أرشيف المقالات

رسالة الفن

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
المنسوجات في الخلافة الإسلامية للدكتور ر.
ب.
سارجنت لقد طغت صناعات الغرب على جميع أنحاء العالم في أثناء القرون الثلاثة الماضية، حتى أوشكنا أن ننسى أن صناعات الشرق، ولا سيما الشرق الإسلامي وبيزنطة، كانت تتهافت عليها البلاد الأوربية تهافتاً عظيما.
يحدثنا رحالة البلاد الغربية في القرن السادس الهجري أن الإسكندرية كانت تموج بحركة الملاحة وسفن النقل البحري من جميع ممالك أوربا حتى أقصى حدودها الشمالية في البلطيق وإسكندناوة، بله العديد من التجار الذين كانوا من جهات أبعد في الشرق كالهنود وغيرهم.
وليس ثمة شك في أن تلك السفن حملت معها (الإسكندراني) الثمين وهو نسيج من التيل المطرز بالحرير.
وأغنية رولان، التي كتبت في القرن الحادي عشر، والتي كانت تصف حوادث عصر سابق بمدة طويلة لتاريخ كتابتها، تذكر جثة مكفنة بقطعة من نسيج الإسكندراني.
وكما انتقلت تجارة المنسوجات إلى الغرب عن الطريق البحري، كذلك انتقلت إليه عن الطريق البري على الساحل الشمالي الأفريقي، كما أنها انتقلت إلى أوربا الشرقية كما يستدل على ذلك من العملة الإسلامية التي ترجع إلى ذلك التاريخ والتي عثر عليها في الطريق الرئيسية لأوربا الشرقية والسهول الشاسعة لبلاد الروسيا، مما وصل إلى بعض البلاد التي في أقصى الحدود الشمالية لبلاد الروسيا.
ويحدثنا ابن فضلان أن الروس كانوا يتجرون مع البلاد الإسلامية في فراء القندر والسمور والسنجاب، إذ كانوا يجلبونها من الشمال بطريق الماء على نهر الفولجا، ويأخذون بدلها المنتجات المصنوعة في العالم الإسلامي المتمدن. وكانت فرنسا، وإيطاليا، والدويلات الألمانية، وأسبانيا، وغيرها من بلاد أوربا تستورد المنسوجات من الشرق الأوسط لاستعمالها في القصور الملكية والأغراض الدينية في المعاهد الكنسية الغنية، حيث معظم النماذج المعروفة لتلك المنسوجات لا تزال باقية حتى اليوم، ولا سيما ما هو باق منها في الأقطار البلطيقية. وعلى مقتضى ما تقرؤه في دفاتر الحسابات الملكية الإنكليزية التي ترجع إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، كان ملك انكلتره قد اشترى منسوجات إسلامية ليضعها في كنيسة وستمنستر.
ولقد اطلعت في سجلات النفقات البيتية لملوك اسكتلاندة في سنة 1331 ميلادية، على أصناف تشتمل على قطع من الحرير الرقيق من إنطاكية وطرسوس وطرابلس الشام. وفي عهد الخلفاء العباسيين - بل في عهد الخلفاء الأمويين كذلك - كان بلاط الخليفة يستورد منسوجاته الثمينة من مجموعة عظيمة من المصانع التي تملكها الدولة لصناعة تلك المواد الثمينة وكانت تعرف تلك المصانع باسم مصانع الطراز.
ويقول رحالة العرب إنه كانت توجد مصانع للطراز في كثير من بلاد فارس، ومصر، وأفريقية الشمالية، وأسبانيا، كما يذكرون أنه كانت هناك مصانع للطراز في صقلية، وسوريا، والعراق، واليمن.
ومن المرجح أن المنسوجات كانت تحمل من هذه المصانع إلى قصور دمشق ثم بعد ذلك إلى قصور بغداد، حيث كان يلبسها رجال البلاط أو ينعم بها هدايا قيمة وتكريما للمنعم عليه بتلك الخلع، من رجال الدولة، حتى الشعراء والمغنين كما تحدثنا بذلك القصص الطريفة التي تملأ كتاب الأغاني.
على أنه ليس شك في أن هذه المصانع لم تكن من اختراع العرب الذين غادروا الصحراء وورثوا نظم وطرائق العيش عن البيزنطيين والفرس.
ويشير الجهشياري إلي أن ديوان الخراج كان يستعمل اللغة اليونانية في الغرب واللغة الفارسية في الشرق، حتى حدث التعديل بنقل لغة الديوان إلى العربية.
