(4) في صحبة القرآن - رمضانيات: محمد علي يوسف - محمد علي يوسف
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
الإنسان مخلوق اجتماعي ودود.. هذا هو الأصل، ربما توجد لهذا الأصل بعض الاستثناءات، لكن في الغالب لا يخلو إنسان من مودةٍ أو أُلفةٍ تجمع بينه وبين إنسانٍ آخر، أو مجموعة من البشر و«لا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ» كما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وتتنوَّع العلاقات الإنسانية تنوعًا كبيرًا وتتباين التفاعلات بين البشر تباينًا واسعًا، ولا يكاد يخلو امرؤٍ من العديد من تلك العلاقات والمعاملات المختلفة..
فما بين معرفة سطحية وعلاقات عابرة قصيرة وزمالات عملية وبين صداقات حميمة وترابطات وثيقة تجمع بين المرء ومن حوله - يظهر ذلك التباين والتعدُّد بشكلٍ واضح..
وقد يزامل المرء في حياته أناسًا كُثرًا..
وقد يتعارف على أناسٍ أكثر..
وقد تتسع دائرة معارفه لدرجة لا تمكنه من تذكر أسماء كثير منهم حين يقابلهم..! لكن قليلًا منهم من يستحق أن يقول عنه المرء: "صاحبًا".
صاحبك هو هذا الشخص القريب من قلبك، هو ذلك الإنسان الذي تعرفه جيدًا، تعرف صفاته ومميزاته، تدرك خصائصه وطباعه، تجمع بينكما ذكريات وأحداث، وتشتركان في همومٍ وشجونٍ ولحظاتٍ سعيدةٍ وأحزان..
صاحبك هو ذلك الذي تُكِنُّ له مشاعر وتحمل له في قلبك مودة صادقة وامتنان، إذا ذُكِر أمامك سرعان ما تعتمل في صدرك هذه المشاعر وتتأتى إلى ذهنك تلك الخصائص وتقفز إلى مخيلتك بعض من تيك الذكريات، إن غاب عنك استوحشت وإن طال فراقكما إليه اشتقت وإن جاء موعد اللقاء به سُرَّ قلبك وفرحت، تلك هي الصحبة وذاك هو الصاحب الحقيقي..
فكِّر لوهلةٍ وسل نفسك: كم من معارفك تستطيع أن تصفه بذلك الوصف وأن تنطبق عليه معاني تلك الكلمة؟ كلمة صاحب..
الكلمة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عنوانًا ووصفًا لعلاقتك بما أنزل عليه من ربه..
القرآن..
- «اقْرَؤوا القرآنَ، فإنه يأتي يومَ القيامة ِ شفيعًا لأصحابه» (رواه مسلم).
- «اقرَؤوا الزَّهرَاوَين: البقرةَ وسورةَ آلِ عمرانَ، فإنهما تأتِيان يومَ القيامةِ كأنهما غَمامتانِ، -أو: كأنهما غَيايتانِ-، -أو: كأنهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ-، تُحاجّان عن أصحابهما» (رواه مسلم).
- «يجيءُ صاحبُ القرآنِ يومَ القيامةِ فيقولُ القرآنُ: يا ربِّ حَلِّه فيلبسُ تاجَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ زِدْه فيلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنه فيرضَى عنه فيُقالُ: له اقرأْ وارقَ ويزدادُ بكلِّ آيةٍ حسنة» (رواه المنذري في الترغيب والترهيب، وصحَّحه الألباني ).
- «إِنَّ القرآنَ يَلْقَى صاحبَهُ يومَ القيامةِ حينَ يَنْشَقُّ عنهُ قَبْرُهُ كَالرجلِ الشَّاحِبِ يقولُ: هل تَعْرِفُنِي؟ فيقولُ لهُ: ما أَعْرِفُكَ، فيقولُ: أنا صاحِبُكَ القرآنُ، الذي أَظْمَأْتُكَ في الهَوَاجِرِ، وأَسْهَرْتُ لَيْلكَ، وإِنَّ كلَّ تَاجِرٍ من ورَاءِ تِجَارَتِه، وإِنَّكَ اليومَ من ورَاءِ كلِّ تجارةٍ»، قال: «فَيُعْطَى المُلْكَ بِيَمِينِهِ، والخُلْدَ بِشِمالِهِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تَاجُ الوَقَار، ويُكْسَى والِدَاهُ حُلَّتَيْنِ، لا يَقُومُ لهُما أهلُ الدنيا ، فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِينا هذا؟ فيقالُ: يأخذُ ولَدُكُما القرآنَ، ثُمَّ يقالُ: اقرأْ واصْعَدْ في درجِ الجنة ِ وغُرَفِها، فهوَ في صُعُودٍ ما دَامَ يقرأُ حدْرًا كان أوْ تَرْتِيلًا» (حسَّنه الإمام ابن حجر العسقلاني، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة).
