أرشيف المقالات

خواطر من عرفات

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
1

عرفات يا رمز الأمة، والرسالة! عرفات كم وقفت بساحك جموع، وسالت على ثراك دموع، وتعارف على راحتيك الناس، وذابت في محيطك الأجناس، وبورك منكسر ورُدَّ شديد المراس.
كم تعانقت فوقك قلوب، وفرجت على ثراك كروب، ومحيت أوزار وذنوب.
كم امتزجت فيك دموع المذنبين، وتعانقت أصوات المستغفرين، وتوحدت رغبات الراغبين..
كم تجردت فيك النيات، وسالت على جنباتك العبرات، وخشع أهل الأرض لخالق الأرض والسموات.

أيها المسلمون: كم تغلي قلوب أعدائكم حقدًا!! وكم عضَّوا أناملهم غيظًا وحسدًا!! {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة 105] .
هم يريدون أن يقطعوا دابر الدين كي تخور القوى، ويُتَبع الهوى، وتَعُمُّ البلوى.
كي لا يعز دين، ولا يقوى يقين، ولا يتم تمكين.
كيف يُضْحِي بأسنا بيننا شديدًا.
وأملنا في العودة إلى المنبع الرائق بعيدًا.


أيها الأحباب: إن الذي أمركم بالتلبية فلبيتم، وبالحج فحججتم، وبالوقوف هنا فوقفتم هو الذي قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
وتسلحوا لهم بالتقوى فمن أراد غنى بغير مال، وعزًا بغير جاه، ومهابة بغير سلطان فليتق الله.
فإن الله -عز وجل- يأبى أن يذل إلا من عصاه.

وتذكروا جيدًا وصية نبيكم منذ ألف وأربعمائة عام يوم النحر في منى وهو يقول ويقرر، ويوصي ويحذر: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم.
ألا هل بلغت؟»
قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد.
فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع.
فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»
[رواه البخاري].

فاذكروا ذلك جيدًا -واعلموا أن الأمة التي تعمل بالمعاصي وتحيد عن أمر الله تسقط وتنهار، ولستم والله أفضل من سعد بن أبي وقاص -بطل القادسية المبشر بالجنة، السابق إلى الإسلام- ومع كل ذلك هذه وصية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- له وهو متأهب للمسير إلى القادسية حيث قال له: (يا سعد‍‍!)، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله.
فإن الله -عز وجل- لا يمحو السيء بالسيء، ولكنه يمحو السيئة بالحسنة، يا سعد! إن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته.
فالناس جميعًا شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.
الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالتقوى، ويدركون ما عنده بالطاعة)، فكونوا -رحمكم الله- على المؤمنين قلوبًا صافية، وعلى أعداء دينكم أسودًا ضارية.


أنسيتم أيها الأحباب غضبة رسولكم حيث أقسم ألا يبيت اليهود بالمدينة وقد أنجز ذلك، أنسيتم غضبة الهادئ الوديع الساكن أبي بكر حين زمجر وقال: (والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه).

أنسيتم غضبة نور الدين حينما وقع الأقصى أسيرًا في أيدي الصليبية فظل حزينًا عابسًا ولما سأله سائل: (لم لا تضحك؟) قال: (أستحي من الله أن أبتسم والأقصى أسير في أيدي الأعداء!!) والآن أيها الأحباب متى تُحَركُنا مصاحف تُحرق، ومساجد تُهْدَم، وأعراض تُنْتَهَك، وأطفال أطهار يداسون بالأقدام، ودموع في عين القدس وكشمير والبوسنة والهرسك وارتيريا والصومال وغيرها.

رُبَّ وامعتصماهُ انطلقت مِلءَ أفواهِ الصبايا اليُتَّمِ لامستْ أسماعَهُمْ لكنَّها لم تلامِسْ نخْوةَ المعتصم نريدها أمة جادة في القول والعمل، إن قالت فبعلم، وإن سالمت فبعلم، وإن حاربت فبعلم، وإن قررت فبعلم، ليست عابثة، ولا لاهية، ولا غافلة.

يقول يحيي بن معاذ -رحمه الله-: (القلوب كالقدور تغلي في الصدور، ومغارفها ألسنتها.
فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، من بين حلو وحامض وعذب ومالح.
يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه).


روى البخاري عن عدي بن حاتم الطائي -رضي الله عنه- قال: (وفدت في وفد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فجعل يدعو رجلًا رجلًا ويُسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى!! أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عدي: فلا أبالي إذًا).
فهذا رصيده وهذا مناط فخره، ورأس ماله، وقوام شخصيته.

إن الهمم العالية لا ترضى بالدنئ ولا تقنع إلا بمعالي الأمور: قلت للصقر وهو في الجو عال اهبط الأرضَ فالهواء جديبُ قال لي الصقر: في جناحي وعزمي وعنانِ السماءِ مرعىً خصيبُ وهذا المرعى لا شك يجهله الأرضيون، حيث ثقلة الأرض ومطامع الأرض.
وتصورات الأرض، ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ، والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة والراحة والاستقرار:
أتُسبى المسلمات بكل ثغرٍ *** وعيش المسلمين إذن يطيبُ؟
أما لله والإسلام حقُّ *** يدافع عنه شبانٌ وشيبُ؟
فقل لذوي البصائر حيث كانوا *** أجيبوا اللهَ وَيْحَكُمُ أَجِيبوا
 


شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير