في ذكرى ميلاد المصطفى
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، الحمد لله ذي المُلك الذي لا يُرام، الحمد لله ذي العزة التي لا تُضام، الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ، وجَلَّ ثناؤُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ، نحمدُهُ - سبحانه وتعالى - علَى جودِهِ وإحسانِهِ ونسألُهُ الفوزَ بجنَّتِهِ ورضوانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ وصفيُّهُ وخليلُهُ، صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيدِنَا محمدٍ، وأُثنّي بالصلاة والتسليم على آله الميامين وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدين، وأرضى اللهم عن الخلفاء الراشدين الهداة المهدين سادتنا أجمعين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يقولُ - تعالى -في محكم التنزيل: (لقد جاءَكُم رسولٌ من أنفُسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّم حريصٌ عليكُمْ بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ).إخوتنا الأحبة: نحن في شهر مبارك، شهر رفع الله قدره، وأعلى شأنه؛ إذ أبدى وأهدى فيه للوجود نعمته السابغة، ورحمته الواسعة، بميلاد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنه شهر ربيع الأول، الذي فاضت فيه بحار الأنوار، بميلاد الحبيب المختار، فصار قدوم هذا الشهر في كل عام يُذكِّر بالرحمة المهداة، والنعمة المسداة، يذكرنا بميلاد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ذُكِرت الشهور فحيَّ على ربيعٍ الأول، ربيعِ النورِ والحياةِ، ربيعِ الحقِّ والهُدى، ربيعِ الجمالِ والجلالِ، ربيعِ المجدِ والخلودِ والبقاءِ، وإذا ذُكِرَت الأيامُ فحبَّذا يومُ الاثنين، وإذا عُدَّت الأوقاتُ فما أبهى طلعةَ الفجر ِ؛ لأنَّك يا سيدي يا رسولَ اللهِ وُلِدْتَ معَ الفجرِ وصدقَ اللهُ العظيمُ إذْ يقولُ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فهنيئاً لكم يا أمة الإسلام بهذه الذكرى العطرة، والمناسبة السعيدة، بل هنيئاً لكل العالمين بميلاد مَن بَعَثَهُ الله رحمة للعالمين، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين).
سَطَعَ الهُدَى وَتَهَلَّلَتْ أسْرارُ *** وسرَتْ بِمَكَّةَ يَوْمَها الأخبَارُ
وُلِدَ البشِيرُ مُحَمَّدٌ فِي أمَةٍ *** مِنْ بطْنِ يَعْرُبَ وَالبُطُونُ ثِمَارُ
كِسْرى وقيْصَرُ والمَمَالكُ زُلْزِلَتْ *** وتصدَّعَ البُنيانُ والأحْجارُ
ما عادَ ظلمٌ حيثُ أرْخَى نُورَهُ *** هذَا النَّبيُّ الخَاتَمُ المُختارُ
سَيَظَلُّ إِرْثكَ سَيدِي بِقلوبِنَا *** ودِماؤُنَا تَفديهِ والأبْصارُ
صلى عليكَ اللهُ خَير َمُوحدٍ *** أنْت َالشُّموسُ وحوْلَكَ الأقمارُ
أيُها المُسلمونَ: نعيشُ في هذا الشهر في نَسَمَاتِ خيرٍ، نعيشُ في لطائِفَ مُحمديةٍ نعيشُ في ذكرى ولادَةِ أحبِّ الخلقِ إلى اللهِ - تعالى -، نعيشُ في ذكرى ولادَةِ سيِّدِ الخلائِقِ العَربِ والعَجَمِ، نعيشُ في ذكرى ولادَةِ مُحمدٍ رسولِ اللهِ عليهِ صَلَوَاتُ اللهِ، فما أحلاها من ذكرى عظيمةٍ، وما أعْظَمَهَا من مُناسَبَةٍ كريمةٍ عمَّ بِها النُّورُ أرجاءَ المعمورةِ، ما أعظَمَهَ من حَدَثٍ حَوَّلَ تاريخَ الجزيرةِ العربيةِ من قبائل متناحرة مشتتة يفتك بعضها ببعض يتباهَوْنَ بالرذائِلِ والمحرَّماتِ يرفَعُونَ لواءَ الشركِ وعبادَةِ الأوثان حتى صارتْ الجزيرة العربية مهدَ العلم ِ والنُّورِ والإيمانِ ودولةَ الأخلاق والعدلِ والأمانِ بهديِ النبي ِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -.
