أرشيف المقالات

من حروب التحرير:

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 تحرير سرقوسة للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ (إلى تلك السيدة الجليلة التي تقدمت تريد التطوع في صفوف المجاهدين وقدمت أبناءها الأربعة للذود عن حياض مصر، وإلى كل امرأة مجاهدة في سبيل مصر، أقدم هذه الصفحة الخالدة.) ع.
ع عندما بلغ (نابليون) أوج عظمته، وأرتفع إلى مصاف الأباطرة ووصلت فرنسا إلى ذروة المجد، كان قد وصل (شارل الرابع) ملك إسبانيا إلى درجة كبيرة من الضعف والتخاذل، ولم يكن أبنه (فرديناند) أحسن منه حالا، فقد كان متسما بالضعف والتخاذل وقلة الحيلة.
فأراد نابليون أن يولي على إسبانيا أخاه (جوزيف) وكان الفربيون يحتلون إسبانيا في ذلك الوقت، فخلع (شارل) وأجلس أخاه مكانه بغير رغبة أهل البلاد وتحت ضغط السيطرة والقوة ولكن الإسبانيين اللذين كان يغلى مرجل الغضب في نفوسهم على الغاصب المحتل ولا يجدون من يرفع الغطاء لينفجر المرجل في وجوه المستعمرين، فكان خلع (شارل) وتولية (جوز يف) بمثابة رفع الصمام، فهب الشعب الإسباني يذود عن كرامته، وهب معه النبلاء والأمراء، برغم معارضتهم لسياسة (شارل)، وصمم الجميع على الدفاع عن بلادهم والموت في سبيل استقلالهم، غير عابثين لما للعدو من عدة وعدد، فثار ثائر الفرنسيين وأرادوا سحق هذا الشعب الذي تجرأ على عصيان نابليون العظيم. وتجمع في مدينة (سرقوسة) بعض الضباط والجنود من أبناء المدينة وصمموا على ملاقاة العدو والدفاع عن كل شبر من إسبانيا مادام فيهم دم يجري.
ومع أن مدينة (سرقوسة) ليست من المناعة بحيث تستطيع الوقوف في وجه جيوش نابليون التي حطمت كل ما صادفها من حصون ومعاقل، فإن أهلها أخذوا يعدونها للمقاومة والصمود في وجه العدو بهمة لا تعرف الك كانت المدينة ذات أبنية عادية ضيقة الشوارع ملتوية الطرقات ليس بها إلا بعض الميادين الواسعة نسبيا، وكان يحيط بها سور من الحجر لا يزيد ارتفاعه على ثلاثة أمتار، فكان من السهل أن يقتحمه الجنود بأقل جهد. وحاصر الفرنسيون المدينة وظنوا أن دخولها لا يتطلب جهدا ولا مشقة وأنهم يعتبرون أنفسهم في نزهة.
وفي يوم 14 يونيو سنة 1808م اندفعت فرقة من الفرق الفرنسية نحو المدينة وانقضوا عليها انقضاض الصواعق، ولكن المدافعين عن المدينة تصدوا لهم وأصلوهم نارا حامية وأجبروهم على التقهقر. ورجح الفرنسيون يأكل صدورهم الحقد ويكاد يقتلهم الغيظ فقضوا الوقت كله في التأهب والاستعداد، حتى إذا كان اليوم التالي هاجموا المدينة بقوة وحنق، سالكين بابا من أبواب السور المسمى بباب بورتيلو، وأخذوا يلقون بأنفسهم في المعركة، ولكن المعركة انجلت عن هزيمة الفرنسيين وفوز السرقوسيين مما ضاعف حماسهم وقوى روحهم وبعث فيهم الثقة بأنفسهم فصمموا على الدفاع حتى آخر واحد منهم. وخرج الرهبان من أديرتهم والقسس من بيعهم ولبسوا ملابس الجندية ليشاركوا أبناء وطنهم الجهاد وقسم النساء أنفسهن أقساما كل منها يقوم بعمل خاص، من حمل الجرحى ونقل المؤن والذخائر للجنود.
