أرشيف المقالات

أدب المجلس

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2أدب المجلس
كان صلى الله عليه وسلم قدوةً لأصحابه في كل عمل يقوم به، عبادة كان أو أدبًا، وكانوا يقتفون أثره في كل صغيرة وكبيرة، ونخص هذا الفصل بالحديث عن أدبه صلى الله عليه وسلم في مجالسة أصحابه رضي الله عنهم.   حيث انتهى المجلس: كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء إلى أصحابه سلم وجلس حيث انتهى به المجلس، ولهذا كان يأتي الرجل الغريب فلا يميزه من أصحابه حتى يسأل عنه.   ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ[1].   وعن أبي ذر وأبي هريرة قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، حتى يسأل[2]..   وقد تعلم ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يفعلون ذلك. عن جابر بن سمرة قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي[3]. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفرق الرجل في جلوسه بين اثنين إلا بإذنهما. عن عبدالله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما»[4]. كما نهى صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل رجلًا من مجلسه ثم يجلس فيه.   فقد روى الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه»[5].   وعن ابن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم[6].   لا يُقام للقادم: وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يقوم له أصحابه. قال أنس رضي الله عنه: لم يكن شخص أحبَّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك[7].   وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرَّه أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار»[8].   الرجل أحق بمجلسه: وإذا خرج رجل من مجلس لحاجة، وفي نيته أن يعود، فهو أحق بمجلسه. عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به»[9].   التناجي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في المجلس ثلاثة أن ينفرد بالحديث اثنان يتساران، يخفيان حديثهما عن الثالث، لما في ذلك من أثر نفسي على الثالث، حيث يرى نفسه - من وجهة نظرهما - أنه ليس أهلًا لسماع ما يدور بينهما.
فيحزن لذلك، وربما طوى في نفسه الحقد عليهما والكره لهما.   عن عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانوا ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث»[10]. وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه»[11].   أما إذا كانوا أكثر من ذلك فلا بأس، لأنه ينتفي عندها وجود الحزن في نفس الثالث لوجود رابع معه أو أكثر من ذلك.   أدب الحديث: ومن أدب الحديث في المجالس، أن لا يتقدم الإنسان على من هو أكبر منه سنًا. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»[12].   وفي قضية مقتل عبدالله بن سهل جاء حويِّصة ومحيِّصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة ليتكلم وهو الأصغر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «كبِّر كبِّر» فتكلم حويصة[13]..   وقد تأدب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، بهذا الأدب الكريم، فهذا عبدالله بن عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة..
ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم...
وإذا أنا أصغر القوم فسكت.   فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»[14]. وهكذا دفع الأدب والحياء عبدالله إلى عدم الكلام وفي المجلس من هو أكبر قدرًا وسنًا منه. وهذا عبدالله بن عباس في مجلس عمر - وهو فتًى - مع أشياخ بدر رضي الله عنهم جميعًا.   وقال عمر: ما تقولون في: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾ [النصر: 1، 2] حتى ختم السورة.   فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وقال بعضهم: لا ندري.. فقال عمر لابن عباس: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ قال ابن عباس: قلت: لا. قال: فما تقول؟ قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾. فتح مكة، فذاك علامة أجلك ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم[15]. وهكذا لم يتكلم ابن عباس في مجلس فيه من هو أكبر منه حتى سئل، التزامًا بالأدب الإسلامي.   العطاس: والعطاس أمر لا إرادي يحدث للإنسان فجأة، وربما حدث ذلك وهو في مجتمع من الناس. وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدبًا قوليًا وآخر فعليًا عندما يحدث ذلك.   فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس، وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته[16].
هذا من حيث الفعل..   وفي مجال القول: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم»[17].   فإذا تكرر العطاس من الإنسان، شمت ثلاثًا، فما زاد فهو مزكوم[18].
أي أنه لا حاجة لتشميته بعد ذلك.   والمسلم يلتزم بهذا الأدب.
ولو كان منفردًا، فإذا عطس حمد الله، ووضع يده على فمه وغض بها صوته، لأنه يطبق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هو أمام أدب اجتماعي يتحرر منه عندما يكون منفردًا، وكذلك آداب الإسلام كلها.   التثاؤب: التثاؤب غير العطاس، وهو دليل على الكسل. ومطلوب من الإنسان أن يرده ما استطاع.
ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان»[19].   وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل»[20].   ووضع اليد على الفم يخفض صوت التثاؤب، كما يمنع انفتاح الفم إلى آخر مداه، ثم هو يستر هذه الصورة غير المستحسنة لوجه الإنسان في هذه الحالة.   الجشاء: والجشاء: ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع، وهو فعل مذموم اجتماعيًا.
وعلى الإنسان أن يجتنب حصوله باجتناب حصول أسبابه، وإذا كان الشبع والامتلاء هو الباعث له، فليجتنب الإنسان ذلك.
وقد نهي الإنسان أن يملأ بطنه.   قال ابن عمر: تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كفَّ عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة»[21].   ويكون كف الجشاء بوضع اليد على الفم كما في التثاؤب، فإن ذلك يخفض الصوت ويمنع رائحة الفم من الانتشار.   الذكر في المجالس: لا ينبغي لقوم أن يشغلوا وقت مجلسهم كله بفضول الكلام، فلا يذكرون الله تعالى فيه. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة»[22].   كفارة المجلس: عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك»[23].   وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»
[24].   الانصراف من المجلس: وكما يبدأ الإنسان بالسلام إذا دخل على قوم، فإنه إذا أراد الانصراف يسلم أيضًا.   عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة»[25].  

[1] أخرجه البخاري برقم (63).
[2] أخرجه أبو داود برقم (4698) والنسائي (5006).
[3] أخرجه أبو داود برقم (4825) والترمذي (2725). [4] أخرجه أبو داود برقم (4844) والترمذي (2752).
[5] متفق عليه (خ 6269، م 2177).
[6] أخرجه أبو داود برقم (4828). [7] أخرجه الترمذي برقم (2754) والبغوي في شرح السنة.
وفي الأنوار برقم (392).
[8] أخرجه أبو داود برقم (5229) والترمذي برقم (2755). [9] أخرجه مسلم برقم (2179).
[10] متفق عليه (خ 6288، م 2183). [11] متفق عليه (خ 6290، م 2183).
[12] أخرجه أبو داود برقم (4943) والترمذي (1920). [13] متفق عليه (خ 7192، م 1669). [14] متفق عليه (خ 72، 131، 4698، م 2811). [15] أخرجه البخاري برقم (4294).
[16] أخرجه أبو داود برقم (5029) والترمذي (2745). [17] أخرجه البخاري برقم (6224).
[18] أخرجه ابن ماجه برقم (3714) بلفظ: «يشمت العاطس ثلاثًا، فما زاد فهو مزكوم» وأصله عند مسلم وغيره من حديث سلمة بن الأكوع.
[19] متفق عليه (خ 3289، م 2994).
[20] أخرجه مسلم برقم (2995).
[21] أخرجه الترمذي برقم (2478) وابن ماجه (3350). [22] أخرجه أبو داود برقم (4855). [23] أخرجه أبو داود برقم (4859) والدارمي (2658).
[24] أخرجه أبو داود برقم (4858) والترمذي (3433) واللفظ له.
[25] أخرجه أبو داود برقم (5208) والترمذي (2706).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