أرشيف المقالات

علماء حقاً وربّ الكعبة - محمد بن شاكر الشريف

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .

ليس العلم باتساع الرواية ولا حفظ المتون ولا معرفة أقوال المذاهب، بل حقيقة العلم خشية الله تعالى التي توجب على العالم القيام بالحق من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من غير احتشام ولا خوف أو رهبة من سلطان؛ لأن خشية الله إذا وقرت في القلوب أورثت النفس الإنسانية عزيمة ومضاء حتى لو وقفت أمامها الجبال أزالتها، {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، فالذين يخشون الله من عباده هم العلماء حقيقة وإن لم تكن لهم رواية ولا حفظوا المتون ولا اطلعوا على أقوال المذاهب التي يتحلى بها أشباه العلماء، وفي سيرة العلماء المتقدمين ما يشهد لذلك؛ أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: "قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك، وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتق الله في حرم الله وحرم رسوله؛ فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار؛ فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور؛ فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين؛ فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك؛ فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك، فقال له: أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك - أي أمسك بيده - وقال: يا أبا محمد! إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد"، فانظر إلى هذه المحاورة التي جرت بين عبد الملك وهو إذ ذاك أمير المؤمنين عربي من قريش، وبين عطاء بن أبي رباح وهو مولى من الموالي وكَانَ أسود شَدِيد السوَاد لَيْسَ فِي رَأسه شعر إِلَّا شَعرَات فِي مقدم رَأسه، كيف يخاطب أمير المؤمنين وهو في حضرة علية القوم من الأشراف ورغم أن أمير المؤمنين أكرمه وأعزه أمام الناس في هذا المجلس فقام إليه وهو أمير المؤمنين وعطاء مولى من الموالي وأجلسه على سريره بحضرة الأشراف وجلس أمير المؤمنين بين يديه، وقال له: حاجتك؟ أي ماذا تطلب حتى نقضيه لك، لكن هذا الإكرام والتبجيل أمام الناس لم يحمل عطاء على المداهنة ولم يمنعه من قول كلمة الحق فأوصاه بوصايا قل أن تجد من يجهر ولا بجزء منها أمام الناس؛ فأمره بتقوى الله في حرم الله وحرم رسوله بأن يتعدهما بالعمارة ويكف عنهما الإلحاد، وأمره بتقوى الله في أولاد المهاجرين والأنصار فيعاملهم المعاملة التي تليق بأمثالهم ويخرج لهم حقهم من بيت المال ولا يتأخر عنهم في ذلك، وذكّره بفضل آبائهم عليه فإنه ما جلس في مكانه إلا بهم، وأمره بتقوى الله في أهل الثغور فهم المجاهدون الذين يحمون البلاد من عدوان المعتدين، وأمره بتفقد أمور المسلمين وذكره أنه وحده المسئول عنهم دون غيره من الولاة، وأمره بتقوى الله في من يقف على بابه لشكواه أو لقضاء مصالحه فلا يغلق بابه دونهم فيحتجب عنهم ولا يغفل عنهم، فإن هذا من حقوق الرعية على ولاتها ولما رأى أنه أدى ما عليه ووعده أمير المؤمنين بالتنفيذ بقوله: "أفعل"، رأى أن مهمته قد انتهت وأنه لا حاجة له في الجلوس بعد تحقق الغرض فقام من مجلسه ونهض ليغادر المكان، فأمسك به وقال له: "يا أبا محمد! إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟" قال: "ما لي إلى مخلوق حاجة" ثم خرج، فهو لم يدخل عليه ليسامره ولا ليستمتع بمجلسه ولم يدخل عليه لحاجة نفسه، ولم يستغل إقبال أمير المؤمنين عليه ليطلب بعض الامتيازات له أو لأحد من أهله أو أصحابه، بل قال بكل عزة وإباء: "ما لي إلى مخلوق حاجة"، وبهذه القوة في الحق والاستعلاء على مطامع الدنيا كانت لهؤلاء العلماء العزة والشرف والسؤدد، فمتى تعود هذه الأوضاع؟

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١