من المعارك الأدب السياسي
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
للدكتور عمر حليق
في الأوساط الاشتراكية في بريطاني هذه الأيام جدل حول تفسير المبادئ الاشتراكية التي يؤمن بها حزب العمال - أحد الحزبين الرئيسين اللذين يتنازعون الحكم هناك
ويتخذ هذا الجدل معركة فكرية سلاحها الكراريس والنشرات والمقالات التي ينشرها كهنة الحركة الاشتراكية في مجلاتهم الأسبوعية وحلقاتهم الأدبية التي يكثر انتشارها في مراكز النقابات العمالية وأوساط الثقافة والفن في الجامعات ومعاهد العلم
والمحرك الأكبر لهذه المعركة الفكرية هو المستر (أورين بيفان) - قطب من أقطاب حزب العمال نبت في (العشش) المزرية البائسة التي تتاخم مناجم الفحم في مقاطعة ويلز ولم يتلقى من التعليم المدرسي إلا مبادئه وثقافته عصامية تتلمذ فيها على الكتب والبحوث التي توفرها للطبقات الفقيرة في بريطانيا المكتبات الحكومية الدوارة بحيث تقدم الغذاء العقلي للباحثين عن الحقيقة من الذين حالت ظروف المعاش بينهم وبين التتلمذ على الأساتذة في معاهد العلم الرسمية. واستطاع المستر بيفان بفضل عصاميته الثقافية أن يرتفع من أقبية المناجم ومجتمعها العليل إلى مركز مرموق في الحركة العمالية، ومن ثم إلى قبة البرلمان؛ فالوزارة التي استقال منها في العام المنصرم (قبل أن تفشل وزارة العمال في الانتخابات الأخيرة) إعلاناً عن سخط لسوء اجتهاد زملائه من أقطاب الوزارة في تفسير وتطبيق المبادئ الاشتراكية التي يدين بها الحزب فحزب العمال البريطاني يستند في قوته السياسية إلى عنصرين أحدهما: نقابات العمال التي تضم ملايين الناخبين من الأيدي العاملة، وثانيهما نفر من المثقفين لا ينتمون في محتدهم ونشأتهم إلى طبقة العمال؛ وإنما اعتنقوا المبادئ الاشتراكية وانضموا إلى الحزب الذي يمثلها في الحياة السياسية للبريطانية، وهؤلاء المثقفون يشكلون الدماغ المفكر للحزب.
وهم يفهموا الاشتراكية كما وضع أساسها المفكرون الإنكليز ولا يعترفوا بأن تعاليم ماركس ولينين وستالين التي تطبق في روسيا اليوم هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية في بريطانياً وهذا لا يعني أن الاشتراكية البريطانية خالية تماماً من نظريات ماركس؛ وإنما تحرص الرؤوس المفكرة وراء الحركات الاشتراكية في بريطانيا أن تطبعها بط بريطاني فتتعمد أن تعزز نظرياتها بالبحوث الاقتصادية والاجتماعية والفلسفة السياسية التي سجلها المصلحون البريطانيون في معالجاتهم لمساوئ الثورة الصناعية التي قلبت أوضاع المجتمع البريطاني في القرن الثاني عشر وينفرد (أورين بيفان) من بين أقطاب حزب العمال بأن يجمع في شخصيته مزيجاً من كلا العنصرين.
فقد وفر له عمله في المناجم وتنظيم النقابات خبرة ثمينة وفهماً صادقاً لعقلية العامل البريطاني وحاجاته ومطالبه وحقوقه وواجباته.
وكذلك استطاع المستر بيفان بفضل دراسته العميقة للاشتراكية البريطانية أن يجاري أقرانه من المثقفين من قادة حزب العمال الذين انضموا إلى الحزب برغم أن تربيتهم الجماعية التقليدية ونشأتهم في أوساط مترفة محافظة كانت تؤهلهم إلى غير ما اختاروه من معتقدات اشتراكية ونشاط سياسي يعنى بمشاكل الطبقات الفقيرة التي كانت تفصلهم عنها ستائر كثيفة من الفوارق الاجتماعية والفكرية والمصالح الذاتية والمشهور عن الأدب السياسي في بريطانيا أنه شغوف ينشر البحوث القصيرة الموجزة لمشكلة من مشاكل الساعة في كتيب أو كراس أو مقال مدروس يظهر في نوع خاص من المجلات البريطانية تحرص على أن تعالج السياسة ودقائقها معالجتها لفنون الأدب وألوان الثقافة العامة والجدل الذي يدور هذه الأيام بين أنصار المستر بيفان ومعارضيه في حزب العمال يتبع هذا التقليد البريطاني في الأدب السياسي.
