أرشيف المقالات

مولّدات العبقرية الشبابية:المقال الأول

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
1
لازلنا نشيد ونؤكد على ضرورة استثمار الطاقات الشبابية، والجيوب العمرية المتقدة، فكراً ونشاطا، ويخشى من ذوبانها وضياعها في أتون المرح الزائد، أو الشهوة الجامحة،،،!
والمدارس مخازن ومناجم لطاقات عبقرية، ونوابغ جوهرية، ترسم الفكر والتاريخ والإبداع، وتكون مشاعل مضيئة للأمة، ولكن من ينتشلها ويستخرجها؟! كما يقول العلامة الأديب الطنطاوي رحمه الله سواء بحفز أهلها أو بإيقاد دواخلها، ،،!‏إنَّ السِــلاحَ جَــميعُ النـاسِ تَحمِلُـهُ  --- ‏وَلَـيس كــلَّ ذواتِ المِـخــلَبِ السَـبُعُ
ومن أهم المراحل العمرية لذلك هي (الطفولة والشباب)، لأنها أخلق بالابتكار والانفجار المعرفي والإبداعي والإنتاجي،،،! وإذا أرادت الحكومات النهوض والإبداع فلتتعب على الشاب وتبنيه وتثقفه وترقيه، فهو أنفع لها من مشاريع استهلاكية أو برامج وهمية وشكلية،،،!أيا هممَ الشبابِ إلى المعالي// وأفعالِ الأكابر بانتحالِ
فشرخُ الشابِ وهاجٌ رطيبٌ// وكم شرخٍ له ضربُ النصالِ!وقد استشرف مالك رحمه الله نبوغ الشافعي حينما قال له: ( إن الله قد كساك بنور الطاعة فلا تطفئه بظلمة المعصية ) وإسحاق بن راهويه رحمه الله هيجت نصيحته البخاري لتجريد الجامع الصحيح،وابن تيمية تنبأ له الشيخ الحلبي وهو صبي، بعد أن اختبر ذكاءه وحفظه،،،! 
وأحسن استثمار للأمم، ويعجل ببروزها، هو في (شبابها ونوابغها)، ومن خلال التأمل في كلام الناس عن العبقريات ومقوماتهم والظروف التي أسهمت في توليد إبداعهم تبين أنها في عوامل عدة، ولكن أبين قبلها شغف الناس بمصطلح (العبقرية) وأنها دلالة على النبوغ والذكاء وقوة الإنتاج، ولكنها أوسع من ذلك، ولابد لها من ذكاء متوسط على أقل تقدير، وهي تتنوع في شتى العلوم، وقد ذكرها صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا المنامية في أبي بكر وعمر وخلافتهما(( فلم أر عبقريا يفري فَرْيَه)) بالوجهين تخفيفا وتشديدا، كما في المتفق عليه، قال الحافظ : العبقري المراد به كل شيء بلغ النهاية .
وقال أبو عبيدة( العبقري من الرجال الذي ليس فوقه شيء، ويطلق على السيد واللبيب والكبير والقوي )،،!
وتنوعت تعاريف المعاصرين وبعضهم ربطها بالنبوغ، وآخر بالقدرة على العمل والتركيز والإنجاز ، وقال آخرون: هي حصيلة ثلاث خصال: الذكاء والحماسة والقدرة على العمل .
وعرفها أناس : ذكاء مقترن باكتشاف وابتكار .
وهنا سؤال مهم:
س/ هل يقال رسولنا الكريم عبقري،،؟!
نفى كثير من الإسلاميين ذلك لما حصل من ربط ذلك، بنفي النبوة في الطرح الاستشراقي والعَلماني، وقد تجلت عبقريته صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتربية والتأثير والفروسية والقيادة، ولا يعني ذلك اتكاؤه عليها وانطماس النبوة عنه، كما توهمه بعضهم، فهو سيد عظيم ونبي كريم موحى إليه بالبينات والهدى المبين .(( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ))سورة النجم .
