الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
بحث للعلامة الأثري أربيك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
عهد الإقطاع:
يطلق عادة على الدولة الوسطى - وتشمل بمعناها المحدود الأسرة الثانية عشرة (2000 - 1788 ق. م) - عهد الإقطاع أي أن نظام المجتمع كان يشبه ذلك النظام الذي ساد في أوربا في العصور الوسطى - فهناك على رأس الحكومة يقوم الملك، وهو لا يزال نظرياً مصدر السلطات كلها، والكاهن الأكبر لكل الآلهة، والمشرَّع الوحيد - ويليه عدد كبير من الأمراء المحليين يتسلمون أراضيهم منه، ويدينون له بالولاء، ولكنهم مستقلون عنه في إماراتهم استقلالا يكاد يكون تاماً.
على أنه لا ينبغي أن نغالي في الفرق بين هذه الأحوال وتلك التي سادت في عهد الدولة القديمة.
فالفرق كان فرقاً في الكمية أكبر منه فرقاً في الكيفية. ففي أواخر الأسرة السادسة سقطت مصر في فوضى شديدة نظراً لعجز الملوك عن الإشراف على الأمراء الأقوياء وضبطهم، ثم لإغارة قبائل (عامو) الأسيوية على الدلتا.
فاستقل أمراء المقاطعات وصاروا يتنازعون فيما بينهم، فاضطرب الأمن واختلت أحوال البلاد؛ لذلك كان تاريخ تلك السنوات مظلماً، وعندما ينبثق النور نجد الحكم في يد أسرة من الأمراء مقرها هيراقليوبوليس في مصر الوسطى - وقد ذكر مانيتون أنهم كونوا الأسرتين التاسعة والعاشرة - ونجد في الجنوب أسرة أخرى تقوم بالحكم في طيبة.
هذه هي الأسرة الحادية عشرة، وقد عاصرت الهيراقليوبوليسيين مدة ما، ولابد أن نزاعاً شديداً قام بين هاتين الأسرتين ثم انتهى بانتصار الجنوب انتصاراً حاسما. ولما تولى الحكم الطيبيون ملوك الأسرة الثانية عشرة، واجهتهم حالة تختلف كل الاختلاف عن تلك التي صادفت الملك مينا عندما وحد القطرين - فقد انتهز الأمراء المحليون سنوات الاضطراب وعادوا إلى توطيد سلطتهم، وتقوية نفوذهم حتى تجرأ أمراء (مقاطعة الأرنب) على قطع المرمر من محاجر حاتنوب، وكان هذا الحق مقصوراً على الملك وحده، وز على ذلك أخذوا يؤرخون نقوشهم التذكارية هناك بتاريخ سنوات حكمهم الشخصي - قد وحد أوائل ملوك هذه الأسرة الجديدة تلك العناصر المتفرقة، ولكنهم لم يستطيعوا التغلب عليها فقبلوا حلاَّ وسطاً وذلك أنهم مقابل الولاء الذي طلبوه من هؤلاء الأمراء سمحوا لهم أو على الأقل لم ينكروا عليهم درجة كبيرة من الاستقلال المحلي. إخضاع أمراء الإقطاع: ولم يشعر الطيبيون أنهم في مركز قوي يسمح لهم بإخضاع أولئك الأتباع المشاكسين حتى تولى الحكم سنوسرت الثالث - كما يتبين ذلك من توقف الأمراء فجأة عند بناء مقابرهم الصخرية في عهده بجهات البرشة وبني حسن ومير - ثم عاد الأمراء إلى تقوية نفوذهم في عهد أمنمحيت الرابع.
فعادت الفوضى الداخلية إلى البلاد مرة أخرى، ووقعت فريسة في أيدي الغزاة الأسيويين المعروفين بالهكسوس. وبمقتضى هذا النظام الإقطاعي كانت سلطة الأمير في إقطاعيته تكاد تكون هي السلطة العليا.