فقد أصدر الطرفان في الأشهر الأخيرة عدداً من الكراريس والنشرات والمقالات تشرح وجهات نظرها على أرفع ما يكون الأدب السياسي من نقاوة وعمق وتدقيق فللمستر بيفان مجاله الخاص في مجلة (تريبون) التي تحررها زوجته، وكل مقال أو كتيب ينشره هذا القطب السياسي يولد صدى أبعد وأوسع من العدد المحدود من بيع المجلة أو الكتيب، امتد هذا الصدى في الآونة الأخيرة إلى درجة أزعجت المستر أتلي رئيس حزب العمال وزملاءه من أدمغة الحركة الاشتراكية البريطانية الذي اتخذ المستر بيفان سياستهم وآرائهم هدفاً لنقده العنيف.
ولم يجد المستر أدلي وجماعته بداً من أن يواجهوا تحدي المستر بيفان بنفس السلاح فتألفت من بينهم جماعة من الكتاب السياسيين أطلقت على نفسها اسم (الاتحاد الاشتراكي) واختارت البرفسور (آلان فلاندرز) أستاذ العلاقات الصناعية في جامعة أكسفورد رئيساً لها، وأخذت تكيل للمستر بيفان الصاع بالصاع.
فلما أصدر المستر بيفان كتابه الهام (بدلاً من الخوف) أصدرت الجماعة كتيباً بعنوان (مقالات فانيانية (اشتراكية) جديدة) ولما رد عليها بيفان بمقال بليغ في مجلة (تريبون) أسرعت الجماعة فأجابت بكراس عنوانه (الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها) وضع مقدمته المستر أتلي رئيس حزب العمال وقد خلق هذا الحوار لوناً من المتعة العقلية للذين يتابعون الأدب السياسي في بريطانيا - وهو لون من الأدب يحرص على بلاغة التعبير ومتانة الأسلوب وروعة الفن حرصه على عمق الدراسة وقوة المنطق وسلامة التفكير والحوار بين قادة حزب العمال ورؤوسه المفكرة لا يقتصر على السياسة الداخلية للحزب وعلى علاقة بريطانيا الخارجية مع خصومها وحلفائها، وإنما يمس نواحي هامة من تيارات الفكر السياسي في حاضر الثقافة البريطانية؛ وهي ثقافة محافظة تمر الآن في مرحلة هامة تواجه فيها لوناً من التطرف الفكري يعبر عنه المستر بيفان ومشايعوه في الرأي وهم جماعة لها وزنها في الحياة السياسية وفي أوساط الأدب والفن كذلك فهذا الرجل وآراؤه عنوان للتطور الفكري في عقل ثوروي يحرص على تغير الأوضاع على أسس اشتراكية بأن العنف والثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة الاجتماعية والواقع أن الحركة الاشتراكية في بريطانيا كما يؤمن بها ويعمل على تطبيق مبادئها حزب العمال تختلف في هذه الناحية اختلافاً جوهرياً عن الحركات الاشتراكية الأوربية، وهي حتماً تختلف عن اشتراكية السوفييت والدول الشيوعية الأخرى وهذا الطابع السلمي للاشتراكية البريطانية هو الذي مكنها من أن تكسب ثقة خصومها المحافظين الذين دعوها إلى الاشتراك في الحكم إبان الحرب العالمية الأخيرة، وأن تستخلص منهم الحكم في سنوات ما بعد الحرب، وأن تشاطرهم السلطة التشريعية في البرلمان البريطاني حتى بعد أن أفلتت من يد العمال السلطة التنفيذية (الوزارة) إثر انتخابات العام المنصرم.
