(4) الرضا بالدنيا قصور - خطوات في التربية - مدحت القصراوي
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
إذا كان انقضاء هذه الدار وفناؤها يقلق سكانها، العابرين فيها، وإذا كان الاطمئنان اليها غفلة يعاقب الله عليها، فليس هذا فقط ما يوجب القلق ويوجب تولية الوجه شطر دار أخرى.. فثمة ما يزعج سكان هذه الدار، ألا وهو أنها ليست بصافية لأهلها بل طبيعتها مكدرة، يمتزج فيه الفرح والترح ويتعاور فيها البلاء والعافية.
قال خالقها تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فلا بد من تعاقبهما وتناولهما للإنسان ليُنظَر صبره وشكره، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما مليء بيت فرحة إلا ومليء ترحة" يعني أعقبه حزن.
ولذا قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ....} [ الفجر :15]، يعني اختبره بالنعم، ثم يقول: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] يعني ضيّق عليه رزقه، فهما اختباران، ولا بد.
فالرضا بالدار المكدرة قصور وسخف، وطلب النعيم بها والتمتع بدلًا من طلب النجاح في الاختبار والقيام بالعبودية، حمق وغفلة ومناقضة لما وضعت له، ومثل هذا يطلب من هذه الدار غير ما وضعت له، ومضيع لما خلقت من أجله، وخالف فطرتها وضيع المقصود في الآخرة.
ولذا نجد من المتاعب والمنغصات ما يكدّر صفوها دومًا، أو يعقب أفراحها، وهو أمر مقصود من رب العالمين تعالى في دار الامتحان، فلا يصيبنا فيها ما يصيبنا جزافًا أو اتفاقًا، بل هو تدبير مقصود واختبار متتابع، بالعطاء والمنع، كليهما.
ولذا قال تعالى فيما قدر: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [ الطلاق :3]، فكل ما يصيب العبد مقصود به شخصه، ووقت البلاء وقدْره مقصود كذلك.
ومن لم يجد تلك المتاعب والاختبارات في نفسه وجدها فيمن يحب ومن يرتبط به، فيصدق دائما فيها قوله: {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف:24].
بل إن مجمل ما يتمتع به الإنسان المقصود منه القيام بوظائف وعبوديات، وما فيه من نعيم إنما هو إعانة ولطف من الله تعالى للقيام بما أوجب.
والأوضح من هذا أن مجمل نعيمها إلى ما فيها من كدر وشغل وتعب أقل بكثير جدًا.
ونسوق لكم هذه الواقعة، فعندما تُوفى الخليفة الأندلسى (عبد الرحمن الناصر) وجدوا فى خزانته ورقة قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التى صَفَتْ له دون كدر، فقال: "فى يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا صفا لى ذلك اليوم".
فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط، وقد ملك عبد الرحمن الأندلس أربعين سنة، وهي في ترف ونعيم مخملي؛ فما بالك بمن دونه؟!
فالغالب هو المكابدة والعناء،قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، وهذا العناء ملازم للانسان منذ صغره ثم ما يعانيه في كل مراحل حياته، كما قال المفسرون من السلف في عباراتهم.
بل إن لذّاتها لا تخلو من تعب يشوبها،وهي لا تُنال إلا بهذا؛ فالوصول للذّاتها عناء، والتمتع به يشوبه العناء ويخالطه، وإذا فرغ منه عاد لما عليه الدار من {كَبَدٍ}.
بل وبعد اللذات لا تؤمن الآفات، فمن طلب منها غير هذا طلب منها غير ما وضعت له، ولن يجده، فكل من فيها في مكابدة بحسبه، فلا تظنن في أحدهم غير هذا، ويكفيك قلقه من فناء ما في يديه.
إن كان الأمر كذلك فتلك المكابدة والعناء وما يشوب لذاتها وما يعقبها يوجب القلق منها كذلك، فيمِّم وجهك شطر دار تبقى، خلقت للنعيم خالصًا بلا شوب، وآمنة لا يعقب لذاتها ألم، ولم تخلق إلا للتنعيم، وارحل بقلبك، واسْع إلى ما فيه أمنك ونعيمك، وإلا فلا عقل لمن رضي بدار حقّرها خالقها وأمر بالهجرة منها، وترك دارًا عظّمها خالقها وأمر بالرحيل إليها.
إن لم يكفك هذا فثمة أيضًا ما يمنع الاطمئنان في هذه الدار.
يتابَع إن شاء الله تعالى.