أجل كان بديهياً أنه عندما تخلو إقطاعية من أميرها تعود أسميا لفرعون كي يهبها مرة أخرى، ولكن لعله كان من الصعب عليه أن يرفض الوارث الشرعي حقه فيها، وقد وضح أحد أمراء أسيوط في العقود الكثيرة التي عقدها مع كهنة المعبد المحلى - كي يتولوا تقديم القرابين لمقبرته بعد موته - الفرق بين ميراثه عن أبيه، وبين أملاكه بحكم وظيفته كأمير فالأولى يتصرف فيها بلا قيد ولا شرط حتى عن المستقبل، والثانية لا يستطيع أن يتصرف فيها بعد موته - وظل للملك كما كان الحال في عهد الدولة القديمة - حقوق مالية في كل أقليم، وكان موظفو الخزينة العليا يجمعون الضرائب. القانون: كان الوزير ساعد الملك الأيمن في كل المسائل الإدارية والقضائية، ولا نعرف عن نظم القضاء نفسها أكثر مما نعرفه عنها في عهد الدولة القديمة؛ بل ولا نستطيع أن نقول إلى أي حد كانت هناك مجموعة من القوانين التي تعالج الجرائم الجنائية - بيد أن معلوماتنا عن القانون المدني أحسن وأوفر، فنجد بين نقوش مِتِن سلسلة من الوصايا تنتسب إلى حكم سنفرو أحد ملوك الأسرة الثالثة، وهي على رغم قدمها تدل على الدرجة الراقية التي وصلها قانون العقار إذ ذاك، وبين النقوش الواردة على جدران مقابر الأسرة الخامسة وصايا كثيرة عن أراض نظير خدمات جنائزية يقوم بها الموصى إليه لصاحب الوصية - كذلك تحوي أوراق البردي التي عثر عليها في اللاهون عدداً من العقود والوصايا مكتوبة بأسلوب راق وتعبيرات فنية تدل على أن كتابها محامون فنيون ولو أن هؤلاء لم يتمتعوا بلقب غير لقب الكاتب وهو بالهيروغليفية (سش). وأهم الوثائق كلها هيالواردة في نقوش مقبرة الأمير حبفظا أمير أسيوط السالف الذكر، وفيها يعقد بصفته رئيس كهنة معبد ابْواوِت إله أسيوط المحلي عشرة عقود مع الكهنة يتنازل فيها عن جزء من نصيبه الحالي في القرابين التي تقدم إلى المعبد مقابل خدمات يقوم بها الكهنة له بعد موته، وهنا نجد التمييز القانوني بين ما يملكه الشخص بصفته الفردية وما يملكه بصفته موظفاً، وبين هذه العقود واحد يعقده الأمير بين نفسه بصفته الفردية وبين رئيس كهنة أبْواوِت بصفته موظفاً، وغني عن الذكر أن رئيس الكهنة هنا هو حبفظا نفسه تدل هذه الوصايا والعقود على أن قانون العقار كان موجوداً ومحترماً في مصر في عهد الدولة الوسطى.
والغالب أن القانون الجنائي لم يكن أقل تقدماً.
ولا غضاضة علينا في أن نجرؤ فنظن بأن الأربعين درجاً التي حوت هذا القانون والتي كانت تبسط أمام الوزير في محكمة في أيام الأسرة الثامنة عشرة كانت موجودة بشكل ما أيام الأسرة الثانية عشرة. الديانة والأخلاق: ما مبلغ دلالة هذا النظام القانوني على وجود قانون خلقي؛ ثم إلى أي حد كان لهذا - إن وجد - أساساً دينياً؟ هذه أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، وإن الصورة الناقصة التي لدينا عن الديانات المصرية أيام الدولتين القديمة والوسطى تمثلها كأنها شيء شكلي غير شخصي، فمعبود الشمس (رع) الذي علت منزلته حوالي بداية الأسرة الخامسة، وكان مندمجاً مع المعبود حوريس في شكل (رع حوريس الأفق) اندمج مرة أخرى بالإله آمون إله طيبة لما ارتقت منزلته بارتقاء الأسرة الثانية عشرة الطيبية الحكم، وسمي (آمون رع). ولكن مما لا ريب فيه أن كان هذا الإله للمصري العادي شيئاً بعيداً غامضاً؛ فقد كان اهتمامه الديني مركزاً في إله مدينته أو إقليمه.
بل وهنا أيضاً كانت الديانة مجرد احترام للتقاليد والطقوس أكثر من كونها صادرة من الضمير، فالنقوش التي دونها الأمراء على جدران مقابرهم، وتباهوا فيها بأعمالهم في حياتهم قلما تشير أو قد لا تشير بالمرة إلى أداء العمل الطيب لذاته أو لأن الآلهة تحض عليه.
