أرشيف المقالات

نزاهة القضاة...!

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
1

- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـرحمه الله تعالى-: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله).

و قال الله عز وجل وهو يقص علينا قصة داود عليه السلام: {...
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ .
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ .
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ .
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ .
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ}
[ص: 17ـ 22].

فالله عز وجل بين فضل نبيه داود وأنه أعطاه ملكاً، وسخر معه الجبال والطير وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، تلك نعم الله تعالى أعطاها لداود عليه السلام، ثم عرض لنا مشهداً من مشاهد حياته وموقفاً من مواقف دعوته، إذ تسور خصمان المحراب في وقت خلوته بربه وعرضا عليه قضيتهما متكلماً أحدهما دون الآخر، فسارع وبادر داود عليه السلام إلى الحكم والفصل بينهما بعد انتهاء أحدهما من عرض قضيته وبذل مرافعته وإقامة حجته دون أن يسمع مرافعة الآخر الذي ظل ساكتا لم يتكلم..!

ومن أمثلة العرب عن العدل:
- "إذا أتاك أحد الخصمين وقد فُقِئَتْ عينه فلا تقض له حتى يأتيك خصمه فلعله قد فُقِئَتْ عيناه".
فعلمه الله وكل من جعله الله على القضاء من بعده مبدأ مهما جدا وقانوناً في العدالة والنزاهة فقال سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].

يبين الله لنا في هذه الآيات الكريمات الجليلات المباركات البينات أن القضاء تكليف أكثر منه تشريف فالجعل هنا فيه التمكين والتشريف، ولكنه ليس تشريفأ مطلقاً لا كلفة فيه، بل الكلفة فيه أكثر من الشرف فالمساءلة واقعة من الله للعبد المسؤول، والحساب عليها أمام الله عز وجل، فقد يفر المرء من عقوبة الدنيا ومن مساءلة الدنيا بسبب تفشي الظلم وانتشار الفحش، واعتلاء كلمة الفساد واهتزاز راية الحق حيناً من الزمان، غير أن العدل الذي تولى الله عز وجل أمر إقامته وأمرنا به هو الذي تبقى كلمته في النهاية، وترفرف رايته على الناس جميعاً شاء من شاء وأبى من أبى.

انظر إلى التحذير الرباني الواضح المباشر لداود عليه السلام بعد هذا التشريف بجعله خليفة في الأرض، وهو يعلمه ويخبره بمقتضيات الرسالة والوظيفة القضائية: { فاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ففرق الله عز وجل بين الحكم بالحق الذي هو الثابت المستقر وفق الأدلة والأوراق والوقائع الظاهرة الدلالة على اتجاه الدعوى، وبين الهوى الذي قد يسول للقاضي أن يخالف الحق لينصر الظالم ويقهر المظلوم فتكون النتيجة: {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وبين له العاقبة المترتبة على الضلال عن سبيل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.

وتلك ميزة وخصيصة لها قيمتها في الإسلام وهي الاقتران الدائم بين العمل الدنيوي والجزاء الأخروي، فدائماً ما ترى الإسلام يخاطب العبد بما يفرضه من أوامر ونواهٍ وتوجيهات، وزواجر وهو يحثه على فعل هذه واجتناب تلك، وفي نفس السياق يجعل المثوبة مرتبطة ارتباطاً وثيقة بنداء الإيمان أو العبودية لله رب العالمين والمثوبة الأخروية، ويا لها من خصيصة تجعل القلب يفيق مهما غيبته الدنيا وألهته الشهوات وغيبته المغريات، فتراه يعود أدراجه إلى حيث النبع الأصفى والنهج الأوفى، والدرب الأسلم والصراط الأقوم، فيالسعادة من هداه الله إلى الحق فرشد، ويالخسران الآخر الذي ضاع وفُـقِد.

هذه هي الفاصلة الفارقة بين إنسان وآخر {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} قد يفلت الظالم من عذاب وعقوبة الدنيا وينجح في طمس أدلة إدانته، وقد يساعده على ذلك منصبه وحاشيته وحشمته، وزبانيته وأعوانه من الطغاة الذين لو وقع هو وقعوا هم بوقوعه، لكن العاقبة والعقوبة الأخروية لا فرار منها ولا فكاك.

