سورة الكهف والتحذير من الفتن التسع
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
سورة الكهف والتحذير من الفتن التسعالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد:
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ»[1].
إن هنالك خمس سنن يحرص المؤمن عليها يوم الجمعة؛ أولها: الغسل؛ ثانيها: التبكير لصلاة الجمعة؛ ثالثها: الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ رابعها: الحرص على الدعاء وخاصة ساعة الإجابة؛ خامسها: قراءة سورة الكهف، والسؤال: لماذا سورة الكهف بالتحديد يقرؤها المؤمن يوم الجمعة؟؟
والجواب: لأن هذه السورة لمن يتدبر آياتها، تحذرنا من فتن تسع:
الأولى: الفتنة في الدين: لقد حذرت آيات سورة الكهف من الفتنة في الدين وضربت مثلًا بقصة أصحاب الكهف الذين نجاهم الله تعالى من الفتنة في دينهم هؤلاء الفتية الذين قال الله تعالى عنهم:﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ الكهف 13.
لقد ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ثلاثمائة سنة شمسية، وهو ما يعادل ثلاثمائة وتسع من السنوات القمرية وبعد هذه المدة الطويلة أحياهم الله عز وجل فتمسكوا بإسلامهم وتوحيدهم لله قائلين: لا إله إلا الله على الرغم من أن قومهم ضلوا وأشركوا بالله عز وجل ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ الكهف 15، فلم يفتنوا في دينهم، فتمسَّك بدينك مثلهم واقبض عليه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»[2]، فاحذر الفتنة في الدين؛ لأن أعظم المصائب أن يصاب المرء في دينه فاللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا اللهم أحينا بالإسلام قائمين وأحينا بالإسلام قاعدين وأحينا بالإسلام راقدين.
اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام.
الثانية: فتنة الصحبة: يقول عز وجل: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ الكهف 28.
إذًا هما نوعان من الصحبة النوع الأول نوع تقي مستقيم متصل بالله والنوع الآخر نوع منحرف ضال سادرٌ في غيِّه، متبع لهوى نفسه معرضٌ عن ذكر الله فاحذر من فتنة الصحبة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[3]، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»[4] وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ»[5].
الثالثة: فتنة النفس: يقول عز وجل: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ الكهف 29.
إن الله تعالى بهذا النص القرآني، أعطاك الاختيار فأنت ونفسك؛ إما أن تختار طريق الإيمان، وإما أن تختار طريق الكفر والضلال، فاحذر فتنة النفس، والله تعالى يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ الشمس 9-10.
الرابعة: فتنة المال: ويمثلها هذا الرجل الجاحد بنعمة الله صاحب الجنتين الذي كفر بنعمة الله، ولم يرد النعمة إلى المنعم سبحانه، وقال: ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ 35-36.
ورغم موعظة صاحبه له ونصحه المخلص إياه قائلًا له: ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ 37- 39، إلا أنه أصر على الجحود، فاحذر فتنة المال وأكثر من شكر الله على نعمه التي لا تحصى، وأدِّ حق الله فيها كي يبارك لك، عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمْرُو نِعْمَ المال الصالح مع الرجل الصالح"[6].
الخامسة: فتنة الدنيا: يقول عز وجل: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ الكهف 45، هذه من أعظم الفتن الدنيا بكل ما فيها من مال وبنين ونساء وجاه وسلطان.
إن كل هذا عرض زائل كالنبات الذي اصفر وجف وصار هشيمًا تذروه الرياح، فاحذر من فتنة الدنيا، فإنها متاع الغرور؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟»[7].
السادسة: فتنة الشيطان: يقول عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ الكهف 50.
إن الشيطان هو رأس الفتنة فاحذر هذا العدو اللدود، فإنه هو الذي فتن أبانا آدم حتى أخرجه من الجنة ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ الأعراف 27.
السابعة: الفتنة في العلم: وتحذر منها تلك الآيات التي تناولت قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع الخضر عليه السلام.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنَّ مُوسَى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ لِي عَبْدًا أَعْلَمَ مِنْكَ "[8].
فاحذر الفتنة في العلم ورُد العلم إلى الله وحده، واعلم أنه فوق كل ذى علم عليم لقد أمر الله تعالى موسى أن يرحل رحلة شاقة ليتعلم من عبد من عباد الله، ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ 65.
فلا تتحرج أن تقول عما لا تعلم: لا أدري، فقد سئل الإمام مالك عن أربعين مسألة فأجاب عن ست منها، وقال في أربع وثلاثين مسألة: لا أدري الله أعلم.
الثامنة: فتنة الملك: وتتمثل في تلك الآيات التي تناولت قصة ذي القرنين؛ حيث ملك الدنيا وهو أحد أربعة ملكوا الدنيا، مؤمنان هما: سليمان صلى الله عليه وسلم وذو القرنين وكافران هما: النمرود وبختنصّر يقول عز وجل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ 83، لم يُفتن ذو القرنين بملكه، وإنما تواضع لله ولما حُكّم في قومٍ من الأقوام وقيل له: ﴿ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ 86-88، لقد حقق العدل فضرب على يد الظالمين وأحسن إلى المحسنين.
التاسعة: الفتنة في العمل: يقول عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ 103-104.
إنها الفتنة في العمل وكم من إنسان ضل سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، وينشره في أوساط الناس ويجهر به عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَاةٌ، إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ "[9].
إن سورة الكهف بعد أن حذرتنا من هذه الفتن التسع، قدمت لنا الخلاصة للنجاة من هذه الفتن تلك الخلاصة التي خُتمت بها هذه السورة المباركة: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ الكهف 110.
هذا والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] المستدرك 2/ 399.
[2] البخاري 1/ 13.
[3] الترمذي 4/ 589.
[4] الترمذي 4/ 600.
[5] أحمد 11/ 126.
[6] ابن حبان 8/ 6.
[7] مسلم 4/ 2193.
[8] أحمد 35/ 43.
[9] مسلم 4/ 2291.