فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾تابعتُ ما يحدث في الأراضي المحتلَّة من حرائقَ تحرِق الأخضر واليابس، التي ظلَّت أربعة أيام لم يستطع أحدٌ إخمادَها، وهي لم تخمد حتى كتابة هذه السطور.
رغم تباين التحليلات، واختلاف التفسيرات، وتباعد التوقُّعات - فإنها حتمًا رسائل من ربِّ الأرض والسموات، آيات كونية، وظواهر طبيعية، ورسائل إلهية تخويفية: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
أدرتُ رأسي، واستدعيتُ خواطري، واسترجعتُ ما قرأتُ لأكتب - بتوفيق الله - هذه السطور.
لا تُجدي تكنولوجيا من دون الله، ولا تنفع قوة من دون الله، ولا تبقى حياة ناعمة أو طاعمة مطمئنَّة بغير الله.
إذا اغترَّ الناس، أخذهم ربُّ الناس ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]، وهذا لكل الناس إذا أصابهم الغرور؛ مؤمنهم وكافرهم، أبيضهم وأسودهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، الحاكم والمحكوم، الرئيس والمرؤوس، إذا تعدَّوا الحدود، وأكلوا الفروض، وخانوا العهود، وتملَّكهم الغرور - ضربهم الله بآياته انتقامًا أو ابتلاء، أخذًا أو عطاء: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15، 16].
التحصُّن بالقوة من دون الله ضعف، والتحصن بالمال من دون الله فقر، والتحصن بالعِزْوة من دون الله عُزلة، أما التحصن بالله عز وجل، فهو القوة والغِنى والعزوة.
والذين يفضِّلون الضلالَ على الحلال، والكفر على الإيمان، والخير على الشر، والعمى على الهدى - يحيطهم غضبُ الله وانتقامه، فيضربهم بصواعقه: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17]؛ هذا على المستوى الجماعي، أما على المستوى الفردي، فإليك عزيزي القارئ ما جاء به القرآن الكريم:
قال فرعون: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، فأهلكه الله في الأسفل (قاع البحر)، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، ﴿ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51]، فجعل الله الأنهار تجري من فوقه، أتاه الله من حيث لم يحتسبْ فأغرقه.
أصدر أوامره بأن أي مولود يُولد يُذبح فورًا: ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾ [القصص: 4]، والقابلة التي لم تُبلِّغْ، تُقتل مكان المولود؛ لكن الله تعالى قضى على ملكه بمولود تربَّى في قصره: ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، أتاه الله تعالى من حيث لا يحتسب، فقتله بنفس القانون الذي سنَّه، فكانت نهايته على يد المولود الذي نجا مِن قتله، والذي تربى في قصره.
قارون، كانت ﴿ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]؛ لا يحبُّ الفرحين بالظلم والاستبداد والبغي والبطش أمثالك، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78] تجبُّرًا وتكبُّرًا وتعاليًا، فكانت النتيجة: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81].
انتصر البدريُّون بفقرهم إلى الله وبذِلَّتهم لله: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]، أما يوم حُنينٍ حين قالوا: لن نُهزمَ اليوم من قلة، فأوكلهم الله إلى أنفسهم: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25]، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ لا تكلْنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ)).
قال سليمان عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35]، فبطلبِ الغفران والاعتراف بأن الذي يَهَبُ هو الرحمن، أعطاه الله الملك، فكانت الرِّيحُ تحملُه، والطير تخدمه، والجنُّ تغوص له في الأرض، فتبني له من الصُّروح ما يشاء، وتستخرج له من الكنوز ما يريد.
لم يطغَ ولم يتجبَّرْ ولم يتكبَّرْ، وإنما قال: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40].
قرأتُ أنه في ليلة القدر في عام من الأعوام، دعا إمام الحرمين على اليهود ربع ساعة، بكى وأبكى المصلِّين، وفي ذات الوقت هيَّأ اليهود طائرتين لضرب جنوب لبنان، فيهما ضباط يهود على أعلى مستوى، مدرَّبين تدريبًا عاليًا، تكلفة كل واحد تقارب خمسة ملايين دولار.
غادرت الطائرتان؛ لكن فور إقلاعهما وقعت واحدة على الأخرى، وسقطتا فوق مستعمرة، وخسِر اليهود خسائر فادحة، لمَّا سمعوا الصندوق الأسود كان آخر ما قاله الطيار: "أنا أسقط، ولا أدري لماذا أسقط؟!"، ﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ [الحشر: 2].
ما يحدث الآن في الأرض المحتلة يذكِّرنا بما حدث سابقًا وذكره الله في كتابه، كيف؟
﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].
كانت لليهود حصون قوية، وبساتين ثرية، وأعوان مواتية (خيبر وقريظة وقينقاع)، بالإضافة إلى عملائهم من المنافقين، فقالوا: لن يقدِرَ أحد كائنًا من كان على إخراجنا، ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 2]، وكذلك ظن المؤمنون: ﴿ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ﴾ [الحشر: 2] - ظنُّوا أنهم أولو قوة وأولو بأس، ولن يحرِّكهم أحد، ولن يزحزحهم شيء، ﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ [الحشر: 2]: أتاهم من داخل قلوبهم لا من حصونهم، أتاهم من داخل نفوسهم لا من داخل قصورهم، فقذف فيها الرُّعب؛ فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، تُملأ باليقين أو تُملأ بالرعب، قال النبي الكريم: ((نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر))؛ لكن الأمَّة لمَّا تركتْ سنَّته، وأهملت رسالته، هُزمت بالرعب مسيرة سنة.
الإنسان أي إنسان - مؤمن أو كافر، جاحد أو شاكر، مقيم أو مسافر - إذا اعتدَّ بقوَّته أو ماله، فهو مهزوم مهما تحصَّن بالحصون؛ لا قوتُه تمنعه من الله، ولا حصونه تمنعه من الله؛ فالله هو القاهر الغالب، القوي القادر، المعزُّ المذل، المانح المانع، فمن نسي الجبار العلي، من تخلَّى عن الله وتولَّى غير الله - فهو ضعيف مهزوم مهما بلغت قوته، ومهما قويت حصونه، ﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ [الحشر: 2].
وما حدث لليهود في الوقت الحالي من حرائق انتشرت في ربوع فلسطين المحتلة - ما هي إلا آية من آيات الله؛ فقد تجبروا وتكبروا، ونسوا أن هناك إلهًا يتحكم في كونه ويرى ما يحدث لعباده من ظلم الظالمين، فيسمع لدعوات المظلومين.
كانوا يرسلون قمرًا صناعيًّا، فانفجر الصاروخ وأشعل البلاد المحتلَّة والفئات المغتصِبة، ودبَّ الرعب في القلوب، حسِبوا أنها تكنولوجيا؛ لكن الله تعالى أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فانتشرت النيران بفعل الرياح؛ لتكون درسًا لكل ظالم مستبد يغتصب البلاد ويظلم العباد.
اللهم عليك بالظالمين المحتلين، أرنا فيهم آياتك؛ فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم انصر عبادك المستضعفين في فلسطين وفي كل مكان يا ربَّ العالمين.