أرشيف المقالات

أسبوع في تاريخ الأزهر.

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ محمد محمد المدني ليست الأزهر جامعة من الجامعات المحدثة التي عاصرت جيلاً أو جيلين من الزمان؛ وليس الأزهر وليد ثقافة واحدة لم تبلُها الأحداث، ولم تصقلها التجارب، ولم تمحصها العقول والأيام.
إنما الأزهر تاريخ حافل بأمجد الذكريات، وسفر ممتلئ بأروع الآثار؛ إنما الأزهر عمر ثقافة عالية في اللغة والفقه والتشريع، ومثال من أمثلة التدرج الهادئ الرزين في العلم والتفكير والنضوج. أليس من العجيب مع هذا أن يقال: (أسبوع في تاريخ الأزهر) وهل تحسب الأسابيع والشهور في تاريخ طويل ممدود لا يحسب بالعشرات من السنين، وإنما يعد بالمئين؟ بلى أنه لعجيب، ولكنه مع ذلك الأسبوع، وسيظل أسبوعاً معروفاً متميزاً لا تغمره هذه المئات من السنين! ذلك هو الأسبوع الذي ابتدأت فيه مناقشة الرسائل التي قدمها لأول مرة الطلاب المتخرجون من كلية الشريعة لنيل شهادة (الأستاذية) في الشريعة الإسلامية احتفل الأزهر بهذه المناسبة احتفالاً ظاهراً لا فيما أعده لها من مكان منظم منسق، ولا فيما وضعه لها من نظام محكم دقيق، فإن الأزهر يسير في أمثال هذا على طبيعته الساذجة التي لا تعرف الدعاوة ولا تحب الإعلان. ولكنه كان احتفالاً ظاهراً لما احتشد له من علماء وطلاب، ولما شهده من رجال الفكر وأهل العلم، ولما ضم في نسق واحد بين ألوان مختلفة من التفكير، وعناصر متباينة في وجهات النظر. جمع هذا الحفل بين العالم الكبير الذي عاش طول حياته في ظل ثقافة محافظة ترى التجديد خروجاً على الدين، وافتياتاًً على السلف الصالح من علماء المسلمين، وترى الاجتهاد والنظر مزلقة من مزالق الهوى والضلال، وبين العالم الشاب الذي يرى الحياة أمام عينيه قد اصطبغت بصبغة غير التي يعهدها هؤلاء الآباء، واتسمت بطابع غير هذا الطابع الذي ألفوا أن يروها متسمة به، والذي يرى من حقه بل من واجبه ألا يعيش بعقله وروح عصور عفّي عليها القدم، وأخنى عليها الزمن، بينما يعيش بجسمه وعمله في عصر العلم، والتفكير الحر، والتجديد النافع! جمع هذا الحفل بين العالم الذي ظل عمره في أحضان الأزهر وبين ريوعه، وبين العالم الذي عاش دهراً في أوربا فرأى ما لم يكن قد رأى، وعلم ما لم يكن قد علم، فاشتجر في نفسه القديم مع الحديث، وامتزج في ثقافته الشرق بالغرب. وكنت ترى إلى جانب هؤلاء وأولئك طلاباً أزهريين يحرصون في لهف وشوق، وإلحاح وإصرار على شهود هذا الحفل، والاستماع إلى نقاش فيه وجدال بين طالب منهم، وأعلام من أساتذتهم على أساس الحجة والبرهان، والبحث الحر، والنهج العلمي المستقيم. وكنت ترى في هذا المحيط الأزهري الصاخب زواراً من غير الأزهر، جاءوا ليشهدوا هذه المناقشة العلمية التاريخية التي تدور في الأزهر لأول مرة والتي يرأسها رجل من أفذاذ المفكرين، وكبار المصلحين، وهبة الله عقلاً ممتازاً وفكراً رشيداً وقلباً جريئاً. ودارت المناقشة، وتجلت فيها حرية الرأي سافرة ليس من دونها حجاب، سليمة لم تفسدها مداراة ولا مصانعة ولا تخوف.
وانطلق العلم فيها على سجيته لا يتعثر في تركيب من تراكيب المؤلفين، أو لفظ من ألفاظ المصنفين، وسمعنا مبادئ لا نعدو الحقيقة إذا عددناها جديدة في جو الأزهر، أو حسبناها توجيهاً صالحاً للتفكير العلمي بين العلماء والطلاب، ومبدأ لتحول دراسي خطير في حياة هذا المعهد العظيم وكان من المبادئ الجليلة التي سمعناها ما قرره فضيلة الأستاذ الإمام المراغي من أن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء وفرعوا عليها، واختلفوا فيها، وتمسكوا بها حيناً، ورجعوا عنها حيناً: إنها أحكام الدين، وأن من أنكرها فقد أنكر شيئاً من الدين، فإنما الدين هو الشريعة التي أوصى الله بها إلى الأنبياء جميعاً؛ أما القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والدافعة للحرج فهي آراء للفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعاً لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها، وتبعاً لاختلاف البيئات والظروف.
ولو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما نرى من اختلاف الفقهاء بعضهم مع بعض، وتفنيد كل آراء مخالفيه، وعدها باطلة، لحقت علينا كلمة الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) وهذا معنى قد جلاه الأستاذ الأكبر في هذه المناسبة، وكان قد عرض له برفق في أحد دروسه الدينية عند تفسير قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وكان من المبادئ التي قررها فضيلة الأستاذ الأكبر أيضاً مسألة تأثير العرف في المعاملات، وقد ضرب لذلك مثلاً بأن عُرفنا الحاضر قد أهدر المعايير والأوزان في التعامل بالذهب والفضة، فأصبحنا نصرف الذهب بالفضة من غير نظر إلى الوزن ولكن على أساس العد، وكذلك الأمر في صرف الفضة بالفضة. وكان من المبادئ التي قررها فضيلته أيضاً التفريق بين ما حرم لنفسه وما حرم لغيره، وما ينبغي على هذا التفريق من جواز إباحة الأخير عند الحاجة. وسمعنا أيضاً مبدأ من المبادئ الهامة فيما يتصل بالمروي عن رسول الله ﷺ، يقوم على أساس التفريق بين ما يقرره النبي ﷺ على أنه مبلغ عن الله، وما يقرره على أنه أمام للمسلمين، وما يقرره على أنه قائد للجيش في زمن الحرب، وما يقرره على أنه قاض.

