كن أسدًا ولا تطارد الذباب - محمد فتحي عبد السميع رزق
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
بين الغضب والحلم قال رجل لعمرو بن العاص: "والله لأتفرغن لك"، قال: "هناك وقعت في الشغل!!" قال: "كأنك تهددنى يا عمرو؟؟ والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرة"، فقال عمرو: "وأنت والله لئن قلت لي عشرة لم أقل لك واحدة" وندور في فلك هذه القصة حول أمور منها:
1- الأسد لا يصطاد فأرًا والنسر لا يصطاد الذباب.
2- علاج الغضب (الأسد لا يصطاد فأرًا): وهذا المعنى يفسر لنا حلم هود وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد أن دعاهم الى توحيد الله قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ .
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:66-68] إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم هود لئن الشقه بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولاً فهو فى الذؤابة من الخير والبر وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها -لغبائهم- تضروتنفع!! كيف يضيق المعلم الكبير بثغاء هذه القطعان؟! وكيف يغضب لقولهم فيه وهو من الأنبياء الذين علو على الخلق قيمة ومقامًا وعصمهم الله، النسور لا تنزل من قممها لتقنص ذبابة.
ولكن ماهو الغضب؟؟ والجواب: أن الغضب ركب فى طبع الآدمى لحثه على دفع الأذى عنه ومعاقبة من يؤذيه وهو بهذا القدر محمود والمذموم منه الإفراط فيه حتى يخرج عن حد الاعتدال والرسول صلى الله عليه وسلم يمدح المرء الذى يملك نفسه عند الغضب حيث يقول: «ليس الشديد بالصرعة لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب» (صحيح البخاري [6114])، والغضب هو حرارة تنتشر عند وجود ما يغضب فيغلي عندها دم الغاضب طلبًا للثأر والانتقام.
نماذج من نور:
وإليك المثل من قصص الصحابة وأخبار التابعين كيف كظموا غيظهم وتغاضوا عن الإساءة بل وقابلوها بالإحسان: يروى أن رجلاً سب الأحنف بن قيس وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف فقال: "إن كان بقي معك شيء فقله ههنا فإنى أخاف إن سمعك فتيان الحى أن يؤذوك" وقال رجل لأبى ذر: "أنت الذي نفاك معاوية إلى الشام ، لو كان فيك خيرًا ما نفاك!!" فقال: "يا ابن أخي إن ورائي عقبة كؤودًا، إن نجوت منها لم يضرني ما قلت وإن لم أنجو منها فأنا شر مما قلت!!" فللمؤمن شغل بمستقبله فى الآخرة والإعداد لها في هذه الدنيا والتفرغ للخصومات ديدن من لا عمل لهم إلا اللجاجة وإيثار النزاع، والمؤمن يعتبر ذلك من شواغل الطريق والعوارض التى لا هدف لها ولا غاية منها سوى تعطيل المجد عن المسير إلى مولاه.
وقال رجل لأبي بكر: "والله لأسبنك سباً يدخل القبر معك"، قال: "معك تدخل لا معي"، ففضائل أبي بكر رضي الله عنه جعلته يعيش فى قلعة من المكرمات تحميه من أن تثيره تلك الكلمات، فكلما رمى أحدهم كلمة سوء اصطدمت بسور تلك القلعة من الأخلاق الحميدة فتسقط مرة أخرى على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد.
وشتم رجل أبا ذر الغفاري، فقال له أبو ذر: "يا هذا لا تغرق فى شتمنا ودع للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه" فالرجل العظيم حقًا كلما حلق فى آفاق الكمال اتسع صدره، أو امتد حلمه، وعذل الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم، فإذا عدا عليه من يريد تجريحه نظر إليه من قمته ليراه وضيع القدر بحيث لا يتسنى لمن في القمم أن يأبهوا لمن فى الحفر.
ومر المسيح بقوم من اليهود فقالوا له شرًا فقال لهم خيرًا، فقيل له: "إنهم يقولون شرًا وتقول لهم خيرًا؟!" فقال كل واحد ينفق مما عنده.
وقيل لقيس بن عاصم: "ما الحلم؟" قال: "أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك" وقالوا: "ما قرن شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة".
وقال الحسن: "المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل عليه وتلا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].
وقال يزيد بن حبيب: "إنما كان غضبي فى نعلي فإذا سمعت ما أكره أخذتها ومضيت" وقال سيدنا علي: "من لانت كلمته وجبت محبته، وحلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه" وأَسمع رجل عمر بن عبد العزيز ما يكره فقال: "لا عليك إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا، انصرف إذا شئت فيومها لا دينار ولا درهم وإنما أجر أو وزر حسنات أو سيئات ويا حظ من عفا وكان أجره على الله يوم القيامة وينادي المنادي عليه: ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم ناس -وهم يسير- فينطلقون سراعاً الى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: وما فضلكم؟؟ فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا حلمنا، فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين» (شعب الإيمان [6/2752]).
وظاهرالأمر فى مغبة الغضب أن المرء مع تفاقم غضبه يغيب عنه وعيه ويتسلم الشيطان زمامه، كما تعصف الإضطرابات بمشاعره فيطيش لبه فلا يعي ما يوجه إليه من نصح ولو كان من كلام الله وحكمة الرسول فقد جاء فى الصحيح: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا...
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فقام إلى الرجل أحد ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "هل تدري ما قال رسول الله آنفًا؟" قال: "لا"، قال: "قال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا...
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»"، فقال له الرجل: "أمجنونًا تراني؟".
وعلاج هذ الداء في أمور منها:
1- أن يثبت الغضبان ويغير من حاله فإن كان ناطقًا سكت، وإن كان قائمًا قعد، وإن كان قاعدًا اضطجع ليسكن تلك الثورة وعلى الغاضب أن يخرج في الحال عن المكان ويبعد عمن استغضبه.
2- أن يتفكر في فضل كظم الغيظ فقد مدح الله تعالى الكاظمين الغيظ بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وليسأل نفسه ماذا ينفعك إن عذب أخوك المسلم بسببك وقد قال الله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ولتجعل عفوك وصفحك سبباً لمغفرة ذنوبك {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].
3- أن يتجنب الإتيان بفعل حال غضبه يظل نادمًا على نتائجه طول عمره، كأن يضرب ابنه ويصيبه بعاهة مستديمة، أو خلاف ذلك مما يحدث عند حدة ثورة الانسان ولهذا كان ترك الغضب وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من خطر داهم وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: "يا رسول الله أوصني"، قال: «لا تغضب»، فردد مرارًا قال: «لا تغضب».
4- أن يتذكر أخبار السلف فى صفحهم وكظمهم الغيظ فإن في ذلك ما يهيئ له التحلى بفضائلهم في هذا المقام وهو خير ما يعينه على الخلاص من ثورة الغضب.
5- وينبغي على الغضبان إذا صمم على مجازاة من استغضبه أن لا يعاقبه فى حال غضبه بل يتمهل حتى يسكن غضبه ليكون قادرًا على وزن العقاب بقدر الفعل المعاقب عليه.
محمد فتحي عبد السميع