ولم تتخلف واحدة منهن عن القيام بواجبها وأصبح كل فرد في سرقوسة جنديا يحمل السلاح. وفي ليلة 28 يونيو بينما كان كل مواطن آخذا مكانه المعد له إذا بانفجار شديد يدوي وسط المدينة، فهب الناس مذعورين لهذا الحدث المروع الذي أخذهم على غرة، فقد استطاع الفرنسيون أن يتسلل جواسيسهم داخل المدينة فيفجروا مخزنا للذخيرة، وهي العلامة المتفق عليها لبدء الهجوم. وهب الجنود مسرعين إلى سلاحهم وأضطر المواطنون أن يسارعوا إلى نجدتهم وأن يتركوا جثث الضحايا تحت الأنقاض والمجروحين بغير إسعاف وأشتد الهجوم وحمى وطيس القتال، وبلغ الهول منتهاه وتساقط المدافعون واحدا إثر واحد عند أحد الأبواب، وعندما سقط آخر جندي وأصبح المكان خاليا وعرضة لأن يندفع منه المهاجمون، كانت هناك امرأة تسعى إلى هذه المنطقة الخطرة غير آبهة بما حولها، لتقوم بواجبها، وإذا بها ترى المدافع بغير جنود وهناك في مكان قريب جماعة يستعدون للفرار، ورأت العدو يقبل كالسيل المنهمر، فأسرعت إلى أكبر المدافع وانتزعت أدوات الإشعال من الجندي القتيل خلف المدفع وأشعلته وآلت على نفسها ألا تترك مكانها حتى الموت واستمرت في إطلاق النار.
ولما رأى الجنود الآخرون ما فعلته هذه المرأة، عادوا إلى أماكنهم وأخذوا يطلقون النار على العدو وانضم إليهم بعض الضباط. كان القتال شديدا جدا والمقاتلون يتساقطون من الفريقين من حول هذه المرأة (أوجستينا) وهي صامدة في مكانها توالى إطلاق النار وتحث الجنود على الثبات وتبعث في نفوسهم القوة والعزيمة، وهكذا ظلت تمثل أعظم أنواع البطولة النسوية، حتى تراجع المهاجمون خائبين. وبعد أيام من هذه المعركة وكان كثير من النساء قد احتللن أماكن الجنود الذين قتلوا، وكن أشد تحمسا من الرجال، هب الفرنسيون يملأهم الغيظ والحنق، وعلى غرة اقتحموا أحد أبواب المدينة وكانوا كلما وقع في أيديهم شيء أحرقوه فأحرقوا مستشفى وديرا مليئا بالجرحى.
وأرسل قائد الحملة الفرنسية إلى حاكم سرقوسة كتابا يطلب منه التسليم أو إحراق المدينة كلها، فلما شاور الحاكم المواطنين هبت أوجستينا حانقة وهي تقول: (لا، لن نسلم للعدو حتى نهلك جميعا) وأمن الجميع على قولها فكتب الحاكم إلى قائد الفرنسيين يقول له: (ستظل الحرب بيننا حتى تصير بالمذى).
فاهتاج الفرنسيون وأخذ القتال شكلا وحشيا مروعا، فقد كان ينتقل من طريق إلى طريق ومن بيت إلى بيت بل ومن غرفة إلى غرفة، واشتد الأمر وتكاثر القتلى، ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المواطنين اللذين صمدوا للعدو صمود الأبطال. وأخيرا وصلت إلى سرقوسة نجدات قوية، أنزلت الرعب والفزع في قلوب الفرنسيين فاضطروا إلى الانسحاب بعد قتال دام أربعة أيام وبعد حصار دام خمسين يوما. أما أوجستينا فقد انتشرت أنباء بطولتها بين الناس فتوافدوا يكللون جبينها بأكاليل المجد والشرف، وخلدها الشعراء وعلى رأسهم الشاعر الإنكليزي العظيم (لورد بيرن) بأبيات في غاية الروعة ستظل أنشودة المجد إلى الأبد. هذه هي أوجستينا التي بلغت قمة المجد رغم أنها من طبقة فقيرة.
وكم من النساء خلدهن التاريخ لمواقفهن الوطنية الرائعة؛ ونساء مصر لسن أقل من غيرهن شجاعة وقوة، وهاهي بوادر هذه الوطنية تظهر في صورة هذه المرأة الخالدة عبد الموجود عبد الحافظ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