- «إنما مَثَلُ صاحبِ القرآنِ كمثلِ الإبلِ المعَقَّلَةِ إن عاهد عليها أمسكَها، وإن أطلقها ذهبَت» وفي رواية: «وإذا قام صاحبُ القرآنِ فقرأه بالليلِ والنهارِ ذكرَه وإذا لم يَقُمْ به نسِيَه» ( صحيح مسلم ).
- «يُقالُ لِصاحِبِ القرآنِ: اقرأْ وارْتَقِ، ورَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدنيا، فإنَّ مَنْزِلَتَكَ عندَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأُ بِها» (السلسلة الصحيحة).
تأمَّل...
«يُقال لصاحب القرآن»..
«شفيعًا لأصحابه»..
«تُحاجَّان عن صاحبهما»..
«أنا صاحبك القرآن»..
كلماتٌ ذات أصل مشترك تكرَّرت في تلك الأحاديث التي ذكرتها في السطور السابقة..
صاحب، أصحابه، صاحبهما، صاحبك..
إنها الصحبة إذن!
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة تحديدًا -وهو الذي أوتي جوامع الكلم- ليصف بها ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بينك وبين القرآن..
علاقة صحبة! صحبة بكل ما تشمله الكلمة من معان وخصائص وأركان..
صحبة كلية للقرآن بأكمله فلا يكاد يفارقك ولا ترتاح ولا تأنس إلا معه وتسعى جاهدًا لاقتناص كل وقت تمضيه برفقته..
وصحبة جزئية ومعرفة موضوعية لسوره المختلفة..
حينَ ولَّى بعض الصحابة مدبرينَ يوم حنين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمّه العبَّاسَ فَناداهم: "يا أصحابَ الشَّجرةِ" -يعني أَهْلَ بيعةِ الرِّضوانِ- وفي روايةٍ: ناداهم "يا أصحابَ سورة البقرة ِ" ينشِّطَهُم بذلِكَ فجعلوا يُقبِلونَ من كلِّ وجهٍ (صحَّحه العلامة أحمد شاكر في مقدمة عمدة التفاسير).
تأمَّل قوله: "يا أصحاب سورة البقرة"..
لقد شرَّفهم بهذا النسب بعد نسب لتلك البيعة العظيمة -بيعة الرضوان- ويا له من شرف..
أن يُنسب المرء لسورة من سور القرآن وأن يُلقَّب بأنه من أصحابها..
أيُّ درجة من المعرفة والقرب تلك التي بلغها ليصل إلى هذا المقام - مقام الصحبة..
الصحبة الشاملة والنظرة الموضوعية العامة التي تربط بينه وبين كل سورةٍ من سور القرآن، والتي تعد توطئةً وتمهيدًا للمعرفة العميقة التفصيلية بمعاني آياتها وإدراك أحكامها وتوجيهاتها..
فهذه السورة لها في قلبه وقعٌ مألوفٌ محبَّب وتلك السورة يجد لها في نفسه حنينًا واشتياقًا، أما السورة الثالثة فيخفق قلبه رهبةً عند تدبُّر آياتها، وعن تلك السورة الرابعة التي يسارع لقراءتها حين تدلهم به الخطوب ويبتغي تثبيتًا لفؤاده ومواساة لجنانه..
فحدِّث ولا حرج أما هذه الآية فعلى قصرها إلا أن روحه تسمو وتهفو رجاءً كلما تليت عليه..
وهكذا يتنقل الصاحب مع صاحبه..
يقف مع آيةٌ من آياته أو قصةٌ من قصصه أو مثلٌ من أمثاله الجامعة المانعة..
يستطرد حول المعاني، ويطوف في ظلال المشاعر، ويرفل في نعيم المبادئ التي تبث من خلال مجاورة هذا الصاحب العظيم..
يعيش مع أبطال قصصه وتتوطَّد علاقته بهم فيحزن لحزنهم وتتهلَّل أساريره لفرحهم..
ويواجه معهم الظالمين والطغاة ويصدع معهم بكلمات الحق التي قذفوها في صدر الباطل..
يبحر مع نوح ويسمو بروحه في ملكوت السماء مُتدبِّرًا مع إبراهيم..
يصبر مع أيوب، ويسبح مع داود، ويصمد مع الغلام في وجه صاحب الأخدود..
يتزلزل فؤاده مع المؤمنين في مواجهة الأحزاب يوم الزلزال الشديد، ثم ينشرح صدره وهو يطالع نبأ النصر المجيد، والرعب الذي تصدعت به نفوس المشركين..
يتنقل من مشهدٍ إلى آخر ومن قصةٍ إلى أخرى ويدور مع المعاني والأمثال حيث دارت..