وأما عبقرية الفاروق المعنية هنا، فيقصد طول خلافته واتساع الفتوحات الإسلامية وما نتج عنها من كثرة الداخلين في الإسلام وسقوط دولتي (فارس والروم)، والتفنن الحضاري في تأسيس الدولة الإسلامية .
فوصفه بالعبقري إشارة الى قدرته القيادية الفائقة، وعبقريته الادارية والتخطيطية، وهو القائل رضي الله عنه( إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة ) وله ( لست بالخَب ولا الخب يخدعني ) وغيرها من الدرر الكامنة والبارزة في شخصيته ومسيرته الدعوية . 
وسؤال آخر:
س/ هل العبقرية وراثية؟!
ج/ قديما كتب( فرانسيس غالتون) كتابه (العبقرية الوراثية) ليثبت أن العباقرة يرثون صفات كثيرة وراثية من آبائهم ، وأن البيئة ليست بذلك الأثر البالغ عليهم، والبعض قصرها بالأسر الراقية والغنية، مع أن الواقع خلاف ذلك وأثبت أن العبقرية تستجلب جلبا وتعصر عصرا بالعمل والعرق والمعاناة كما قال أديسون المخترع الأمريكي،،،!
وكم من أسر فقيرة أخرجت عباقرة وهو رد واضح على مدعي الوراثية،،،!
فالمؤكد هنا أن منها الفطري، ولكنه قليل، والغالب أنها مكتسبة، مع الاتفاق على قاسم مشترك ذكائي، يتحتم توافره .
والغريب في الموضوع وجود عباقرة بلا انتاج، أو لم يستثمروا مواهبهم، وهولاء خارجون من بحثنا هنا.
س : وسؤال ثالث:
هل ثمة علاقة بينها والجنون؟!
ج: كتب في ذلك بعضهم مناقشا هذه الدعوى والظاهرة، التي وقعت للبعض العباقرة ومشاهدة اضطرابات عقلية لديهم، برغم اكتشافاتهم وإنجازاتهم ، ومن هؤلاء الاستاذ يوسف اسعد في كتابه( العبقرية والجنون )، وفي دراسات موخرة تشير الى ذلك، واخرون ينفون هذا، ويدعي الاولون أن ثمة خيطا رفيعا بين العبقرية والجنون، ودرست شخصيات بغضهم فوجدت تتماشى مع هذا الادعاء ومن ذلك إسحاق نيوتن وانجازاته الفيزيائية في الجاذبية وغيرها، قالوا كان يعاني من الجنون الموقت، وهدد بحرق المنزل، وجان دارك كان يملك عبقرية عسكرية في معاركه، ولم يسلم من المشكلات النفسية، وصاخب النظريةالنسبية الخاصة (آينشتاين) كان مُنَظَّم التفكير إلا أنه فوضوي في بيته وشؤون حياته، كان يصفِّر ويغني بأعلى صوته في الحمام،،،! وبعضهم أدت به الى الانتحار ...!
وقد كتب الشيخ العلامة ابو عبدالرحمن الظاهري مقالا رائعا في هذا الباب، سرد فيه عشرات التراجم ذوات المرارات النفسية والعقلية وبعضهم من العرب،،،! ثم ختم بقوله،،،( ...
والجنون بحمد الله نادر في عباد الله المسلمين وعلمائهم الربانيين؛ وإنما يحدث في عامتهم لأسباب منها الحرص على مباهج الدنيا والشعور بالهضم، ومنهاالتورط في الديون المتعذِّر سدادها إلا بمدد من الله سبحانه، ومنها ضعف الإيمان وقلة العبادة والانهماك في المعاصي، ومنها الوحدة المنهيُّ عنها،ومنها إلغاء الأدعية الشرعية،،،،،)
انتهى.
