int(1886) array(0) { }

أرشيف المقالات

فتاوى المثقفين وأكبر مصائب العصر!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
فتاوى المثقفين وأكبر مصائب العصر!
ليسوا من أهل العلم ولا من أهل القرآن
 
السؤال طريقُ المرء إلى العلم النافع والعمل الصالح، وهو سبيل المرء إلى تحصيل العلوم والمعارف، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنما شفاء العِي السؤال))، والعِي - بكسر العين -: الجهل، والمعنى أن الجهل داءٌ وشفاؤه السؤال والتعلم، فالسؤال ينفي الجهلَ عن المرء، وهو يفتق ذهن السائل والمسؤول، وقبل أن يسأل المرءُ، عليه أن يستحضر أمورًا:
♦ أولها: من يسأل؟
♦ الثاني: لماذا يسأل؟
♦ الثالث: متى يسأل؟
♦ الرابع: كيف يسأل؟
♦ وعم يسأل؟
 
ولو أن كل سائل عمل بهذه الأسئلة الأربعة لحصل علمًا كثيرًا، وخيرًا عظيمًا، وإنما يأتي النقص على المرء في دينه ودنياه من إهماله لها أو لبعضها، وسأبين ذلك مع التركيز على الأول؛ لعموم البلوى به في هذا العصر.
 
الأمر الأول: من هم الذين يُسألون في أمر الدين؟ لقد دخل النقص على كثير من الناس عندما أصبحوا يَسألون كلَّ أحد عن أمر دينهم من دون تحفُّظ، وهم قد أُمروا في كتاب الله تعالى بأن يَسألوا أهل الذِّكر؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وأهل الذِّكر هم أهل القرآن العالمون به وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العاملون بهما، وقد ابتُلي الناس في هذا الزمانِ بمن لا يتورَّع عن الخوض في كل مسألة من مسائل الدين، والجرأة على الفتوى، وإن لم يكن من أهلها ولا من أهل القرآن والفقه في الدين، وهذا من أخطر الأدواء وأعظمها ضررًا على الفرد والمجتمع.
 
إن العلماء الربانيين وحدهم هم الذين يحسنون قول "لا أدري" عندما لا تكون لديهم الإجابة عما يُسألون عنه، أما المتعالمون وبعض المثقفين فإنهم لا يحسنون ذلك، وقد يمنعهم من ذلك الكبرُ وخوف تنقُّص الناس لهم، فيخوضون في كل مسألة، ويقولون على الله بلا علم، وكان بوسع أحدهم عندما يُسأل عن أمر من أمور الدين أن يقول: لا أعلم، ويسلم بذلك من تبعة القول على الله بلا علم؛ بل إن هذا هو العلم بعينه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس، من علِم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86]، وقال أيضًا رضي الله عنه: "لا أدري" ثلثُ العلم، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم، نصف العلم، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا ترك العالم قول: "لا أدري"، أصيبتْ مقاتله.
 
لا أدري، لا أعلم:
وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أحد الفقهاء السبعة بالمدينة يُسأل بمنى فيقول: لا أدري، لا أعلم، فلما أكثروا عليه قال: والله ما نعلم كلَّ ما تَسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمكم.
 
قال عبدالله بن يزيد بن هرمز: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري؛ حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه، وقد كان الإمام مالك رحمه الله وهو أحد أئمة الإسلام، يكثر من قول: لا أدري، حتى قال عنه ابن وهب: لو كتبْنا عن مالك "لا أدري"، لملأنا الألواح، وسئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ"لا أدري"، وهو الذي كان يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك.
 
وقد تجد اليومَ من يجرؤ على الفتوى ولم يشهد له بها أحد، فإذا كان أئمة الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين يتورَّعون عن الإجابة ويتدافعون الفتوى، فإن على المرء أن يسعه ما يسعهم.
 
