من سير الرجال
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
أميران. للأستاذ محمد عبد الغني حسن في العصر العباسي الأول كان أميران.
عاصر أولهما الخليفة المنصور في طفولة الدولة، وعاصر الثاني (المعتصم) في اكتمال شبابها.
ولكل منهما في الأمارة حوادث وأخبار في عصر المنصور بنيت بغداد، وجذب الخليفة إليها أنظار الناس ترغيباً في الإقامة فيها.
وقرب إليه الدعاة ممن توسم فيهم نبلة الأصل، وضخامة المجد الموروث. وكانت اليمن في ذلك الحين محتاجة إلى وال رحب الباع، فسيح الحلم، حسن السياسة، مبسوط اليدين، فلم يجد الخليفة في غير معن بن زائدة طلبته والأمير معن عريق في النسب، فهو من بني مطر الذين يقول فيهم الشاعر: بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ...
كأولهم في الجاهلية أول ولم يكن الأمير معن بخيلاً بعطاء، ولا ضنيناً بمعروف، بل كان يعطي عن سعة، حتى أدهش الناس بعطائه فقصدوه، والمورد العذب يكثر الزحام عليه والكرم وحده ليس مزية الرجال.
ففي الدنيا كرام يقلون أو يكثرون، ولكن مزية الرجل هي الكرم مع المروءة والجود مع الهمة، والعرف مع الأريحية، ومن هنا كانت شهرة معن.
ومن هنا كان اسمه في سجل أرباب المروءات فقد يعطي الكريم اضطراراً، أو مداراة، أو دفعا لمظنة، أو شراء لعرض، ولكن (معنا) كان يعطي للذة العطاء، ولاتصال المعروف، حتى بلغ كرمه إلى عدوه، ووصل نداه إلى خصمه، لأنه يفرق بين المعروف والخصومة حدثوا عن هذا الأمير إنه كان جالساً وعلى رأسه صاحب شرطته، فإذا براكب مقبل يتهيأ للنزول، فقال معن لرئيس شرطته: ما أحسب الرجل يريد غيري.
ثم أشار إلى حاجبه قائلاً: لا تحجب الرجل عني فلعل له حاجة، فنزل الرجل ومثل بين يدي الأمير وأنشد: أصلحك الله قل ما بيدي ...
فما أطيق العيال إذ كثروا ألح دهر رمى بكلكله ...
فأرسلوني إليك وانتظرو فترنحت أعطاف معن، ووصله بناقة فتية وألف دينار وهو لا يعرفه وقد أجمعت كتب الأدب على هذه الحادثة، وذكرها البغدادي صاحب (تاريخ بغداد) بسندها واحداً عن واحد ولقد بلغ من مكانة معن في الكرم أن الكرام بعده حاولوا أن يتأثروا في جوده.
فهذا الصاحب بن عباد وزير بني بويه، والذي ظهر بعد معن بأكثر من قرنين من الزمان، هذا الصاحب كان يعطي على طريقة معن أو يجود على مذهبه، فقد جاءه شاعر يمدحه، فقال الصاحب: قرأت في أخبار (معن) أن رجلا قال له: ارحمني أيها الأمير.
فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير هذا عليه، وقد أمرت لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس.
ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناك إياه.
! وكان في معن رجولة نادرة، وشهامة عربية عزيزة المثال، فلقد كان منقطعاً إلى الأمويين قبل ذهاب دولتهم، فلما جاء العباسيون خاف منهم، وظل في البلاد مستتراً عنهم حتى لا يقع في أيديهم، وجعل (المنصور) لمن يأتي به مالاً جزيلاً.
وظل الرجل ضارباً في الفلاة، هائماً في الأرض حتى لوحته الشمس.
وكان يتتبع الحوادث وهو متخف حتى لا تأخذه يد العباسيين، فلما استقام الأمر للمنصور، وكادت الدولة تتمكن، رأى (معن) من حسن السياسة أن ينضم إليهم، ولكنه تمهل في الأمر حتى تحين الفرصة.
وجاءته الفرصة سانحة.
فقد ثار جماعة من خراسان على المنصور، وأرادوا قتله في يوم الهاشمية وكان عند معن نبأ عن هذه الثورة، فخرج متنكراً، وما زال يقاتل دون المنصور حتى فرق الثائرين، فقال له المنصور: من أنت.