وهو كما قال ،فإن الجنون المخلوط بالعبقرية في التصور الغربي والعلماني لا ينظر فيه للجوانب الروحية والأخلاقية المفقودة في الغرب، ويتوقع ذلك من فرط الذكاءفحسب، وتناسوا فساد المعتقد، والإفلاس الوجداني والركض وراء الكحول والشهوات والتي عرف بها كثير من الأذكياء والفلاسفة لديهم، ولا ريب أن من بلاياها الانتحار أو التفكير فيه على أقل تقدير للاضطراب الكيميائي العقلي من جرائها، والاستيلاء الحزني النفسي، اللاهث وراء السعادة والحياة الطيبة، فيسلك طرقا معوجة، وفجاجاً قاتلة..!
وأما العوامل المولدة لذلك فكالتالي:
١/ الاطلاع العميق: لأن من أجَلّ ثمراته سعة العقل، فالمعرفة توسع العقل، وتمنح مدارك التفكير قدرة على الفهم والاستنباط وصناعة الحلول،والتراكيب الجميلة،، ولكنها قراءة كثيرة وعميقة، ونوعية ومتنوعة، وليست هشة ضعيفة ومختصرة، وفي القرآن الكريم (( اقرأ )) وهي أول آية فيه، وقال تعالى (( ولكن كونوا ربانيين بما كُنتُم تعلمون الكتاب وبما كُنتُم تدرسون )) سورة العلق .
ومن أجل ما يقرأ الكتاب والسنة، وفرائد الأعلام، وكنوز الأئمة النابغين من أثروا في حركة التاريخ، ومدوا الفكر الإنساني بذخائر ونفائس وبدائع .
وفي قراءة القرآن، نور وحياة ورسوخ 
ومحاسن تلاوته تفوق الحصر فإضافة إلى ما فيه من علم وتحصيل معارف وثواب جزيل، يجني المرء فوائد أخر نحو : 
• تعلم التدبر والاستنباط 
• شحذ الهمة 
• تقوية الإيمان 
• بناء قيم راسخة لا تهزها رياح الفتن والشهوات .
• تملك تصور سليم عن الحياة والإنسان والخلق.وفي الحديث(( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ))
وارتبطت حياة العباقرة بالقراءة والتحصيل المعرفي، وكان لكل فرد عادته القرائية اليومية، والتي عرفت بالعمق والجودة والغوص والتكرار المعرفي والاستبياني، فمنهم من التزم الكتب بإطلاق، وآخر عكف عليها حتى مات، وثالث لا يُرى إلا معها أو ينظفها، ورابع يكررها ويديم النظر فيها للحفظ والاستفهام واختصار تجارب الناس ومكنوناتهم، قال الجاحظ عفا الله عنه (إني لا أعلم شجرةً أطولَ عمرا و لا أطيب ثمرا، ولا أقربَ مجتنى من كتاب ).
وقال الأستاذ العقاد رحمه الله:( القراءة تضيف إلى عمر الإنسان أعماراً أخرى ).
ومن الذين عرفوا بالتكرار للكتب:
• المزني قرأ الرسالة للشافعي(٥٠٠ ) مَرَّةٍ، ويقول: مَا مِن مَرةٍ إلا واسْتَفدتُ مِنْهَا فَائِدة جَديدة. 
• وأبو بَكرٍ الأَبْهَريِّ المالكي قال : قَرَأتُ مُخْتَصَرَ ابنِ عبد الحكم خمسمائة مرة (والأَسَديةَ ) خمساً وسبعين مرة ، و( المُوَطَّأَ ) كذلك ، و(المَبْسُوطَ) ثلاثين مرة ومختصرَ ابنِ البرقي سبعين مرة . 
- أبَو بكر بنِ عّطِيَّةَ يَذكُرُ أنَّهُ كَرَّرَ صَحِيحَ البُخَاريِّ ٧٠٠ مِائةِ مَرَّة.
