أرشيف المقالات

القَصَصُ

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
8 الغيب عن الإنجليزية من روائع (وست) للأستاذ عبد القادر حميدة (مسرحية في فصل واحد) الأشخاص: ريتشارد ألين: أستاذ جامعي سابق إدوارد لين: ضابط متقاعد المنظر: (حجرة استقبال بمنزل المستر ريتشارد ألين في (لوتون) إحدى المدن الصغيرة بإنجلترا.
.
الساعة الخامسة والنصف من أصيل اليوم السادس من يونيو عام 1936 - المستر ألين جالس إلى مكتبه يكتب - وعلى مقربة منه قصاصات من أوراق مكتوبة.
.
وزجاجة من النبيذ وكأسان.
.
يتناول الكراسة فيمزق آخر ورقة سطرها.
.
وحين يلقي بها على المقعد.
.
يصل إلى سمعه دق على الباب فينهض من مكانه.
.
ويفتحه)
ريتشارد: أدخل يا مستر لين. إدوارد: (في غرابة) أتعرف اسمي؟ ريتشارد: كنت أتوقعك إدوارد: أظن أن الدكتور (راودن) تحدث وإياك بشأني معي رسالة يقدمني بها إليك.
.
آمل أن لا تزعجك هذه الزيارة غير الرسمية.
. ريتشارد: (يتناول الرسالة ويلقي بها على المكتب دون أن يفضها) أنا لا أهتم بالرسميات.
.
إني أمقتها.
.
أتسمح لي أن أتناول قبعتك ومعطفك.؟ (يتناولهما منه ويضعهما على مقعد بجانب المكتب).

(إدوارد جالس) ريتشارد: (يمسك زجاجة النبيذ وينزع سدادها.
.
ويفرغ منها في جوف كأسين)
.
.
لعلك تشاركني الشراب.
.
إنها مناسبة طيبة لنحتفي بك.

(أثناء الشراب).

