أرشيف المقالات

تقدير أم تقديس؟

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
تقدير أم تقديس؟

مِيزةُ الإسلام أنه دينٌ يدعو إلى الاستدلال العقليِّ وإعمال الفكر، والآياتُ المبثوثة في القرآن، وكذا القصص في المحاججة العقلية بين الأنبياء وخصوم الدعوات - خيرُ شاهدٍ ودليل.
 
ولم يقف الإسلام يومًا سدًّا أمام أسئلة المشكِّكين، ولم يكن ليتَّخِذَ موقفَ الدفاع؛ إنما هي المناقشة وتقديم البراهين على صحة اليقينيَّات التي يقوم عليها.
 
إذًا جعل الإسلام لأتباعِه إطارًا عامًّا يُشكِّل عقولَهم، ويَصوغ منهجها، ويعطيها الحق في النظر في كلِّ ما يحتمل ذلك؛ مما يمنحها الانفتاحَ والدُّربة على التفكير الحر، المنضبط فقط بضوابط الشرع، بعيدًا عن التَّبعية المطلقة، أو التقليد من غير علم.
 
ولو أرَدْنا إسقاطَ هذه القاعدة على واقعنا في عالَمِنا العربي، لوَجَدنا خللًا نسبيًّا في التربية على هذا المبدأ، لدى مختلف المؤسسات الاجتماعية التي يتدرَّج فيها الإنسان - على تفاوت بينها بحسب تنوع مشاربها وخلفياتها - بَدْءًا بمؤسسة الأسرة؛ إذ لديها محددات وتابوهات تُربِّي أفرادَها عليها، وتضبطهم وَفْقَ ضوابطها.
مؤسسة المدرسة أيضًا لا تختلف كثيرًا من حيث تربيةُ الطالب وَفْق رؤيتِها، لا بحسب النمط الذي ينبغي أن يتربَّى عليه الإنسانُ، ليمتلك هذه العقلية المنفتحة!
وبعد ذلك سائرُ المؤسسات من جامعات، وتيارات، وأحزاب، وجماعات، وشركات.
 
والحركة الإسلامية ابنةُ بيئتِها، يَطولُها ما يطولُ سائرَ المجتمع، فرغم أن بعضَها أدرك ضرورةَ الاستثمار في الإنسان لجهة تنمية مَلَكة التفكير الحرِّ لديه، وبعضها يسعى لذلك، فهناك البعض ما زال يعتمد أسلوب التربية على التَّبَعية التي تُورِث المحدودية في التفكير! حتى لدى الحركة الواحدة أحيانًا نجد تفاوتًا في الأساليب التربوية بين مسؤول وآخر؛ فبسبب تطبيقات خاطئة لمبدأ السمع والطاعة لدى البعض - وأيضًا بسبب إضفاء هالةٍ من القداسة الضمنية التي تبرز عند توجيه أدنى نقدٍ لبعض المواقف والسياسات - فإن الأسلوب الاستنكاري والتبريري المجافيَ للمنطق السليم، هو أول ما يُواجِه المعترضين من بعض الأفراد؛ نتيجةَ تعصُّب، أو غَلَبة المشاعر الحزبية، أو غياب وعي، أو عدم تفريق بين تقدير الأشخاص والهيئات وبين تقديسها، فالنقد البنَّاء لا يُنافِي الثقة والاحترام والتقدير، ولا يتعارض مع مفهوم السمع والطاعة، والسؤال لا يعني التشكيكَ، بينما التقديس هو ادِّعاء العصمة لمن نتعصَّب لهم، حتى لو لم نُصرِّح بهذا؛ وإنما أفعالُنا تدلُّ عليه!
 
حين أراد سيدُنا إبراهيم عليه السلام أن ينتقل من "علم اليقين" إلى "عين اليقين"، طلب من ربه جل وعلا: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260]، وعندما سأله علَّام الغيوب: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾؟ كان تعليله: ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، هذه حاجة إبراهيم عليه السلام، كانت في نفسه، فصرَّح بها لربِّه، وهو أعلم به، فأجابه ربُّ العزة لِمَا طلب، فكم من كلمات وحاجات وأسئلة واستفسارات، تمور في صدور الناس عامة، ولدى الأتباع الذين يُعمِلون عقولَهم خاصة، وتتلمس طريقَها للبَوح، فتُجابَهُ باستنكار، أو بدفاع مستميت!
 
في الختام أقول:
نحن بخيرٍ ما أعمَلْنا فِكْرَنا فيما يَرِدُ على عقولنا؛ نظرًا وبحثًا ونقاشًا، وربَّينا أتباعًا أحرارًا، يتمتعون بمثل هذه العقول؛ جرأةً في الحق، وإنصافًا في الحكم، وقدرةً على الحِجاج.
وأيضًا نحن بخيرٍ ما تعامَلنا مع الأفراد - وخاصةً الرموزَ، والقدوات، والقيادات، والأحزاب - على أنهم بشر غير معصومين، يُصيبون ويخطئون، على قاعدةٍ من الثقة والاحترام والتقدير، بعيدًا عن التعصب والتقديس.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