ويحك؟! فكشف لثامه في عزة وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين! (من ذلك الحين اتصل بالعباسيين وانقطع إليهم واستعين به على قضاء الحاجات عندهم، فما رد سائلاً، ولا خيب طالباً واشتد فضل الرجل، فاشتدت له عداوة الحاسدين وكشح الكاشحين؛ وهم في كل زمان لا تهدأ قلوبهم ولا تخبو نارهم.
وكانوا يكثرون القول فيه والخوض في أعماله أمام الخليفة، وهو هو صلابة عود وشدة أسر، لا يبالي بحربهم، بل كان يرد التهم في شهامة وإباء، وعزة وكبرياء.
فلقد حدثوا أن المنصور قال له يوما: يا معن! ما أكثر وقوع الناس فيك وفي قومك!! فقال: يا أمير المؤمنين: إن العرانين تلقاها مجسدة ...
ولن ترى للثام الناس حسادا وفي ذلك الرد من أخلاق الرجال ما فيه.
وكان معن على يسار في العيش وبسطة في الرزق، ولهذا ظل بابه مفتوحاً، ولم يمنعه من فتح بابه إلا سنة ضيقة، أو نقص في الأموال والثمرات، فكان يستحي أن يقابل الناس على تلك الحال حتى لا ينكشف نقصه، ويتعلل بالحجاب زماناً حتى يتسع الضيق أو يكثر السويق.
أما الأمير الآخر، فهو أبو دلف، وكان معاصراً للخليفة المعتصم.
ولقد بلغ عند الخلفاء محلاً عظيماً في الشجاعة وحسن القيام في المشاهد، وهو من (ربيعة) فهو يتفق مع (معن) في كرم الأصل، ولكنه يختلف عنه في الغناء وحسن الصوت! ويظهر إنه قسم حياته بين الشراب والشجاعة والعطاء، فلا تجد له في كتب الأدب خبراً إلا حول مجلس شراب أو وسط معركة، أو مقسماً على الناس العطاء وما نهاه الشراب عن مكرمة، ولا عوقه عن مروءة، ولا تأخر به عن معركة، فقد حدثوا عنه إنه كان جالسا يشرب مع جاريته (ظبية)، وعليه ثياب معطرة بالمسك، فجاءه الصريخ معلنا طروق الشراة وانتقاضهم على أطراف عسكره، فلبس درعه ومضى يقاتلهم، ويأسر منهم، ويضرب فيهم، حتى آخر الليل، ثم عاد في الصباح يغني: ليلتي بالسرادق ...
كللت بالمحاسن وجوار أوانس ...
كالظباء الشوادن بدلت بالممسّكا ...
ت أدراع الجواشن وانقطع إلى أميرينا شاعران من أهل المكانة والقدر، فانقطع إلى معن الشاعر مروان بن أبي حفصة وانقطع إلى أبي دلف الشاعر علي بن جبلة.
وكانت مدائح الشاعرين تثير على الأميرين أحقاداً وعداوات، وتخلق لهما مع الخلفاء عقداً ومشكلات، حتى لقد لام الخليفة المنصور الشاعر مروان بن حفصة على مدحه لمعن، والمأمون نفسه كان يحفظه أن يسمع من ابن جبلة مدحاً في أبي دلف، حتى لقد اشتدت به الحفيظة يوماً حين سمع قول هذا الشاعر في ذاك الأمير: كل من في الأرض من عرب ...
بين بادية إلى حضره مستعير منه مكرمة ...
يكتسبها يوم مفتخره وحق للمأمون أن يغضب، فإن مدح الحكام والوزراء والأمراء جائز على شرط ألا يكون فيه انتقاص للملوك أنفسهم، أو إغفال لشرف أقدارهم كان أبو دلف أريحياً يهتز للعطاء إذا وهب، ويطرب للشعر إذا سمع، وكان فيه شاعرية فياضة بلغت حد الارتجال في موقف العجلان، وتلك بديهة منه لم تفسدها العجلة ولم تعوزها الأناة، فقد أجاد حتى على حال الارتجال ولقد كان أروع ما في هذين الأميرين مروءة ونجدة، وشهامة ونخوة.
وفي تاريخ الأمة العربية إمارات وأمراء.
وهي بلا شك لا تخلو من مواطن كريمة للمثال الكريم.
ومن يقلب تاريخ هؤلاء الأمراء يجد فيهم ما يسر ويعجب وفي نشر محمدة واحدة ما يغني عن المحامد، وفي شاهد واحد ما يجزئ عن مئات الشواهد محمد عبد الغني حسن