في أي يوم نحن.؟ إدوارد: في اليوم السادس من يونيو ريتشارد: لنشرب حتى الساعة السادسة من اليوم السادس من الشهر السادس عام 1936 إدوارد: (وهو يتناول الكأس) إنها الآن السادسة تماماً.
. ريتشارد: (في فزع).
.
لا.
.
ليست كذلك.
.
والآن.
.
أبسط إلي الأمر الذي من أجله أردت أن تراني إدوارد: لقد طالعتني إحدى الصحف بمقال عنك نادتك فيه بالرجل الفريد في (لوتون) والأستاذ الجامعي الذي لا يود مطلقاً أن يتحدث إلى أحد.
. ريتشارد: ترهات.!! أنا لست بمثقف.
.
ولست بأستاذ جامعي الآن.
.
ثم إني أتحدث إلى كثير من الناس.
.
بيد إني لا أحب أن أجادلهم.
.
إني أكره مباحثة الأشياء معهم.
.
لأنني لا أجد أية راحة في البحث والنقاش. إدوارد: أنا لا أظن أن يوجد في (لوتون) أناس كثيرون تجد مناقشاتك في نفوسهم هوى.
.
فما (لوتون) إلا مدينة ضئيلة ملئ بشرذمة من أغبياء القوم.
.
الذين لا يثرثرون إلا في أمور عادية هي أشد تفاهة من عقولهم المصدئة.
.
وإذا عن لهم أن يطرقوا باب المناقشة فليكن في الحثالات والنفايات. ريتشارد: قد يكون هذا هو الصواب.
.
وقد لا يكون فأنا لم أقابل إلا أفراداً قلائل منهم.
.
وإن كانوا قد تحدثوا إلي في شيء من الذكاء.
.
إلا إنني لم أجد لذة في حديثهم.!! وأنت.
.
هل أتيت لتقيم هنا على الدوام.؟ إدوارد: أجل.
.
أجل.
.! ولقد اعتزلت عملي، وسأظل هنا على الدوام.
.
وإنه ليسعدني أن ألقاك من وقت لآخر.
.
وستجد في محدثاً يحسن الجدل في لباقة.! أنا لا أفخر بذكائي ولست أقصد التواضع.
.
فهو أغث من الكبرياء.! لقد ارتحلت كثيراً.
.
واطلعت بتوسع.
.
وخبرت الحياة.
.
فوقفت على الكثير من خباياها.! وإني أعتقد أنك سوف ترتاح إلي عن الآخرين.
.
هل تجد في حديثي إليك أي غضاضة أو عدم ارتياح؟ ريتشارد: حقاً.
.! إنك تملك عقلاً سليماً.
.
وتستعمله استعمالاً طيباً.
.
ولكنك سوف لا تتمكن من الوصول إلى السر الذي أنطوي عليه.
.
قبل أن أودع الحياة.
.
وهاهو ذا اعترافي.
. إدوارد: يمكنك أن تثق بي.
.
وإنه ليبدو لي أنني أعرفك من قبل. ريتشارد: (وقد تناول وسادة موضوعة على المكتب) ضع هذه خلف ظهرك لتريحك.
.
أوه.! أجل.
.
أنت تعرفني من قبل.
.
لقد التقينا في مدرسة القديس أنطوني. إدوارد: (مستذكراً) نعم.
.
لقد تذكرت الآن.
.
(ديك ألين) منافسي الخطير الذي فاز بجوائز المدرسة دوني.
. ريتشارد: أجل.
.
لقد كنا في المدرسة زميلين.
.
كنت أنا مثال الطالب الغبي الذي يتخذ مكانه في مؤخرة الصفوف.
.
وكنت أنت أنموذجاً رائعاً للجد.
.
سواء في عملك أم في لهوك.
أما أنا فقد كنت أرتبك في أبسط الحاجات.
.
كم كنت أنظر إليك بعين الحاسد.
.
لنجاحك المطرد إدوارد: إنك لم تكن غبياً كما تعتقد.
.
ولكنك لم تجد ميلاً من نفسك لدراسة الأشياء.
.
والتغلغل في أعماقها.
.
إنك لم تكن عملياً بالمعنى المنشود ريتشارد: لم أكن أبداً عملياً.

(لحظة صمت وشرود).

ذات يوم.

حين كنت في المدرسة.

عثرت - دون قصد - على كتاب غريب أسمه (قوى العقل الغامضة). إدوارد: أتقصد قراءة الأفكار؟ أذكر أني قرأت بعض تجارب لهذا النوع.
.
كم كانت مسلية للغاية.
.
فمثلاً.
.
الرجل يفكر في رقم من الأرقام.
.
أو أسم من الأسماء.
.
فتذكره له زوجه.
.
ولكن التجارب لم تكن دائماً موفقة. ريتشارد: لا.

لست أقصد قراءة الأفكار.

إن ما أعنيه هو معرفة (الغيب).
ومعرفة الغيب هي إدراك المستقبل والتنبؤ به.

