العلماء والصدع بالحق
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
العلماء والصدع بالحقالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بُعِث بالسيف رحمة للعالمين، وبعد:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187].
فهذه كلمات أكتبها على استحياء لمشايخنا الأعزاء، وأستسمحهم أن يتحمَّلوا قليلاً، ويأتوا عليها إلى نهايتها، وأتودَّد إليهم أن يغفروا لي سوء أدبي؛ إذ أكتب بين أيديهم مُذكِّرًا، وما أنا إلا مُقتطِفٌ من أزهار حدائقهم، ومحفوفٌ بمَعين فضائلهم؛ إذ علمتمونا حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: عن تميم الداريِّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّين النَّصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((للَّه، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم)).
شيخَنا الجليل:
منذ أن بُلِيَت الأمة بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، ألمَّت بالأمة مصائبُ عظام، يشيب لها الولدان، وتكالب أعداؤها عليها من كل حدَب وصوب، وسامونا سوء العذاب؛ باحتلال ديارنا، وامتهان مقدساتنا؛ بتحكيم شرائعهم الأرضية البئيسة على أراضينا!.
ولما فسد الناس، أصبح الحمل ثقيلاً على العلماء والدعاة والشيوخ المخلصين؛ ليبيِّنوا الحقَّ للناس ولا يكتموه، يقول ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": "والتحقيق أن الأمراء إنما يُطاعُون إذا أمَروا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء؛ فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبعٌ لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبعٌ لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتَي العلماء والأمراء، وكان الناس كلُّهم لهم تبعًا، كان صلاح العالَم بصلاح هاتين الطائفتين، وفسادُه بفسادهما، كما قال عبدالله بن المبارك وغيره من السَّلف: "صنفان من النَّاس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء"، كما قال عبدالله بن المبارك:
رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوبَ
وقد يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتركُ الذُّنوبِ حياةُ القلوبِ
وخيرٌ لنفسك عصيانُها
وهل أفسَدَ الدِّينَ إلَّا الملوكُ
وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها؟"
والعلماء هم ورثة الأنبياء، مصابيح الظلام، وهداة الأنام؛ يبنون الأمم، ويُحْيون الهِمَم ﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾، هم الذين يأخذون بأيدي المسلمين إلى ما فيه عزُّهم وتمكينُهم، وعلماؤنا المخلصون هم الذين يصدعون بكلمة الحق؛ لتحيا بكلمتهم أجيال يتدفَّقون من كل مكان؛ لينصروا هذا الدين، ويُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، إذا حلَّت نازلة بالمسلمين وبذرَت فتنة جديدة في ساحاتهم، تصدَّر إليها العلماء، فقضوا عليها بالحُجة والبرهان، ووجَّهوا أتباعهم وعامة الطلبة والمسلمين إلى النهج القويم، الذي يضمن للمسلمين إقامةَ شريعتهم، وتمكينَ دينهم، ولا شكَّ أن العالِم سيُسأل يوم القيامة عن عِلْمه ماذا عمِل فيه.
وأضع بين أيديكم - علماءَنا ومشايخَنا الأجلاء - كلامًا نفيسًا لعالم من علماء الآخرة، فيه عِظةٌ للنسَّاك والعبَّاد الذين يركزون على جانب العبادة والتنسُّك، ويتغافلون عن أشدِّ الجوانب خطورة! يقول الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" أثناء شرحه لكتاب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "ولله سبحانه على كل أحد عبوديةٌ بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوَّى بين عباده فيها؛ فعلى العالم من عبودية نشر السُّنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبرِ على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق، وتنفيذه، وإلزامه ممن هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه - ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما، وتكلَّم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وُضع عنا، فقال: هَبِي أنه قد وُضع عنكن سلاح اليد واللسان، فلمْ يوضع عنكن سلاح القلب، فقالت: صدقتَ، جزاك الله خيرًا.
وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلق، بأنْ حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلوا هذه العبوديَّات، فلم يُحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله تعالى بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي...
ومن له خبرة بما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه - رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا، والله المستعان!
وأيُّ دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنْتَهَكُ، وحدوده تُضاعُ، ودينه يُترَك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها - وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس؟! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلَمِتْ لهم مآكلُهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟!
وخيارهم المتحزِّن المتلمِّظ، ولو نُوزِعَ في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاث، بحسب وُسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتمَّ، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا: أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة: أنِ اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ يومًا قط.
وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه: أنْ قل لفلان الزاهد: أما زهدُك في الدنيا، فقد تعجَّلت به الراحة، وأما انقطاعُك إليَّ، فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب وأيُّ شيء لك عليَّ؟ قال: هل واليتَ فيَّ وليًّا، أو عاديت فيَّ عدوًّا؟!" اهـ.
وكذلك العلماء الربانيون الصادعون بالحق هم الغيارى على الدين والشريعة الربَّانية، وعالمٌ قليل الرواية عظيمُ النفع والخير والغَيْرةِ على الأمة وشرعها، أجدى عليها من عشرات الرواة والفقهاء الذين لا خير فيهم.
وكنت أودُّ أن أورد لكم بعضًا من مواقف الإمام الحسن البصري مع الأمراء وصدْعه بالحق، ولو أدَّى ذلك إلى سجْنِه وموتِه، وأوَدُّ أن أذكِّركم بها؛ فأنتم أعلم بها منا، ولكن ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]؛ ولكن أخشى منكم الملامة والتقدُّم بين أيديكم، والله المستعان.