أكبر المصائب:
إن جرأة غير أهل العلم الشرعي على الفتوى من أكبر المصائب في هذا العصر، ولا شك أن قدرًا من الدعوة مطلوبٌ من كل أحد بحسبه، لكن أن ينصِّب أصحابُ التخصصات غير الشرعية أنفسَهم للفتوى، فتلك مصيبة من المصائب، ومن العجب أن الناس يستنكرون على من يتجرأ على الحديث في علمٍ ليس هو من أهله، ولا يستنكرون جرأة الناس على الخوض في الدين من غير أهل العلم الشرعي.
 
إن علم الشريعة من أعظم العلوم نفعًا، والحديث فيه لا يكون إلا لمن هو أهل لذلك، وإنك لَتعجبُ عندما تكون مع طلبة العلم الشرعي وتسأل أحدهم عن مسألة، فيردك إلى فلان أو فلان؛ إيمانًا منهم بأن علوم الشريعة فروع متعددة، ليس من السهل على المرء الإحاطةُ بها، ومقابل ذلك تأتي إلى بعض غير المتخصصين في الشريعة، فتجده يضرب من كل ذلك بسهم، بحكم قراءته لكتاب في هذا العلم أو ذاك، فهل يسوغ لمن قرأ كتابًا أو كتابين في الفقه، أو التفسير، أو الحديث أن ينصب نفسه على المنابر مفتيًا للناس؟! ولو أن هؤلاء المتخصصين في غير الشريعة بذلوا أوقاتهم في البحوث النافعة في مجال تخصصهم، لكان أولى وأنفع للأمة؛ لأنهم سيقومون بعمل لا يستطيعه غيرُهم، ولا يفهم من ذلك عدم إيصال العلم النافع للناس؛ بل إن كل أحد عليه أن يبلغ من هذا الدين بقدر استطاعته وفهمه، ولذلك طرقٌ متعددة، ليس هذا مجال ذِكرها، ثم إن على عامة الناس أن لا يجرِّئوا أمثال هؤلاء المثقفين ويدفعوهم إلى الفتوى؛ بل يصرفوا أنفسهم عنهم إلى العلماء الذين شهدتْ لهم الأمة بالقَبول والفتوى، وإن أرادوا الاستفادة منهم فليسألوهم في مجال تخصصهم.
 
لا للمراء، لا للجدال:
♦ وأما الأمر الثاني: فعليه مدار العمل؛ إذ العمل بالنيَّة، حيث لا بد أن يكون السائل مسترشدًا طالبًا للحق ليعمل به، ليس له قصد سوى ذلك، وقد دخلت الأهواءُ على الناس من هذا الباب، فأصبح هناك من يسأل بقصد سيئ، أو بقصد التعجيز والتعنت، أو بحثًا عن الرخص، والسؤال إنما يُمدح إذا كان للعمل، لا للمراء والجدل.
 
♦ وأما الأمر الثالث: فلا بد أن يكون السؤال في وقت الحاجة إليه، وللأسف إن كثيرًا من الناس يتجاوزون في ذلك، ولا يسألون إلا بعد مرور مدة قد تمتد إلى سنوات من حدوث الخطأ الذي ارتكبوه، أو العلم الذي افتقدوه، فقد يحج بعضهم وينسى بعض واجبات الحج ولا يسأل عن ذلك إلا بعد مضي سنوات، وهذا بلا شك تقصيرٌ وإهمال وقلة تعظيم لأمور الدين.
 
♦ وأما الأمر الرابع: فلا بد أن يكون السؤال صحيحًا صريحًا، لا لبْس فيه ولا إبهام، فقد يلبس بعضهم على المسؤول في السؤال؛ للحصول على إجابة محددة، والواجب على المرء أن يسأل عما يشكل عليه في أمر دينه ودنياه، ويجتهد في أن يسأل عن كل سبب يقرِّبه من العلم النافع والعمل الصالح، ولا بد مع ذلك أن يتلطف بالسؤال لأهل العلم، ويتأدَّب في السؤال لهم.
 
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما نحسن.

شارك المقال

المرئيات-١