أرشيف المقالات

آفة الغة هذا النحو. . . .

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ علي الطنطاوي أستأذن أستاذَنا الجليل (الزيات) فاستعير منه هذا العنون.
فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في (الرسالة) الثالثة عشرة: قال الاستاذ: (ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوم تلك اللهجة، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاب القديم، على ألا يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟). ولقد صدق أستاذنا وبر، واصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب.
وإنني لاعرف جماعة من الشيوخ، قرأوا النحو بضعة عشر عاماً، ووقفوا على مذاهبه واقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، واولوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لايفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، او خطبة يلقيها، أو قصة يرويها.
ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الاول: وقد روي السيوطي في (بغية الوعاة) أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية!.

وأن الخليل لم يكن يحسن النداء.

وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب! وأن رجلاً قال لابن خالويه: أريد أن تعلمني من النحو والعرية ما أقيم به لساني.
فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني: لإاي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقي للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، واذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع إلا لتسهيلها وتقريبها؟ ومن - ليت شعري - يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنوا من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، واتته منيته وهو في بعضها.

يقلب حصباءه، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟.
وإذا كان ملك النحاة بعد أن أنفق عمره كله في تعلم الحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصى عليه فيسميها (المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها.

عند ربه! فما بالك بأمثالنا من السوقة؟.
. وكيف نفهم هذا النحو وندركه ادراكاً بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخأ في النطق وفي الفهم؟.
ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التس تحوي كل مختلف من القول.
وكل بعيد من التعليل، وفيه كل تعقيد، حتىما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولايشتقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يرده ويعارضه، القائم على ظهر الحوت، لايميل الى جانب الا ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقاً في اليم.
وسبب هذا التعقيد - فيما أحسب - أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضاً من أعراض الدنيا، فعقدوه هذا التعقيد وهو لو أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا.
روي الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال الأخفش: مالك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً، ثم تعود به كما بدأت؟ قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فاخذت منهم! وروي السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة اين خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا.
فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟ فقال: أنا أعرف اسمين.
قال: ما هما؟ قال: لا أقول لك إلا بالف درهم!.
. وكان نفطويه لا يُقريء كتاب سيبويه إلا إذا أخذ الرسم، من أل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطأوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الحاجة إليهم، حتى ان أبا علي الفارسي، لما سأله عضد الدولة بن بويه أن يصنف له تاباً في النحو - وصنف الايضاح، واوضح فيه النحو وقربة حتى أتى عليه عضد الدولة ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، أخس أبو علي بالخطأ، وشعر [انه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لانفسهم: خطة التعقيد.

فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فاما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو.
وزاد النحو تعقيداً وإبهماً وبعداً عن الغاية الي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو مهاصر له: (إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء.
)
. فخرج النحو بذلك عن الجادة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا عاماً مستقلاً معقداً مضطرباً لا تكاد تثبت فيه مسألة.
ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسباً، حتى أن السيرافي لما ألف كتابه الاقناع (الذي اتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فاصبح مفهوماً سهلاً، لايحتاج الى مفسر ولا يقصر عن إداراه أحد، حتلا قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الاقناع.

لما ألفه قاومه النحاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف انه بقي منه بقية! وزاد النحو فساداً على هذا الفاد هذا الخلاف بين المذهبين (او المدرستين على التعبير الجديد): المذهب الكوفي، والمذهب البصر، وما جره هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظر المشهورة بين الكسائ وسيبويه، حين ورد هذا بغداد علي يحيى البرمكي، فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة فقال له السائي: - كيف نقول: قد نت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فاذ هو ي، أو هو إياها - فقال سيبويه: فاذا هو هي، ولا يجوز النصب - فقال السائ: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فاذا زيد قائم أو قائماً وسيبويه يمنع النصب فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فسألهم - فقال يحيى: أنصفت وأحضروا فسئلوا، فاتبعو الكسائي فاستكان سيبويه وقال: - أيها الوزير.
سألتك إلا ما امرتهم أن ينطقوا بذلك، فان ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ! - فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد اليك من بلده مؤملاً، فان رأيت الا ترده خائباً فإمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج الى فارس فمات بها بعد قليل غماً وأسى! في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، , ان الكسائي كان - كما يقول السيوطي - ممن أفسدوا النحو، لأنه ان يسمع الشاذ الذي لايجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً.

. وزاد النحو فساداً على هذا الفساد، ابتغاؤهم العلة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذل أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم.
ومن ذلك ما رواه أبن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له: - بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً؟ قال السيخ: بفعل مقدر.
قال: كيف تقديره؟ قال: أستثنى زيداً، فقال له: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد! فانقطع الشيخ وقال: - هذا جواب ميداني فاذا رجعت قلت الجواب الصحيح. ثم انه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الأيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا قال: والمسألة فيها سبعة أقوال.

.
حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل الى القول الذي ذكره أبو علي اولاً.
* * هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقداً هذا التعقيد، مضطرباً هذا الأضطراب، بعيداً عن الغاية هذا البعد.
(فلماذا لانرجد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة - التي نلهجها - وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟) ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤها برأيهم في سبيل الأصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البرم، وهو أول رجل اعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عاماً يعالج أدواءه، ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذل كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية؛ لماذا لاينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويبدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله؛ ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم على أن كان أول من ولجه؟ علي الطنطاوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