والإنسان الذي يوهب هذا الشيء الخارق.
.
تكون له القدرة على لمس الحوادث قبل وقوعها.
.
قال الكاتب هذا.
.
وقال أيضاً إن هذه القوى نادرة الوجود جداً.
.
ففي كل مليون آدمي.
.
واحد فقط هو الذي يملكها.
.
وغالباً ما يجهل هذا الواحد أنه يملكها! قال الكتاب إن هذه القوى يمكن تنميتها وفسر كيف يكون ذلك. إدوارد: (في دهشة) أنا لا أفهم شيئاً مما تقول.
.
زدني إيضاحاً. ريتشارد: (متضايقاً) سل نفسك عدة أسئلة عن أشياء تتوقع حدوثها.
.
دون أن تشغل عقلك بشيء.
.
وعندئذ ستتوارد الإجابات على ذهنك. إدوارد: هراء.! إنه غير ممكن.
.
وليس لمخلوق القدرة على التنبؤ بالغيب. ريتشارد: أرجوك.
.
لا تقاطعني.
.
أنصت إلى قصتي العجيبة: لم أكن سوى طفل صغير غير مصدق ما يضمه هذا الكتاب بين دفتيه.
.
وهل اكتملت فيه عوامل الصواب.
.
أم لا.؟.
حاولت بادئ ذي بدء أن أتنبأ بأشياء صغيرة على سبيل التجربة، فمثلاً كنت أسائل نفسي: من الذي سيقتحم علي الغرفة بعد؟.
وخطت محاولاتي خطوات واسعة.
.
حتى أقدمت على ذلك الاختبار التاريخي الذي كنت أخشاه لعقيدتي الراسخة بأنه نوع من الخداع وحاولت التنبؤ بالأسئلة التي سوف تلقى علي. إدوارد: وماذا كانت النتيجة؟ أذكر أنك صعدت فجأة إلى القمة.
.
وصرت تبزني بعدها في كل الامتحانات. ريتشارد: نعم لقد كنت دائماً أحمل لك في نفسي الحقد والحسد لتفوقك علي.
.
ولكن بعد ذلك.
.
بدأ نجمي في الصعود.
.
وأخذت أحوز السبق في المعمعة دونك.
.
لأنني أصبحت مخادعاً عبقرياً.
.
أجل.
.
إنه اعتراف صارخ مني بأن نجاحي كان خدعة كبيرة.
.
ثم سارت حياتي في ركب الحياة على تلك الوتيرة وهذا هو سر فشلي. إدوارد: ولكنك بتلك القوة الخارقة.
.
تستطيع أن تنال قسطاً وافراً من النجاح.
. ريتشارد: انتبه.
.
لقد كسبت جائزة مدرسية كما تعرف.
.
ثم حصلت على مجانية التعليم الجامعي.
.
وكل جائزة جامعية وصرت في طليعة المتقدمين.
.
ولم يجرؤ أحد على منافستي.
.
ولما نلت إجازة التدريس عينت أستاذاً بالجامعة.
.
وأذكر أني كنت أحدث أستاذ تولى ذلك المنصب.
.
وبعدها.
. إدوارد: (في تحفز) ماذا حدث؟ ريتشارد: قدمت استقالتي.

لقد كان يجب علي أن أستقيل كنت أجهل المادة التي أدرسها.

وهي الأدب الإنجليزي.

إذ كان عقلي لا يحمل سوى القدر اليسير الذي اجتزت به الامتحان.

أعني الأسئلة التي تنبأت بها.

ودرست الإجابة عنها. إدوارد: وماذا كان من أمرك بعد؟ أوفقت في الحصول على عمل آخر؟ ريتشارد: أرسلت طلبات عدة.

ضاعت معها محاولاتي أدراج الرياح.

بيد أني في النهاية وفقت إلى عمل متواضع.

كمدرس بسيط.

ولكني استقلت. إدوارد: (في عجب) استقلت! كيف ذلك؟ إني أعتقد أنك سوف تكون مدرساً موفقاً.
لاسيما وأنك ستعرف ما ستأتي به الامتحانات.

وسينجح تلاميذك بفضل إرشادهم إياهم إلى الإجابة الصحيحة. ريتشارد: (في أسف) أجل: كان من السهل أن أفعل ذلك.
ولكن ضميري لم يسمح لي بأن ألقي بتلاميذي في بؤرة الجهل التي تحتويني، فلم أرض أن أخدعهم.
وتجنبت مواضع الأسئلة التي سيمتحنون فيها.

