أرشيف المقالات

شذرات في الحياة:

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 1 - عبقرية الكذب!.
. للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر أقبل صاحبي وعلى وجهه تجهم الغضبة، وتكثر الوثبة؛ فقلت: حسبك!، ماذا دهاك؟ قال: أحسبك تعمق في التحليل كعادتك، حتى يكاد التكلف يلحق بتفكيرك قلت أني أكلف بالمعرفة، وابغض التكلف، ويشفعني إحالة المظهر إلى المنطق، فإذا كنت مغيظا، ساكون دائما غائظك! قال: مادمت تحلل نفسية الكاذب، فلا أجند حبيباً إلى قلبي سوى إغاظتك لي! قلت: وما الإصر الذي اثقل نفسك حتى جعلك مثقلا بالهموم؟ قال: أن الكذوب يسخر مني، ويحسبني في غفلة! قلت: في مقدورك أن تحيله إلى غفلته؛ فيكون هو المغفل! قال: ها أنت ذا تعمد إلى الإيهام حتى تغمض عين أسلوبك! قلت: ليس ثمة غموض ولا إغماض؛ فالأمر ايسر من أن تملأ به تفكيرك السليم؛ فالكذب (تعمية)، ولا يعمي الأمور بسوي الضعيف المتهافت على الخداع، لأنه يرى في أعماقه (غموضا)، ويخشى أن ينكشف هذا الغموض الذي يستقل به إحساسه.
فما أشبهه بالمتلصص الذي يريد السرقة على ضوء مصباحه، لأنه يسرق نفسه، ويغش حسه، في حين يعتقد أنه موهم وهو واهم! قال: أغريزة الكذب؟ أم خليقة مصنوعة؟ قلت: لقد قرأت عنه، لكن لم يرضني ما قرأت.
وليس ذلك غروراً؛ فإن المنطق أساس المعرفة في عقدي، والكاتبون لم يطلوا إلا من نوافذ نفسية ضيقة محيلين الواقع إلى الافتراض، والتخيل، والوهم، مع أن الحقائق الإنسانية يمكن استقاؤها من أسلوب السلوك، والكذب مظهر من مظاهره؛ فلابد أن يكون هناك ارتباط بين حياة الكاذب وطبيعة إعداده، وتكوينه، وتنشئته، والحياة لم تمنح الأفراد منحها على غرار واحد؛ فنشأ (الحرمان) الذي يوجد في النفوس المحرومة ثغرات تتسع كلما تقدمت الأيام بهذه النفوس؛ والمنطق الطبعي يجعل سلوك المحرومين ذا شذوذ نؤاخذه عليهم في الوقت الذي نضني فيه ولا نؤاخذ أنفسن عليه. قال: أتظن (الكذب) قدراً مشتركا بين الأفراد؟ قلت: لا أقول مقولي على الإطلاق، وإنما أسوقه في مساق التحليل الإنساني كوحدة مرتبطة الأجزاء في كل نفس بشرية؛ فأنت قد تأخذك شهوة الكذب إلى التوريط في أمر لا تحبه؛ وقد يخلصك من مأزق تأزمت به نفسك! قال: لكني أسألك عن الكذوب الذي يهوي الكذب لذاته. قلت: أن التهافت على الرغبات منذ تحبو الغرائز في مصدر الإنسان لا تجد من يحد من حدتها، فتقود صاحبها إلى تحقيق هذه الرغبات في الواقع أو التوهم لإشباع التهافت، وتحقيق الكيان الوجودي! وقلت: لا تحسب الكاذب يصطنع الحقائق، وإنما تصورها (أحلام يقظته) فيريد تحقيقها بحسب ما ترى هذه الأحلام، وهو يجد لذة عجيبة تعزيه عن الحرمان، وتدنيه من المتعات البعيدة.
.! قال: كأنك تحبذ الكذب، وتوجه الكذابين.
قلت: رويدك!.

أما تعرف من نطلق عليهم أسم (الفشارين).؟ إني أتجه بتحليلي إلى هذا الصنف من الناس؛ فهم ظراف، لطاف، بحابيح يرفهون عنا بأكاذيبهم أعباء الحياة، ويحلقون بأجنحة أخيلتهم حتى يرتفعوا عن دنيا الحقائق المرة إلى الرؤى الحالمة، والمرئيات الوهمية، فهم يشبعون على مسغبة، ويبلون الريق على ظمأ، ويمتعون مع حرمان! قال: لكنهم يضايقوننا في اصطناع ما ليس حقيقة. قلت: أسائلك بحقك.
ألم تأخذك (البحبحة) في بعض أمرك، فتترك نفسك على السجية، فتدعى أنك أكلت (الديك الرومي) وأمعاؤك تكذبك. وتقول: لقد أغرقتنا في شراب العدس؟! قال: ليس التفكه مقام بحثنا، فصور لي مدى سخرية الكاذب من سامعيه. قلت: إن الكذب على الأسلوب الذي صورته لك هو القدر المشترك بين سائر الناس، والكذاب (العبقري) هو الذي يمكنه قيادة العقول إلى تصديق ما يقول، ولست محبذا خلقية الكذب على الإطلاق، لأنها قائدة كل رذيلة من الرذائل، ومدعاة إلى النفور، وعدم الثقة، وشناعة السمعة. لكني أقول: إن الكاذب (المتعمد) في كذبه الذي يبغي الإضرار بالناس، والاستخفاف بهم، والنيل منهم، وإلغاء عقولهم، يجب أن تلطم أكاذيبه بالتسفيه، والزجر، والتحقير، والتزييف، وقد نعتوا الكذب قديما بأنه لا ذاكرة له، والصدق يتبع الأسلوب المنطقي في صحة نتائجه ومقدماته، والكذوب مضطرب القول يذكر الشيء ونقيضه في وقت واحد، لأن الزمن لا يسع السلب والإيجاب مرة واحدة، فالواقع أن الكذاب (مغفل كبير) لكنه يغفل كثيرا عما يسوق من حقائق ملفقة، وأحاديث موهومة، فيثبت آنا، وينفي ما أثبته آنا، وهو في الحالين مضطرب النفس، معذب الإحساس، يود في قرارته أن يفصح عن الحق، ولكن تمنعه (رغبته) في الكذب من الانحياز إلى الوقائع الصحيحة السليمة. قال صاحبي: وكيف ننسبه إلى التغفيل؟ قلت: الأمر سهل! كر على قوله بالزيف، وذكر ذاكرته الغافلة عما يسوق من تخالف، وتباين، وتناف، فتسخر من سخريته وتريح نفسك؟ قال: كم أنا مغيظ من الكذاب الأشر! قلت: هون عليك!.

ثم قل لي: أليست حياتنا أكذوبة كبيرة؟! بور سعيد أحمد عبد اللطيف بدر

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