وقد استطاع العمال الاشتراكيون في بريطانيا أن يحققوا هذا النصر المتتابع دون أن يلجئوا إلى إراقة نقطة واحدة من الدم أو أن يعصفوا بالحياة الدستورية أو يعبثوا بالكيان الاقتصادي بالإضرابات وما إليها من الوسائل التي لجأت إليها الحركات الانقلابية الأخرى اشتراكيو أم شيوعية في أوربا الغربية الشرقية واليوم يجد نفر من أصحاب الرأي المسموع في حزب العمال البريطاني يرأسهم بيفان أن هذه الثورة السلمية التي حقق بها الاشتراكيون في بريطانيا خلال السنوات التي سيطروا فيها على الحكم جزءاً من المبادئ التي وضعوها تأسيساً للعدالة الاجتماعية.
ولكن هذه الثورة السليمة لم تمكنهم من أن يحققوا الجزء الأهم من هذه المبادئ.
فكيف السبيل إذن لتحقيقها الآن وقد فقدوا السلطة التنفيذية بعد أن فاز تشرتشل وحزبه المحافظ بسدة الحكم. وأمعن المستر بيفان النظر في صلب هذه المبادئ فوجد أن أقرانه في قيادة عندما كان لهم قد تساهلوا في اتباع الخطوط الجوهرية لهذه المبادئ، فساوموا المحافظين على بعضها.
فبدلاً من أن يصروا على توجيه الجزء الأكبر من ميزانية الدولة لتنفيذ مشاريع الضمان الاجتماعي ورفع مستوى الطبقات العاملة ومكافحة البطالة وإعادة التبادل التجاري مع روسيا والصين الشيوعية، وعوضاً عن أن يمعنوا في تأميم الصناعات والمنشآت الاقتصادية الكبرى ويقيدوا أرباح أصحاب الدخل الواسع، وبدلاً من أن يربطوا علاقاتهم مع مناطق النفوذ البريطاني على أساس سياسي واقتصادي جديد يضمن لبريطانيا صلات اقتصادية وأسواقاً تجارية سليمة بدلا من أن يعمل المستر أتلي وجماعته على تبعيد هذه الخطوط الجوهرية امتثلوا لضغط المحافظين ومن ورائه إغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي والاقتصادي فتأثرت من جراء ذلك مشاريع الضمان الاجتماعي وبقي مستوى الطبقات العاملة على حالته الكئيبة.
ولم يحرص البريطانيون (عمالا ومحافظين) على صيانة تجارتهم الخارجية إزاء المنافسة الأمريكية والألمانية واليابانية ففقدت بريطانيا كثيراً من أسواقها التقليدية.
وانتقد المستر بيفان تقاعد بريطانيا عن تعزيز صداقتها مع الصين الشيوعية لتحتفظ بالسوق الصينية الكبيرة كمصرف المنتجات البريطانية وإعادة التبادل التجاري بين بريطانيا ومنطقة النفوذ السوفيتي في أوربا الشرقية.
ووجد المستر بيفان أن هذا التصور في مصادقة الروس وحلفائهم، وأن انسياق بريطانيا في الامتثال لسياسة أمريكا العدائية لروسيا السوفيتية وما خلقه من سباق التسلح.
كل هذا أثر في وضعية بريطانيا الاقتصادية والسياسية فكانت النتيجة أن ناصرت بريطانيا الفرنسيين في حروبهم الاستعمارية في الهند الصينية وفي المغرب العربي، وعجزت المصانع البريطانية عن أن تجد لمنتجاتها أسواقا فعمت البطالة في مصانع النسيج في لانكشير، وعجزت المنشآت الصناعية البريطانية الأخرى عن تزويد زبائنها في آسيا وإفريقيا وأوربا اللاتينية بما يحتاجون إليه من آلات ومعدات بعد أن استأثرت برامج التسلح البريطاني بالجزء الأكبر من الحديد والمواد الخام. وبسبب هذا التطور في وضعية بريطانيا الاقتصادية وبفضل امتثالها لإغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي فشلت الاشتراكية البريطانية في تنفيذ إصلاحاتها الاجتماعية وفشلت بريطانيا في إنقاذ نفسها من شبح الإفلاس الاقتصادي والتدهور السياسي الذي أخذت تنحدر إليه في الآونة الأخيرة. ولم يكتف المستر بيفان بالنقد وإنما رسم لحزبه والمجتمع البريطاني الأكبر برامج جديدة للخروج من هذه الورطة؛ فأشار في كتابة (بدلا من الخوف) أن لا تنساق مع أمريكا في إصرارها وعزمها على القضاء على النظام الشيوعي في روسيا والصين؛ وتهيئة الحرب اللازمة للمعركة الفاصلة. وبفيان لا يؤمن بالشيوعية السوفيتية ولا يرغب في أن يجعل السياسة البريطانية مرتبطة بها.