الخ، وأن بعض ذلك يكون ملزماً للمسلمين في جميع عصورهم، وبعضه لا يكون ملزماً. سمعنا ذلك كله، ورأينا آثاره بين السامعين، وسمعنا غيره من أعضاء الهيئة العلمية التي كانت تناقش الرسائل، ثم تحرينا أن نعرف آثاره في أحاديث العلماء والطلاب، وتحرينا أن نعرف آثاره في الفصول الدراسية، فإذا الجميع طوال هذا الأسبوع مشغولون، بهذه المبادئ يتناقش فيها الأستاذ مع الأستاذ، والطالب مع الطالب، ويرغب الطلبة إلى أساتذتهم في تفصيل مجملها، وتوضيح مشكلها، والتمثيل لها، والتطبيق عليها ولعل من الظواهر السارة التي تستحق التسجيل أننا رأينا لأول مرة احتياطاً في التعليق، وحرصاً عند التعقيب، وزهداً في وصف الناس بالخروج أو المروق، وانصرافاً إلى الفكرة من حيث هي فكرة، لا باعتبارها قولاً يخفي وراءه غرضاً من الأغراض. ونحن نسجل هذه الظاهرة الهامة في تاريخ الأزهر مغتبطين ونهيئ عليها فضيلة الأستاذ الإمام، كما نهنئه بهذا الأسبوع الفريد في حياة الأزهر العلمية، ونرفع إلى فضيلته اقتراحين. الأول: أن يأمر بوضع خلاصة لهذه المناقشة تعرض فيما بعد على فضيلته لإقرارها وإذاعتها بين أهل العلم، فإن هذه الصفحة جديرة بأن تضاف إلى تاريخ الأزهر كظاهرة من ظواهر الرقي الفكري في عهد الإمام المراغي. الثاني: أن يعمل على أن تكون مناقشة السادة الأجلاء، المرشحين لجماعة كبار العلماء، مناقشة علنية، فإني أعتقد أن من حق العلم عليهم أن ينشروا بين الناس ثمرات عقولهم، وأن يقطعوا ألسنة الناقدين، وأن يردوا بذلك على الذين يتساءلون: لماذا يفرض على طلاب الأستاذية هذا اللون من التمحيص العلمي على ملأ من الناس أجمعين، بينما تمر رسائل (أساتذة الأساتذة) متسللة في خفية وتستر؟ محمد محمد المدني المدرس بكلية الشريعة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١