كذلك تعطينا أوراق البردي التعليمية الفكرة نفسها فحيثما تحث على اتباع الأمانة تحض عليها لمجرد أنها (تفيد) صاحبها. وفي الوقت نفسه يمكننا أن نتتبع في الدولة الوسطى بداية ظهور مقياس خلقي واعتقاد الحساب في الآخرة، وهذا راجع إلى حد ما إلى انتشار عقيدة أوزيريس الذي اعتقد فيه أهل الدولة الوسطى أنه يسكن أبيدوس كإله الموتى، فنرى في النقوش الواردة على توابيت هذه الفترة أول إشارات إلى هذا الإله بأنه القاضي الذي يعرف الحق من الباطل، وهذه فكرة لم تبلغ تطورها التام إلا في عهد الدولة الحديثة فقط؛ فلم تكن هناك في الدولة الوسطى قائمة الآثام المعروفة التي كان يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس بالاعتراف السلبي. ولكن ما مقدار هذا الخوف من حساب الآخرة؟ أليس من المرجع أن القوم في الدولة الوسطى اعتقدوا كما اعتقد خلفهم في الدولة الحديثة بصحة التعاويذ السحرية التي كانت تدفن مع الميت سواء أكانت في شكل نقوش على تابوته أم كانت لفة من ورق البردي، واعتبروها حامية كافية له ضد عواقب حياة أثيمة؟ وإذا فرضنا أن نشأة الاعتقاد في الحساب في الآخرة تدل على نهوض وازع خلقي ألا يظهر كأن السحر سرعان ما قدم مسكنا دفع ذلك الرادع الثائر إلى النوم مرة أخرى؟ الواقع أن هذه أسئلة يصعب الإجابة عليها نظراً لقلة الأدلة التي لدينا فمن الصعب أن نقرر شيئاً حاسماً في هذه المسألة في حالة أمة تعيش الآن ناهيك بشعب مضى فإن هذا عادة يكاد يكون من المستحيل. العناية بنظام الري: وإذا انتقلنا من هذه الناحية الخلقية من الحياة المصرية إلى الناحية المادية واجهتنا مسألة أسهل.
فهنا مع أن أحوال المعيشة العامة لم تتغير في بعض نواحيها عما كانت عليه أيام الدولة القديمة إلا أنه من الممكن أن نذكر تقدماً جد عليها، ويرجع هذا التقدم إلى أمرين أولهما: نمو التجارة الخارجية، وثانيهما: تحول الفراعنة عن تسخير الرعيّة في أعمال لا فائدة منها أي في بناء الأهرام، إلى العمل النافع الذي يعود على البلاد بالخير وهو تحسين نظام الري.
وسنبحث هذا الموضوع الآن، أما الأمر الأول فسنؤجل التكلم عنه إلى مكان آخر في هذا البحث. لما كانت واحة الفيوم في منخفض عن سطح البحر كان فيضان النيل يعمها كل عام ويحولها إلى بحيرة عظيمة، وفطن ملوك الأسرة الثانية عشرة إلى خزن كمية عظيمة في تلك الجهات، وتصريفها وقت التحاريق كي تطول مدة ري الوجه البحري - أي إن الفكرة كانت تشبه الفكرة الخاصة بخزان أسوان الحديث.
ولا يعرف بالضبط مَن مِن فراعنة الأسرة الثانية عشرة نفذ هذا المشروع، وإن كان قد جرى العرف على نسبته إلى أمنمحيت الثالث - وقد عمل المشروع على كسب أراض شاسعة للزراعة من تلك المساحات الهائلة التي كان يغمرها ماء الفيضان عند مدخل الفيوم، وذلك ببناء سور عظيم. الحالة الاجتماعية: الرقيق: سرعان ما ظهرت نتائج هذه الإصلاحات في زيادة رفاهية البلاد.
نعم إن الرفيق لم تتغير حاله عما كانت عليه أيام الدولة القديمة، والواقع أنها قلما تغيرت طول عصور التاريخ المصري. الأشراف: أما النبيل المصري فقد عاش عيشة الترف والمتعة، واقترن بها في بعض الأحوال عناية طيبة وشفقة بأولئك الذين يخضعون لسلطته.
هذا طبعاً إذا صدقنا النقوش الواردة على مقابر الأشراف.
ففيها نقرأ أن النبيل كان يطعم الجوعان ويكسو العريان، وينقل في سفينته عبر النيل من ليست له سفينة - وفي وقت المحن كان يمد إقليمه بالغلال، ولعل دعواه في أنه لم يسلب أرملة أو يغضب حق يتيم لم تكن مجرد عبارات تقليدية ترددها النقوش - قد أولع الأشراف بالرياضة فكان النبيل يخرج على قدميه لصيد ما يجده من حيوان في الصحراء؛ أو يركب قارباً من البردي يمخر به المستنقعات لصيد السمك بالحراب أو وحش الطير بعصا صغيرة. ظهور الطبقة الوسطى: كان ظهور طبقة متوسطة وفيرة العدد من أهم المميزات الاجتماعية للدولة الوسطى، ولهذه الطبقة مقابر كثيرة في أبيدوس حيث تخيل المصريون وجود قبر الإله العظيم أزيريس وتمنى كل مصري صالح أن يدفن على مقربة منه.
وكان إذا أدرك استحالة ذلك قام على الأقل بالحج إليه أو أوصى بأن تحمل جثته بعد تحنيطها إلى أبيدوس لتحضر احتفالاً دينياً قبل أن ترقد في مقرها النهائي في مدينته أو إقليمه - وهكذا كانت أبيدوس مركزاً دينياً في القطر المصري. (للبحث بقية) أحمد نجيب هاشم