وكان أن رسب جميع التلاميذ فرميت بعدم الكفاءة على التدريس.
.
وأقصيت من عملي وواجهتني عاصفة هوجاء من الفقر.
.
فقلت لنفسي.
.
إذا لم يتيسر لي الحصول على المال الشريف فسأنهج أي طريق آخر للحصول عليه.
.
(يرمق إدوارد بنظرة طويلة شاردة) ألم تذهب يوماً إلى السباق.
.
ألم تراهن على جواد ما؟ إدوارد: راهنت أكثر من مرة.
.
ولازلت أراهن على المملكة الفضية. ريتشارد: (وقد أسبل جفنيه وقتاً).
.
راجا هو الأول.
.
المملكة الفضية هو الثاني.
.
الحظ هو الثالث.
.
سوف تخسر كل مراهناتك يا مستر إدوارد! لقد ربحت من وراء المراهنات مالاً طائلاً.
.
ولكني لم أتذوق لذة هذا الربح لأني كنت أعرف أنني سأربح دائماً.
.
إن لذة المال ليست في كسبه.
.
وإنما هي في التنقيب عنه والجري وراءه!! إدوارد: إنك مثالي للغاية.
.
ولم تحاول مطلقاً أن تقنع نفسك بلذة الحصول على هذا المال. ريتشارد: (مستطرداً) ولما لم أشعر بلذة هذا الربح.
.
عولت على ترك المراهنات.
.
والتحقت بمكتب للتأمين.
.
كنت قادراً على أن أدلي بآرائي السديدة إلى الشركة فأشير عليها مثلاً بقبول تأمين هذا.
.
لأنه سيحيى طويلاً.
.
وبرفض ذاك لأنه سيموت غداً! ولاقت توجيهاتي رواجاً محموداً.
.
فتبوأت في الشركة مقعد المجد والشهرة.
.
وعينت وكيلاً لها بإحدى المدن الضخمة.
.
ثم مستشاراً عاماً لجميع شركات التأمين.
. إدوارد: لعله عمل طيب ومدر للربح في وقت واحد! ريتشارد: لا بل كان على النقيض.
.
لأنني كنت أدرك خطورة الجرم الذي أقدم عليه.
.
لقد كانت الشركة دائماً تستحوذ على أكبر قدر من المال.
.
والجمهور هو الذي يخسر.
.
هل تسول لك نفسك أن تحرم إنساناً حقه.
.
فتسلب أمواله.
.
لتقدمها إلى الشركة.
.
وربما أنت تعرف أن أسرته وأولاده في مسيس الحاجة إلى هذا المال؟ إن التأمين الوحيد الذي جعلني أشعر بالسرور ذلك الذي أشرت على الشركة أن تعقده - وكنت أدرك نتيجته - فخسرت الشركة كل أموالها.
.
ولهذا طردت من عملي. إدوارد: إنك ذو قلب كبير، وضمير مستيقظ.
.
ولكن لماذا لم تخض ميدان التجارة.
.
أو الصناعة.
.
وفي مقدورك أن تفلح دون أن تؤذي الآخرين.؟ ريتشارد: حاولت كلتيهما ولكني لم أستمر.
. إدوارد: كيف؟ تقصد أنك لم تفلح في تجارتك؟ ريتشارد: كنت موفقاً إلى حد بعيد.
.
فصار لدي المال الوفير.
.
وأصبحت من ذوي الثراء.
.
ولكني فقدت لذة العراك في سبيل الكسب.
.
وهتفت بالسعادة من ورائه فضللت السبيل إليها.
.
إن مجرد كسب المال ليس كل ما ينشده إنسان طموح يحاول جاهداً أن يساير ركب البشرية المواج الذي يتدافع بالمناكب نحو غاية سامية.
.
إن المنافسة والنضال.
.
والرغبة في الغلبة.
.
والأمل في الربح.
.
هي السعادة المأمولة لرجل الأعمال.
.
المال يمنح النفوذ والقوة.
.
ولكن النفوذ والقوة لم يكونا عماداً للسعادة.
إن الأعمال يجب أن تقترن دائماً بالمنافسة.
.
إنها مباراة يكسب فيها كل جدير بالكسب! أما أنا فكانت منافستي خالية من حرارة النضال.
.
لأنني كنت أعرف أن الظفر لي.
.
وحينما أظفر.
.
يتراءى أمام عيني شبح الخداع الذي أتوارى خلفه.
.
فأتألم.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