ولكنه مع ذلك يعتقد بأن في العالم مجالاً واسعاً لجميع الأنظمة السياسية.
فهو لا يرى بأساً من أن تعيش روسيا بنظامها الشيوعي المطلق في نفس العالم الذي تعيش فيه أمريكا بنظامها الرأسمالي وبريطانيا بنظامها الاشتراكي واسكندنافيا بحركاتها التعاونية.
وهو يعتقد أن روسيا لا ترغب في حرب جديدة ويستشهد على هذا بأن إنتاج روسيا من الحديد (ومقداره السنوي 30 ألف طن) لا يشجعها على الدخول في حرب مع أمريكا وحلفائها ومعدل إنتاجها من الحديد والمواد اللازمة لجهاز الحرب يفوق الإنتاج الروسي بعدة أضعاف. وينصح بيفان قومه بأنه إذا استقلوا في سياستهم الخارجية عن أمريكا وضمنوا عدم اعتداء الروس على المصالح البريطانية استطاعوا أن يتفادوا برامج التسلح ونفقاته الهائلة، وأن يحولوا الإنتاج إلى صناعة سلمية تستعبد الأسواق التقليدية في الشرق على شرط أن تتبع بريطانيا أسلوباً جديداً في علاقاتها مع الشعوب التي لم يكتمل نموها الاقتصادي في آسيا وإفريقيا.
وهذا الأسلوب يستند إلى مبدأ المعونة الفنية لتستطيع هذه الشعوب أن ترفع مستوى المعيشة بين سكانها، وبذلك تزداد حاجتها من المنتجات الصناعية التي تصدرها بريطانيا، وهذا أسلوب باشرت حكومة العمال تنفيذه عندما كانت في الحكم فيما يعرف الآن بمشروع كولومبو الذي منحت فيه بريطانيا الدول الآسيوية المرتبطة بنظام الكومنولث بضعة ملايين من الدولارات لتنمية المرافق الاقتصادية وزيادة قوة الشراء والتعامل التجاري بين هذه الدول وبين بريطانيا. ويكرر المستر بيفان في كتابه الأخير هذه النداءات في قوة وعنف ويتهم كبار رجال الصناعة وأصحاب المصالح الذاتية في حزب المحافظين بأنهم العقبة الكبرى في وجه هذه الإصلاحات التي يقترحها المستر بيفان.
ولذلك فهوا حاقد على أقرانه في حزب العمال أمثال المستر أتلي لتعاونهم مع المحافظين في السياسة الخارجية.
وفي مقالات بيفان وكتاباته نوع من الثورة ضد هذه الطبقة الصناعية التي يعتقد بأنها توجه سياسة بريطانيا لتتماشى مع السياسة الأمريكية.
فهو لذلك يدعوا إلى وضع تشريعات قاسية تعصر أرباح هذه الطبقة وتنتزع عن طريق التأميم المنشآت الصناعية والمالية الهامة التي يملكونها. وهذه الثورة على طبقة الصناعيين هي من أبرز النقاط التي يحاولها خصوم بيفان في الرأي من أقرانه الاشتراكيين.
ففي الكراس الأخير الذي أصدره الاتحاد الاشتراكي بعنوان، الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها، هجوم على دعوة المستر بيفان لنصر الطبقة المترفة.
ويقول واضعو هذا البحث بأن مبادئ الاشتراكية البريطانية لا تؤمن بصراع الطبقات وإنما تستند إلى أسس أخلاقية تضع الحرية الفردية فوق المساواة الاقتصادية.