يقولُ - تعالى -: (لقد جاءَكُم رسولٌ من أنفُسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّم حريصٌ عليكُمْ بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ)، هذا النبيُّ العظيمُ الذي سَعِدْنَا بمولِدِهِ وازدَدْنَا فَرَحَاً وأمناً وأماناً بأن كُنَّا في أُمَّتِهِ، هذا النبيُّ العظيمُ طوبى لمن التَزَمَ نَهْجَهُ وسارَ على هديِهِ والتَزَمَ أوامِرَهُ وَنَهْيَهُ، هذا النبيُّ العظيمُ الذي جَعَلَهُ ربُّهُ هادياً ومُبشراً ونذيراً وداعِياً إلى اللهِ بإذنِهِ سِراجاً وهّاجاً وَقَمَراً مُنيراً، وفي ذكرى مولِدِهِ - عليه الصلاة والسلام - لا بُدَّ لنا نستذكر صاحب الذكرى وفاءا له وردا للجميل من خلال ماذا؟ هل يكون ذلك من خلال الاحتفالات وإلقاء الخطابات فقط، لا، بل يجب أن يكون الاستذكار لصاحب الذكرى من خلال أمور عدة أذكر نفسي وإخوتي ببعض منها، فمن أهم هذه الأمور:
أن نتخلق بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - ونهتدي بهديه ونلتزم بسنته، تقول السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وتقول - رضي الله عنها - أيضاً في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خُيّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه أو عنه وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله - تعالى -.
هذا النبي العظيم كانَ ذا نُصْحٍ تامٍ ورأفَةٍ ورَحمةٍ ذا شَفَقَةٍ وإحسانٍ يُواسي الفُقراءَ وَيَسْعى في قضاءِ حاجةِ الأرامِلِ والأيتامِ والمساكينِ والضُّعفاءِ، كان من أشدَّ النَّاسِ تَوَاضُعاً وعفواً وتسامحاً وحلماً ورحمةً، أو ليس هو القائل عنه ربه - عز وجل - (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فما أعظَمَهُ من نبيٍ وما أحلاها من صِفاتٍ عَسَانا أن نَتَجَمَّلَ ونتحلى بصفاته الكريمة؛ لنكونَ على هديِهِ - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو النبي العظيم وهذه عينة من أخلاقه، أخلاقٌ إسلاميةٌ محمديةٌ ما أحوجنا في هذا الزمان للرجوع والتمسك بهذه الأخلاق هذا الزمان الذي ابتعدت فيه الأمة عن دينها وعن سنة رسولها، فانظروا ماذا حل بالمجتمعات العربية من فتن وفساد وتقتيل لابتعادها عن نهج وأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلنهذب أنفسنا ولنطهر جوارحنا ونربي أبنائنا على هذه الأخلاق المحمدية.
