ضابط عقوق الوالدين

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
ضابط عقوق الوالدين
 
مما قلَّت العناية به من الضوابط؛ ضابط (عقوق الوالدين)، ومعلوم ضرورة العناية بالمسألة، وتشقيق القول فيها؛ لقوة استفاضة العقوق في هذا الزمان، وجهل كثير من الصالحين وغيرهم بها، بل جمهور الناس يجهلون أو يتجاهلون، وكم عُصِيَ ربُّ العالمين سبحانه بهذا الباب العظيم؟!
 
هذا وقد صرح العلامة الكبير، سلطان العلماء؛ العز بن عبدالسلام في ((قواعد الأحكام)) (1/ 31) بتعذر ضبط مسألة العقوق بضابط؛ فقال: (ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق، على ضابطٍ أعتمد عليه...).
 
قلت: لقد يسَّر الله للعلامة المحقق الإمام ابن رسلان البلقيني الشافعي شيخ الحافظ أن يضربَ بسهم من هذا الضابط؛ فقال في تعليقه على قواعد العز (1/ 147) (يُضبط ذلك بوجوه:
أحدها: أن يقال: ما عُدَّ في العرف عقوقًا لهما، فهو عقوق.
 
الثاني: أن يقال: كل ما يؤذيهما مما يُتأذَّى به عادةً وتعدَّى به الولد، فهو عقوق.
 
وأخرجتُ بقولي: (وتعدَّى به الولد): طلبَه حَبسَهما في دَينٍ له! فإن من يحبسه الله، لا يعدُّه به عاقًّا لعدم تعدِّيه، وحيث منعْنا الولدَ السفرَ للجهاد ونحوه، فإنه مما تَعدَّى به.
 
الثالث: أن يقال: كل ما تلحقهما به مشقة ظاهرة مما يصدر من الولد باختياره لا يَحتمل مثلَهما الوالدان مما ليس حقًّا له، فإنه يكون عقوقًا)؛ انتهى من ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (1/ 147، 150).
 
قلت: وقد وجد - هذا الضابط - حظَّه من القبول، ونفع الله به خلقًا، وممن نقله عن مؤلفه العلامة ابن حجر الهيتمي في ((الزواجر)) له (2/ 115)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (8/ 164 ط.
دار ابن الجوزي)، وأشار إليه في ((الإعلام)) لابن الملقن (4/ 37)، ونحوَه في ((النجم الوهَّاج)) للدميري (5/ 571).
 
لكن الذي يجب التفطُّن له ها هنا؛ هو أن العلامة السراج البلقَيني - رحمه الله - أباح حبسهما بدَين الولد، ونسبَ الحكم في ذلك إلى ربِّ العالمين فقال: (وأخرجت بقولي "وتعدَّى به الولد" طلبَه حسبهما في دين له! فإنَّ مَن يحبسه الله، لا يعده به عاقًّا لعدم تعديه).
 
فهل يجوز حبسهما بدينِ الولد حقًّا؟
أولًا: لا ريب أن الإحسان إليهما فرض، كانا كافرين أو مسلمين، ولا ريب أنه لا يجوز أذيتهما بحال، كان بالقول أو الفعل، أو الإشارة، أو التأفيف، بل قال ابن العربي المالكي ((أحكام القرآن)) (428/ 1): بِرُّ الوالدين ركن من أركان الدين؛ انتهى.
 
وذكر العلامة ابن عطية الأثري في «تفسيره» المحرر الوجيز (13/ 15) ما نصه: (جملة هذا الباب: أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان.
 
وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندبية، ومنه أمر جهاد الكفاية، والإِجابة للأم في الصلاة مع إمكان إعادتها على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلاكها عليه ونحوه.
مما يحيي قطع الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب)؛ انتهى.
 
قلت: ومما ينسفُ القول بحبسهما بالدَّين؛ أنَّ ربَّ العالمين فرض الإحسان إليهما، فقال: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].
 
وإذا وجب الإحسان إليهما؛ فكيف بأذيتهما؟ وقد منعَ الله أدنى درجات الأذية فقال: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، وإذا كان مجرد قول (أف) باللسان لا يجوز؛ فكيف بتعريض الوالد للحبس الذي يتضمن الذل والأذية غايتهما، وربما جلب غضب الوالد على ولده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رضا الربِّ في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد))؛ رواه الترمذي (1821)، وحسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (516).
 
وقد توارد الأصوليون على الاستدلال بقوله: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ على المنع مما هو فوقه بطريق الأولى، وهو عين قياس الأولى، ومفهوم الموافقة، وفحوى الخطاب.
 
قال في المراقي:






143- وغير منطوق هو المفهوم
منه الموافقة قل معلوم


144- يُسمى بتنبيه الخطاب وورد
فحوى الخطاب اسمًا له في المعتمد


145- إعطاء ما للَّفظة المسكوتا
من باب أولى نفيًا أو ثبوتا


146- وقيل ذا فحوى الخطاب والذي
ساوى بلحنه دعاه المحتذي






 
قال إمام الحرمين - معلقًا على قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾-: فحوى النهي عن التأفيف يمنع ما يزيد عليه من التعنيف والضرب والإهانة؛ انتهى من ((البرهان)) (2/ 18).
 
وانظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/ 50)، و((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 127)، و((كشف الأسرار)) (3/ 338)، و((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/ 111)، و(نفائس الأصول)) للقرافي (5/ 2228)، و((البحر المحيط)) للزركشي (7/ 48)، و((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/ 482) وغيرها.
 
ثانيًا: الإنفاق على الوالد ليس بدين؛ بل هو فريضة حال كون الوالد فقيرًا، وكان الولد غنيًّا؛ فلا يجوز أن يجعل المال الذي يبذله الولد دَيْنًا مع فقر الوالد وغنى الولد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ))؛ رواه النسائي (2532) وحسَّنه الألباني.
 
وفي ((السنن)) لابن ماجه (2291) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك لأبيك)).
 
تنبيه:
هذا الحق للوالد محمول على الحاجة؛ لا أنَّ مالَ الولد للوالد كله؛ فـفي ((المصنف)) لابن أبي شيبة (4/ 518 ط.
الرشد) عن الزُّهْري رحمه الله قال: "ينفق الرجل من مال ولده إذا كان محتاجًا بعدما أنفق عليه".
 
وقال الخطابي ((معالم السنن)) (3/ 166) عند حديث: ((فقال: إن أبي اجتاح مالي))، قال: ((على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة، كما يأخذ من ماله نفسه، وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب، لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فإما أن يكون أراد به إباحة ماله وخلاه واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه، لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحدًا ذهب إليه من الفقهاء، والله أعلم)).
 
وعليه فإنَّ علة الدَّين لا تنهض لمقاومة عِلة العقوق؛ لذا فإنَّ القول الذي عليه جمهور العلماء؛ أنه لا يجوز حبس الوالد بدَين الولد، قال الكاساني في ((بدائع الصنائع)) (7/ 173): (لا يُحبس الوالدون وإن عَلَوْا، بدَيْن المولودِين وإن سَفُلوا؛ لقوله: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، وقوله تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83]، وليس من المصاحبة بالمعروف والإحسان: حبسُهما بالدَّين)؛ انتهى، وانظر: ((حاشية الدسوقي)) (3/ 281).
 
نتيجة البحث:
أولًا: الضابط هو عين الضابط الذي نصَّ عليه الإمام البُلْقَيني.
 
ثانيًا: لا يجوز حبس الوالد بدَين الوَلد.

شارك المقال

روائع الشيخ عبدالكريم خضير