كذلك يجد صاحب القرآن العارف بآياته المحب لكلماته وقعًا ومشاعر وآثارًا كلما تفاعل مع سوره ومرَّ بأجزائه وأحزابه..
ويكأنه يسمع قعقات المعركة وصليل السيوف مختلطًا بصهيل الخيل..
وهو يصحب سورة الأنفال ثم يرتجف قلبه غضبًا لربه وهو يطالع جرائم المنافقين في سورة التوبة ..
يوجل قلبه تعظيمًا وإجلالًا لربه إذا رتَّل سورة الأنعام..
ويذوب فؤاده شوقًا لمولاه المنَّان وهو يتلو سورة الرحمن ..
مجيبًا لسؤالها المتكرِّر وصائحًا من أعماق قلبه وإن لم يسمع الخلق بلسانه: "لا بأي من آلائك نُكذِّب ربنا ولك الحمد"..
يزداد حمده وشكره وامتنانه وهو يطالع نعم الله وآلائه في سورة النحل..
ثم ترتعِد نفسه خوفًا وطمعًا وهو يتلو سورة الرعد..
ينبهر بعدل الشريعة وإحكام إنصافها وهو يقرأ سورة النساء ..
ثم يعاهد الله على الوفاء بعقود سورة المائدة ومواثيقها، وتعلو هِمَّته ويزداد يقينه وهو يتأمَّل تلك المفاصلة الخالدة بين أئمة الحق وسدنة الباطل في سورة إبراهيم..
ويعجب لذلك اللطف الجميل في سورة يوسف ويزداد انبهارًا بفتوحات الله تُفرج الكروب عن موسى في سورة القصص ..
ثم يلين قلبه حين يغمره ضياء سورة النور ..
ويذرف الدمعات الخاشعات وهو يتأمَّل شكوى حبيبه في سورة الفرقان {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
هل وجدنا مثل ذلك في علاقتنا بكتاب ربنا؟
هل هي علاقة وثيقة تستحق بالفعل أن يُطلق عليها وصف الصحبة الراسخة والأنس الجميل؟
هل صاحبنا القرآن؟
هل صاحبنا سوره؟ أو حتى بعض سوره؟ بل هل صاحبنا سورةً واحدةً منه؟
هل نستحق أن يقال لنا يوم نرجع إلى الله هلِمُّوا يا أصحاب القرآن؟
ما أريد بتلك السؤالات السابقة ومن قبلها ذلكم العرض الموجز لنماذج من الأنس بالقرآن والتعرُّف المجمل على سوره..
أن أضع تصورًا مثاليًا يصعب الوصول إليه أو يغرس الإحباط في نفس من لم يجد في نفسه تلك الأصداء والتفاعلات ولكنه مجرَّد لفت لانتباهك عزيزي القارئ..
لفت لانتباهك أن هناك آفاقًا أخرى للتعامل مع كتاب الله..
ليس على أنه فقط مصدر لجلب الحسنات وجمع المثوبات -وأكرم بها من قيمة- ولكنه روح..
نعم..
الله جل وعلا ذكر أن الوحي المنزَّل هو روحٌ من أمره..
ما أعظم الاسم وما أعجب الوصف..
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور} [الشورى:52-53].
لقد وُصِفَ القرآن بأوصافٍ كثيرة ونعوت بليغة..
فهو النور المبين، وهو البيان والتبيان، وهو الشفاء والرحمة للمؤمنين، وهو الهدى والفرقان بين الحق والباطل، وهو أحسن الحديث والموعظة والبلاغ...
وغيرها من الأسماء والأوصاف التي وصف الله بها كتابه العزيز وسمَّاه بها، لكن تسميته بالروح لها قيمة مختلفة بلا شك..
لها دلالة تحتاج إلى وقفات ووقفات..
الروح هي أصل وسِر تلك الحياة التي تنبض في العروق، والبريق الذى يلتمع في العيون، والحركة التي يختلج بها القلب ، والحرارة والحيوية التي تسري في جسد الحي، ومتى ما نُزِعت خبا كل ذلك وصار جسدًا يابسًا باردًا لا حياة فيه..
ولا روح..
لقد اختار الله لوحيه المنزل أن يُطلق عليه نفس الاسم الذي يُطلق على سِرّ الحياة..
ويكأن القلوب من دون القرآن ميتة، والنفوس من دون القرآن يابسة متجمدة، والفكر من دون القرآن بارد ساكن..
باختصار..
مؤمنٌ من دون قرآنٍ عبارة عن جثةٍ مُتحرِّكةٍ وجسدٍ خاوٍ..
خاوٍ من الروح..
هل نظرت من قبل للقرآن هذه النظرة؟ هل تفاعلت معه من هذا المنطلق؟
هل تعاملت مع كتاب الله على أنه روح تحتاج إلى أن تبث في قلبك وأن تسمو بها نفسك وتسري حيويتها في أوصالك، فتمشي بها بين الناس لتكون ممن قال الله فيهم: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام من الآية:122].