أما الأمر الثاني الذي يجب علينا أن نفعله استذكارا لصاحب الذكرى والاحتفاء بذكرى ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون بمحبته، فإنَّ محبةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يجب أن تكون فِي النفوسِ مغروسةٌ، وطاعتُهُ فِي القلوب ِ مطبوعَةٌ، فعلينَا أنْ نغرِسَ فِي نفوسِنَا ونفوسِ أبنائِنَا محبتَهُ - صلى الله عليه وسلم - وذلكَ منْ خلالِ التأسِي بصفاتِهِ وأخلاقِهِ ودراسةِ سيرتِهِ العطرةِ المباركَةِ وسيرةِ أصحابِهِ رضوانُ اللهِ عليهِمْ أجمعينَ، الذينَ ربَّاهُمْ، فصنَعَ منهُمْ خيْرَ أُمةٍ أُخرجَتْ للناسِ، وصدقَ اللهُ إذْ يقولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
أيها الأخوة: من فضل الله علينا أن من علينا ببركة هذا النبي العظيم فجدير بنا أن نحبه كل المحبة، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه ولده ووالده والناس أجمعين))، ولنعلم جميعاً إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَتْ شِعَاراً يُرْفَعُ، وَلاَ سِتَاراً تَخْتَفِي وَرَاءَهُ الْمَزَاعِمُ وَالدَّعَاوَى، إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَيَّدَةٌ بِضَوَابِطَ تَحْكُمُهَا، وَحُدُودٍ لِلشَّرْعِ تَحْفَظُهَا، وَأَقْوَى شَاهِدٍ عَلَى صِدْقِ الْمَحَبَّةِ: مُوَافَقَةُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ مَحَبَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم -: طَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ، فَالاِتِّبَاعُ هُوَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ الأَوَّلُ، قَالَ - تعالى -: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فطَرِيقُ مَحَبَّةِ اللهِ - تعالى -حُبُّ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلاَمَةُ حُبِّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ، بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فكُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ وهُوَ ليس عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ الْمُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ *** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
فيأيهَا المسلمونَ: لقَدْ كانَ مولدُ سيدِنَا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حدَثًا فريدًا فِي تاريخِ الإنسانيةِ، حيثُ غَيَّرَ مُجرياتِ التاريخِ، وكانَ بدايةً لنقلِ الناسِ مِنَ الظلماتِ إلَى النورِ، فعلينَا أنْ نُحافِظَ عَلَى هذَا النورِ بإتباع مَا أَمَرَ اللهُ - تعالى -بِهِ واجتنَابِ مَا نَهَى اللهُ عنهُ.
(وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليكَ يَا رسولَ اللهِ فِي الأولينَ والآخرينَ، وصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليكَ عددَ مَا خلقَ اللهُ فِي السمواتِ والأرضينَ، حيثُ رفعْتَ لواءَ العدلِ ومحوْتَ الظلم َ وحققْتَ الإخاءَ والمساواةَ بيْنَ الناسِ أجمعين، ساويت بين بلال الحبشي وعمر القرشي، الأمرُ الذِي عجزَتِ البشريةُ عنْ تحقيقِهِ عبْرَ القرونِ، لأنَّكَ الرحمةُ المهداةُ والهدايةُ لخلقِ اللهِ أجمعينَ، بُعِثْتَ لِتُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ، حيثُ خاطبَكَ ربُّكَ - سبحانه وتعالى - بقولِهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
أمة الإسلام: يحق لنا أن نفرح بمولده - صلى الله عليه وسلم -، ويجب علينا أيضاً أن نتبع سنته ونعمل بما جاءنا به، وينبغي أن تلهج ألسنتنا دائماً بالصلاة والسلام عليه، ولن يرضى عنا الله ورسوله إلا عندما نصلح أنفسنا ونرجع لربنا ونتَرْكَ المعاصي والآثام والذنوب ونحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا من لا يغفل عن أي كبيرة أو صغيرة، ونترك التَّخَاصُمِ في الدنيا وَالتَّعَادِي مِنْ أَجْلِهَا، فَكَمْ غَرَّتْ مِنْ رِجَالٍ، وَبَدَّلَتْ مِنْ أَحْوَالٍ! وَجَلَبَتْ مِنْ أَهْوَالٍ! فلاَ تَسْتَقِيمُ نَفْسُ الْمَرْءِ مَا دَامَتْ إِلَى الدُّنْيَا تَوَّاقَةً مُقْبِلَةً، وَعَنِ الآخِرَةِ مَشْغُولَةً مُدْبِرَةً، اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِ نَفْوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا.وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه صلاة وتسليما كثيرا إلى يوم الدين.جامعة العلوم الإسلامية العالمية كلية الشيخ نوح القضاة للشريعة والقانون.
عبد الناصر جابر الزيود