• ابن هشام قرأ ألفية ابن مالك ألف مرة...! 
• ومن ذلك التكرار والتدقيق يتكون النبوغ والوعي وتتسع المناحي العقلية للطالب، فيبيت عقله زكيا لقناً متمرسا، لا يتلاعب به ولا يضحك عليه. 

٢/ التعلم المستديم: والذي لا يعوقه وقت، أو شهادة، أو مرحلة عمرية ....
وهنا نموذج قرآني فريد لموسى كليم الله ورجوعه إلى مقاعد التعليم وهو نبي مكلّم، ورسول معظم في سورة الكهف المتلوة كل جمعة .(( هل أتبعك على أن تُعلمنِ مما عُلمت رشدا ))
واشتهر قول ابن المبارك رحمه الله( لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ).
وقال الإمام أحمد( مع المحبرة إلى المقبرة ) لما حمل المحبرة وهو إمام مشهور .
وقال الناظم :
ولا يزال حامل المحابرِ//مجتهدا دوما إلى المقابرِ
قد جعل العلم له شعارا// يمتثل القرانَ والآثارا
فلذةُ العلم له شفاءُ//ليس له من دونها غذاءُ!

ومن الحِكم العالمية (العبقرية بلا تعليم، كالفضة في المنجم) فأحيانا مكنون النبوغ والعبقرية موجود في ذات الإنسان، ولكنه يحتاج إلى إبراز وانتشار، والتعليم المستديم يثري ذلك .
وقد أنتجت تلك الاستدامة عباقرة مسلمين في مجالات شتى، فأحمد لديه عبقرية في الحديث والعلل، والبخاري عبقرية حديثية متمثلة في صحيحه الذهبي العجيب، والإمام الشافعي في وضع الرسالة، والخليل في النحو والعَروض، والدارقطني في العلل، وابن تيمية في فنون شتى، والحافظ في فتح الباري،والذهبي في التاريخ ومعرفة الرجال،،،!
وفي العلوم التجريبية تلحظ: الخوارزمي في الجبر والرياضيات، والرازي في الطب، والإدريسي في الجغرافيا والفلك وغيرهم ممن يصعب حصرهم..!
وهذا ضريبة العبقرية والجَلد والنباهة في الحياة، والمورثة للعلو والارتقاء...
‏لولا المَشقَة سَادَ الناسُ كُلّهمُ// الجُود يُفقِرُ والإقْدَامُ قتّالُ

٣/ النظرة الطموحة : وتجسدها علو الهمة المتصاعدة والتي لا ترضى بالدونية والقليل،، إذا ما علا المرء رام العلا// ويقنع بالدون من كان دونا
والشخص الطامح بعيد ومستشرف في هدفه،،،،،! 
ولو أنما أسعى لأدنى معيشةٍ// كفاني ولم أطلب قليل من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ// وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي 
ومن طموح موسى عليه السلام وتشوفه للمعالي، ما ذكره القرآن في قصة الرؤية
(( قال رب أرني أنظر إليك )) سورة الأعراف .
والطموح العلمي والتطويري يجعل المرء لا يشبع، ولا يزال متطلعا لكل ما لذ وطاب، قال مجاهد رحمه الله:( منهومان لا يشبعان صاحب علم وصاحب مال ).
ومن طموح رسول الله وعلو همته من صغره، أنه كان يستشرف لسرير جده عبد المطلب ، ويحاش عنه من قبل الأكابر، فيقول جده: ( دعوه فإنه سيكون لابني هذا شأن )..!
وعلمنا ذاك بقوله (( إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفسافها )) قال العلامة المناوي رحمه الله: أي رديئها وفاسدها وحقيرها...! وفي الصحاح للجوهري: السفساف، الردئ من كل شيء، والأمرالحقير.
وقال الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله( إنّ لي نفسا تواقة، وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه؛ تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها).


شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