وتلك مسألة مهمة ألا وهي المراعاة ليوم الحساب الذي قال الله عز وجل عنه وهو ينكر على المطففين: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ .
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ .
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
[المطففين: 4ـ 6].

سؤال مهم ينبغي أن يوجه إلى المشير طنطاوي، والمجلس العسكري وللنائب العام، والقضاء الذي ربما يبطل الحق ويعلي كلمة الباطل: "ألا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ ألم تأخذوا لكم عبرة مما جرى لطاغية تونس وطاغوت ليبيا، وفرعون مصر لتكون نوراً يهديكم به الله عز وجل إلى إقامة العدل ورفع الظلم ومنع الفساد، وإيقاف الطغيان الذي لا يزال مستمراً؟

ألم تسمعوا مرة واحدة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما.
فلا تظالموا.
يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته.
فاستهدوني أهدكم» (رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-).

تنتشر كلمة وعبارة أرفضها بشدة ويرفضها كل عاقل واع: "نحن نثق في نزاهة القضاء المصري"
وكأننا قد اعتدنا وتمرسنا صناعة الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل، والتي هي مجرد مخلوقات لا حول لها ولا قوة، أو ليس القاضي هو بشر معرض للخطأ والنسيان والزلل الخيانة؟

أو ليس مجرد بشر تعتريه الرعشة ويتملكه الخوف على حياته وأبنائه ومنصبه، بما قد يجعله يميل على المظلوم ليمرر للظالم ويفتح له السبيل إلى البراءة والخروج مطمئناً من التهمة التي يعلم يقينا ويعلم القاضي والمجتمع كله أنه لم يرتكبها أحد سواه، وكأني بالذين يلوكون هذه العبارة متشدقين بها قد جهلوا تلك الآيات السابقة التي تقرع الآذان المصغية والقلوب الواعية والأفهام النابهة والعقول الناضجة.

أما الخصوم فقالوا لداود قبل أن يعرضوا عليه مظلمتهم: {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ..} ما قيمة وفائدة هذا القيد الذي ذكره الخصم إذ تسوروا عليه المحراب قبل أن يعرضوا عليه مظلمتهم، إلا إذا كان ذكره من باب التذكير والتحذير والحث على الحكم بالحق وعدم الميل لأحدهما على الآخر دون مسوغ مقبول.

وهذا توجيه رباني آخر وكأنه قد جاء بمثابة التأكيد والإقرار الرباني لما قرره الخصم ابتداء: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} توجيه وتحذير لداود ولكل من جعله الله عز وجل على منصة القضاء ليفصل في الخصومات، ويقضي في الحقوق والأعراض والدماء: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ..}.

ماذا عساها تكون قيمة هذا التوجيه والتحذير والقيد في الآية لو كان القاضي نزيهاً على طول الخط وغير محتمل منه -كبشر على الأقل- أن يحيد أو يجور أو يظلم عامدًا مختارًا أو مجبرًا مكرهًا؟
لماذا نصنع نحن آلهة العجوة لنعبدها من دون الله ونحن عارفون بأننا نحن من صنعناها؟
أو ليس قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضي في الجنة، قاضي قضى بالهوى فهو في النار، وقاضي قضى بغير علم فهو في النار، وقاضي قضى بالحق فهو في الجنة» )صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر، وصحيح الترمذي من حديث بريدة، وصحيح لغيره في صحيح الترغيب من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عن الصحابة أجمعين-).
ورحم الله علماءنا ومشايخنا ونفعنا بعلومهم في الدارين آمين.

إذا كان هذا هو قول النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم، فما هي قيمته وما هي علته وما هي فائدته وثمرته إذا لم يكن لهذا التقسيم والتنويع الذي ذكره، إذا لم يكن له على أرض الواقع وجود ولا حدوث؟

وهل خلت الوقائع التي مرت ولا زالت تمر بنا في شتى بقاع الأرض من أمثلة على الفساد في القضاة سواء كان ذلك متعمداً لميل القاضي ابتداء إلى كفة أحد الخصوم على حساب الآخر أو الآخرين، أو كان نتيجة توجيهات عليا وتكليفات سيادية تأمر بتحديد اتجاه سير الدعوى أو القضية في اتجاه معين لحماية مصلحة أخرى أهم وأولى، وأحرى بالرعاية من وجهة نظر صاحب الجناب العالي أو المقام الرفيع.