نحتاج أيَّما حاجة لأن ننظر إلى القرآن هذه النظرة، وأن نتعامل معه من منطلق مختلف عن منطلق كثير من الناس الذين لا يتعاملون معه إلا كترانيم لا يفقهونها..
أو كوسيلة لتحصيل الثواب هي -مع حسن مقصدها- تظل هدية وكم من أناس شغلتهم الهدايا عن الوصايا والفروع عن الأصول وتحصيل الثواب عن استيعاب المنهج والتوجيه الذي تحتويه كلمات الله..
إن القرآن في الأصل كتاب تغييري أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو كتاب لو أنزل على جبلٍ لرأيته خاشعًا، ولشهدته متصدعًا فيفترض أن يترك أيضًا أثرًا جذريًا في حياة المرء إذا سرت فيها، وتسربت إلى أركانها آياته وتسربل بنورها واقعه.
وقد قال الله عن كتابه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد من الآية:31]، وتقدير الكلام لكان هذا القرآن هو الذي يحدث تلك التغيرات الكونية العظيمة..
من تحريك جبال، وتقطيع أرض، وتكليم موتى..
فإن كانت تلك قدرته التغييرية على تلك الكائنات والأفعال الكونية الجسيمة..
بل وما هو أعظم منها، فما بالك بقدرته التغييرية على قلبك ونفسك إذا صاحبته..
كم من قلوب كانت متشحة بالسواد ونفوس كانت ميتة قد أحياها الله بهذا الكتاب؟
كم من بعيد عن الله مسرفٌ على نفسه مُتبعٌ لهواه هداه الله بتلك الروح من أمره؟
ونحن بين يدي رمضان مقبلون على تلك الفرصة - فرصة التغيير بالقرآن ومصاحبته إن رمضان يمثل جرعة تغييرية مكثفة تتضافر فيها عدة عوامل أهمها على الإطلاق؛ الصيام والقرآن اللذان يشكلان جنبًا إلى جنب مؤثرًا جبَّارًا يُحرِّك دفة النفس تجاه الصلاح والتقوى..
فالصيام يُقلِّل الشهوات إلى أدنى درجاتها وقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم من لم يستطع الباءة فلم يتمكن من الزواج بالصوم فهو جُنة وترس في وجه الشهوات..
والقرآن كتاب تغييري كما بيَّنا في السطور الماضية..
لذلك تجد الربط الواضح بين مشهد الجود المضاعف لدى النبي صلى الله عليه وسلم وبين مدارسته للقرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان..
فتجده في رمضان أجود ما يكون..
أجود من الريح المرسلة حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن كما بلفظ الحديث وتجده في العشر الأواخر يشد مئزره ويوقظ أهله ويجتهد أيما اجتهاد وهو الذي كان في سائر حياته صاحب أعظم الجد والاجتهاد..
لكنه هنا اجتهاد مختلف والفارق -بخلاف فضل الأيام- هو مدارسة القرآن جنبًا إلى جنب ذلك الحائل عن الشهوات..
الصيام واجتماع الصيام والقرآن على القلب في رمضان ينشئ حالة عميقة أكيدة من التأثير التغييري..
يندر أن تجد متعرِّضًا صادقًا لها إلا ويتغير بها حيث تعرض الآيات على القلب وهو في حالة من تراجع لمنسوب الشهوات تؤهله للتأثر والتفاعل مع كلام الله..
وتلك هي الفرصة الكبرى للتغيير الذي تكون بدايته تصحيح النظرة للقرآن ومن ثم تصحيح العلاقة وتحويلها إلى مصاحبة حقيقية ومعرفة تتعمق تدريجيًا..
يُعين على ذلك في رمضان أن تترسخ قيمة المدارسة التي كانت السمة المميزة لعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان..
حين تترسخ تلك القيمة ويدرك المسلمون أن الأمر ليس فقط بكثرة تلاوة لا ينبني عليها تغيير وعمل، بل يتبعها انقطاع وهجر بعد انقضاء رمضان - يحدث التعرُّف التدريجي على سوره وتبدأ خصائص كل سورة في الظهور ثم يتبعها انطباعات وتفاعلات ومشاعر مع كل سورة..
ثم في مرحلة متقدمة مع كل آية من آيات القرآن وكل كلمة من كلماته..
إنها إذن..
دعوة لتغيير النظرة النمطية للقرآن وعدم الانشغال بالهدية عن الوصية والانتباه إلى طبيعة العلاقة التي تجمع بين المسلم وبين آيات ربه.
تلك العلاقة التي يصعد المسلم درجاتها عبر سُلَّم المدارسة والتدبُّر والتعرُّف ليستحق في النهاية ذلك اللقب الشريف العظيم..
لقب صاحب القرآن.