وهو يذكر ثبتا بالمنتجات الخاصة بكل إقليم، والتي حملت إلى بغداد بصفتها جزءا من الخراج وكثير منها كان من المنسوجات.
فمن المرجح إذن أن ديوان الخراج كان على اتصال وثيق بإدارة مصانع الطراز.
ويختلف المؤرخون في أصل نشأة الطراز، أكانت في مصر أم في العراق؛ ولكن المرجح أن الطراز كان في كل من القطرين منذ زمن لا تعيه الذاكرة، بقية من نظام الضريبة النوعية التي كانت تدفع ولقد كان الطراز من الأهمية في عصر العباسيين بحيث عين له رئيس خاص بادارته، ولم يقنع هارون الرشيد بشخص أقل من جعفر البرمكي نفسه لإدارة ديوان البريد، ودار ضرب النقود، ودار الطراز - وهي وظائف لابد أنها كانت تدر الخير.
وبانحلال الخلافة العباسية انحلالا تدريجيا شرعت الإمارات الصغيرة تستولي على دور الطراز السلطانية أو تنشئ دوراً جديدة، وعلى الخصوص في الأندلس وأفريقية الشمالية.
ولإمام اليمن مصنع ملكي للطراز في صنعاء من المرجح أنه منحدر انحداراً مباشراً عن مصنع الطراز الذي كان للخلفاء. وفي تاريخ غير معروف أنشئ مصنع ملكي للطراز على الضفة الشمالية لنهر دجلة بالقرب من الرصافة، ولا بد أنه كان يضم مساحة كبيرة من الأرض.
وكانت بغداد كما هو المنتظر من دخلها الضخم وبلاطها المترف وسكانها الذين يقدرهم بعض من يحتج بهم بمليونين من الأنفس - أعظم مركز لصناعة المنسوجات في العالم الإسلامي.
وكانت حلل ولاية العرش تصنع في دار الطراز حتى في العصور الأخيرة للخلفاء العباسيين المغلوبين على أمرهم والذين كادوا لا يملكون من سلطان الحكم أكثر من اعتمادهم لأولئك الذين كانوا يغتصبون السلطة في أيديهم.
فقد كانوا مثلا يرسلون مجموعة من الحلل الملكية لأمير مثل محمود الغزنوي، محتوية على منسوجات بغداد الخاصة.
وقد عثر علماء الآثار القديمة على نماذج موشاة بالكتابة من صنع دار الطراز ببغداد في أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية. وكان من الطبيعي أن أنواعا شتى من المنسوجات كانت تصنع أو تباع في العاصمة الإسلامية.
فاليعقوبي يحدثنا عن تجار للمنسوجات الخراسانية بالقرب من ناحية الكرخ وكانت بعض أجزاء مدينة بغداد تسمى بأسماء النسيج الذي تصنعه أو تبيعه فالنسيج الذي من صنف التستر كان يشترى من حي التستارية.
وتستر مدينة من مدن خوزستان على رأس خليج العجم.
ومن الشائق أن نذكر أنه كان في تلك الولاية كثير من مصانع الطراز ترجع نشأتها إلى عهد الدولة الساسانية التي كان ملوكها قد نقلوا الصناع من حدود رومية ليؤسسوا صناعاتهم في جنوبي بلاد العجم وفي العراق.
وربما كانت الثياب الديبقية تصنع في حي الديبقية على نهر عيسى، وهو طبعا نسيج أصله مصري، كما أنه قد يكون أكثر الأنسجة تردداً على الألسنة وأعلاها قدراً في ذلك العصر.
ويصف لنا الغرناطي نسيج العتابي بأنه مقلم كجلد حمار الوحش، وهو حيوان يقول عنه إنه من فصيلة الحمير، وقد رآه في القاهرة وعندما مات ذلك الحيوان حفظ جلده وحشي قطنا لعرضه في أيام المواسم. ولقد رأت الحكومة في تلك الصناعة الرائجة، صناعة الأنسجة، مصدرا لجلب الضرائب، فحاولت في القرن الرابع الهجري أن تفرض ضريبة على جميع المنسوجات المصنوعة من الإبريسم أو القطن في المدينة، مقدرة أن تجلب تلك الضريبة ألف ألف درهم للخزانة العامة.
ولكن الضريبة كانت مكروهة وسببت اضطرابات عنيفة، فقررت الحكومة فيما بعد ترضية الشعب بفرض ضريبة على المصنوعات الحريرية فقط.
وأنشئ مكتب بجوار بركة زلزل، وكانت جميع البضائع التي تدفع عليها ضريبة تختم هناك بخاتم الحكومة، وهو نظام يثير العجب لانطباقه على الأساليب الحديثة الآن. (البقية في العدد القادم) عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية

شارك الخبر

المرئيات-١