أو ربما كانت بسبب قبول القاضي المكلف بالحكم في تلك القضية بعينها أو الفصل في تلك الخصومة بحدها رشوة من أحد طرفي النزاع أو الخصومة، أو رضوخه أو وقوعه تحت تهديدات في نفسه، أو ماله أو عياله، أو توريطه في فضيحة أو وكسة مالية أو أخلاقية تهدد سمعته؟

ولعل ما نراه واقعاً من تلك المسرحية الهزلية التي يسمونها محكمة النظام الفاسد المصري، وما هي إلا مسرحية ساخرة ساذجة يظنونها تنطلي على عقول المصريين، لعل فيها شاهدا حاضرا على ما ذهبت إليه وقدمته من طرح لفكرتي التي أستمدها من القرآن والسنة الصحيحة.

كما لا يفوتني أن أذكر تلك المحكمة الظالمة الجائرة للشيخ أبي يحيى ومن هم على شاكلته من المظلومين المقهورين الذين أخذوا ظلماً وعدواناً وقهراً وطغيانا، ولم تسمع أقوالهم ولم تبث في حقهم
أية أدلة ولا قرائن تفيد أنهم مذنبون اللهم إلا استجابة الطغاة الظالمين لأهواء المتطرفين من النصارى وزبانية أمن الدولة الذين أعمت قلوبهم وأفقدتهم عقولهم تلك الثورة التي خرجت لتقول للظلم والطغيان: حسبك فارحل!

وما حادثة العبارة اللعينة -عبَّارة الموت- منا ببعيد وكيف أصبح مالكها بريئاً وهو الذي قتل أكثر من ألف نفس -كالرجل من بني إسرائيل- غير أننا لم تصلنا أنباء عن توبته كما تاب رجل بني إسرائيل!

يحصل لنا من هذا كله أن القاضي ما هو إلا بشر من بني آدم يصيب ويخطئ، يعدل ويظلم، يستقيم وينحرف، ويهتدي ويضل، يتقي ويفسق ويفجر، فلا تجعلوا منهم آلهة تعبد من دون الله ولا أنبياء تضرب لهم العصمة فإنما دفنت العصمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأنا لا أشكك أبداً في نزاهة القضاء عموماً، وإلا فأنا لي أصحاب ومعارف وزملاء وإخوة أحترمهم وأجلهم من القضاة وأعضاء النيابات المختلفة والضباط، غير أني أتكلم على شئ من الواقع الذي ينبغي ألا نهمله أو نغض أبصارنا عنه وهو واضح جليٌّ، بل علينا إذا أحسن القاضي أن نشكر له إحساناً معترفين له بالنزاهة وإذا أساء أن نعلنها صريحة لا خفاء فيها وأن ننصح له وأن نرد إساءته ولا نستسلم لها، وإلا فما علة رد المحكمة ومخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، وما قيمة التفتيش القضائي وعزل القاضي في هذا الجانب؟

مطلوب أن نبث الثقة والطمأنينة في نفوس الناس تجاه القضاء والقضاة نعم، لكن أن نمتدحهم حتى ننسى أنهم بشر فهذا ما يرده ما سبق ذكره من آيات وأحاديث ووقائع لا ينكرها عاقل ولا يجحدها منصف، والتي أضيف إليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-).

وختاماً أقول شيئاً مما قالت العرب:
- الحق دولة والباطل جولة.
- العدل أساس الْمُلْك.
- من عَفَّ عن ظلم العباد تورعًا جاءته ألطاف الإله تبرعا.
- هي النفس ما حَمَّلْتَها تتحمل وللدهر أيام تجور وتَعْدِلُ.


ابن الأزهر ومحبه: أبو أسماء الأزهريّ
كارم السيد حامد السرويّ (إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية)
[email protected]
[email protected]

 


شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