ويشير الكراس كذلك إلى أن بريطانيا في ظل وزارة العمال في الحكم وفي البرلمان قد خطت خطوات هامة في التسوية بين طبقات المجتمع عن طريق التشريعات التي وضعتها حكومة العمال في مجال الضرائب على الدخول والتركات وفي سياسة التأميم التي نفذت حكومة العمال جزءاً منها. ويؤكد واضعو هذا الكراس بأن سياسة التأميم لا تعني أن على الدولة أن تملك كل مصدر من مصادر النشاط الاقتصادي في البلد؛ فالاشتراكية يجب أن لا تفسر على أنها سياسة تأميم فحسب، فقد أثبتت تجارب وزارة العدل بأن سياسة التأميم لا تحل بصورة أوتوماتيكية المشاكل الاقتصادية والآفات الاجتماعية فإذا استبدلت بصاحب المصنع الدولة كمالك لمنشأة اقتصادية فإن العامل في هذه المنشأة سيظل يعتقد بأنه مهضوم الحقوق.
ويجب أن لا يفهم العامل أن سياسة التأميم تجعله مالكاً للمصنع الذي يعمل فيه وإلا تولدت فوضى اقتصادية واجتماعية لا يقوى على ضبطها إلا نظام إداري قاس يعصف بالحرية الشخصية ويضع العامل والمجتمع في ظل حكم ديكتاتوري لا ترضى عنه فلسفة الاشتراكية البريطانية ومفهومها للعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية. واستنادا إلى مثل هذا المنطق يبرر خصوم المستر بيفان في الرأي تساهل حزب العمال في سياسة التأميم وقبولها لبرامج التسلح وتحالفها مع الأمريكان في السياسة الخارجية.
فهم لا يوافقون المستر بيفان على أن روسيا السوفيتية راغبة في السلم، وأن قصور إنتاجها من الحديد والمواد الخام عن اللحاق بإنتاج حلفاء الغرب رادع لها من الدخول في المعركة الفاصلة.
فقد دخل هتلر الحرب العالمية الأخيرة وكان إنتاج بلاده من مواد الاستعداد الحربي يقل عن إنتاج خصومه عدة مرات.
ومع ذلك استطاع هتلر أن يبني آلة حرب جبارة شغلت العالم بأسره عدة سنوات طوال. والطريف في معركة (الكراريس) هذه أنها سجل لاتجاهين هامين في التفكير السياسي المعاصر في بريطانيا وفي كثير من بقاع العالم الأخرى؛ فقد رسخ في عقلية المجتمع الإنساني الأكبر أن كيانه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أصبح في حاجة ماسة إلى أسس جديدة من العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص الاقتصادية.
والدعوة لهذا الإصلاح تجد صداها البعيد في أوساط الاشتراكيين في أوربا الغربية وفي رجال (العهد الجديد) من أتباع الحزب الديمقراطي في أمريكا؛ صدى يتجاوز الانفعال العاطفي ويتخذ البرامج الحزبية والسياسية العملية وسيلة لتنفيذ هذه الأسس الجديدة. ففريق من هؤلاء الاشتراكيين لا يزال يؤمن بأن السياسة التطبيقية للمبادئ الاشتراكية يجب أن تتقيد بحرفية النظريات حتى لو استلزم ذلك تقييد الحرية الخاصة لطبقة معينة من المجتمع لا تنوي لهذه المبادئ خيراً.
والمستر بيفان أميل إلى هذا الفريق منه إلى الفريق الآخر الذي ينظر إلى الأمور نظرة واقعية فلا تعترف بأن أسباب الطمأنينة المادية للفرد كما تسعى لتحقيقها النظم الشيوعية المطلقة ستوفر لهذا الفرد سعادة في المجتمع.
فهناك عناصر أخرى في السلوك الإنساني لا يمكن أن تصبح ضحية للطمأنينة المادية.
من هذه العناصر حرية الفرد وما توفره الديمقراطية الصحيحة له من ضمان وكرامة.
وقد رد المستر بيفان على أصحاب هذا الرأي فقال بأنهم يحملون الكلمات أكثر مما تتحمل.
فبعض حقائق الحياة القاسية تهزأ في كثير من الحالات بهذه التعابير اللطيفة (كالطمأنينة المادية) و (الحرية الفردية) و (الديمقراطية الصحيحة) و (الكرامة) وماشاكلها. ولكن أليست صناعة الأدب تفترض تحميل الكلام أكثر مما يتحمل؟ والأدب السياسي أدب فوق أنه سياسة. نيويورك عمر حليق