألوهية، جاء في مطلع السورة: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2]، فالله تعالى ينزل الملائكة (الوحي)، بالروح (لإحياء القلوب) على الرسل؛ لينذروا الناس أن الله هو المعبود الأوحد الأحق بأن يُتقى؛ أي: أن يطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى.   ثم هذا التقرير بعد بيان أن مَن يخلق ليس كمن لا يخلق، وأن المعبودات الأرضية مصنوعة، وهم أموات أو كالأموات: ﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [النحل: 22]، هو الخالق الصانع، الحي الذي لا يموت، العالم بالسر والعلانية.   وهذا الإنذار الذي قامت به الرسل، وهذا التقرير شمل كلَّ الأمم: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وهي دعوة التوحيد التي جاءت بها الرسلُ، وهي عبادة الله، والكفر بالطاغوت واجتنابه...   أما المحور الثاني، فهو إبطال الشرك والتحذير منه، فالله واحدٌ وليس اثنين، وهو واحد لا شريك له ولا ند له ولا مثيل له؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [النحل: 51]، ومن الأدلة على وحدانية الله تعالى أن لفظ الجلالة "الله" مفرد لا يقبل التثنية ولا الجمع، فلا يكون مثنى ولا جمعًا بأي حال من الأحوال، والألف واللام فيها ليست للتعريف؛ لأنه سبحانه غني عن التعريف؛ فهي أصلية في اللفظ الجليل.   كذلك فإنه لم يسمَّ به معبود "غير الله"، ولا صنم ولا وثن، ويشترك مع الاسم الأعظم اسم الرحمن، فإنه لم يطلق إلا على الله الواحد الأحد، ومن عجائب الأمور أن مدعيًا للألوهية سمى نفسه الرحمن - وهو مسيلمة - فأُلصقت به صفة الكذب، فلا يذكر إلا بإضافة صفة الكذاب، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب.   أمر الله تعالى بعدم اتخاذ إلهين، وضرب لذلك مثلين: الأول: قوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 75]؛ هل يستوي - على المستوى البشري - العبد المملوك ومالكه، وهل يستوي الغني الذي يعطي وينفق، والفقير الذي ينتظر مَن يُعطيه أو يطعمه؟ ثم هل يستوي مَن يَملِك خزائن الأرض، ومالك السماوات والأرض، ومالك الملك؛ هل يستوي هو وأغنى أغنياء الأرض؟ هل يستوي الخالق والمخلوق؟ هل يستوي الرازق والمرزوق؟ هل يستوي القادر والمقدور عليه؟ هل يستوي القاهر والمقهور؟ هل يستوي الحي القيوم الباقي والميت الفاني؟ هل يستوي المحيي المميت والمحكوم عليه بالموت؟ هل يستوي المعبود بحق والمعبود بالباطل؟ هل يستوي الذي في السماء الذي استوى على عرشه، والمعمولُ المصنوع؟ هل يستوي الحق والباطل؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.   ذكر ابن كثير عن مجاهد: (هو مثل مضروب للوثن، وللحق تعالى، هل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق ما بينهما بينًا واضحًا ظاهرًا لا يجهله إلا كل غبي؛ قال الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 75].   المثل الثاني: قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76].   قال ابن كثير: قال مجاهد: وهذا أيضًا المراد به الوثن والحق تبارك وتعالى، يعني أن الوثن لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا (كَلٌّ)؛ أي: عيال وكلفة على مولاه، (أينما يوجِّهه)؛ أي: يبعثه (لا يأت بخير)، ولا ينجح في مسعاه، (هل يستوي) من هذه صفاته، (ومن يأمر بالعدل)؛ أي: بالقسط، فقوله حق وفعاله مستقيمة، (وهو على صراط مستقيم)، واختار هذا القول ابنُ جرير.   فالله سبحانه يأمر بالعدل، والعدل هو توحيده، قال تعالى بعد ذلك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، قال ابن كثير عن ابن عباس (إن الله يأمر بالعدل): شهادة أن لا إله إلا الله، وقال الطبري: العدل: الإنصاف، ومن الإنصاف الإقرار بما أنعم علينا بنعمته، والشكر له على أفضاله، وتولي الحمد أهله، وإذا كان ذلك هو العدل، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحق الحمد عليها، كان جهلًا بنا حمدُها وعبادتها، وهي لا تُنعِم فتُشْكَر، ولا تنفع فتُعْبَد؛ فلزمنا أنْ نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله، فتوحيد الله تعالى هو العدل، والعدل توحيده، ومن هنا كان التوحيد هو الخضوع لأمره، والإقرار بحكمه...   ومن هنا أيضًا وجب أن يُعلم أن حكمه وشرعه وقضاءه هو العدل، فشرع الله عدل وشرع غيره ظلم وجَورٌ، ولهذا كان دليلُ التوحيد الأول هو عدم الرضا عن كل حكم غير حكم الله ورفض كل شرع غير شرع الله، ثم الرضا بكل حُكم حَكَم به الله، وقبول كل شيء شرعه الله.   ثم جاء التحذير من نقض عهد الله، وهو عهد التوحيد في المقام الأول، ثم سائر العهود: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91].   إن من نقض عهد التوحيد؛ فإن جهده لا طائلَ منه، وسعيه لا فائدة منه، كالتي تتعب وتغزل، وكلما أتَمَّت شيئًا نقَضته وأرجعته إلى ما كان، فلا عقل لها ولا متمة لعملها.   وإذا كانت هذه السورة سُميت بسورة النعم لكثرة ذكر ما فيها مِن نعمٍ؛ فإن أعظم هذه النعم هي نعمة التوحيد ونعمة الهداية إلى دين الإسلام، وإذا كانت النعم تستوجب الشكر بتصريفها في طاعة المنعم بها، فإن شكر نعمة الإسلام هي الدعوة إليه؛ لذا كان في خواتيم السورة قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