أرشيف المقالات

أم عمارة. . .

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!) محمد رسول الله للأستاذ محمد محمود زيتون (1) امرأة عربية مسلمة من طراز نادر، يحق للمرأة الحديثة أن تقف طويلا على معالم حياتهها، وتتأمل مشاهد جهادها وتتبصر عوامل العظمة التي جعلت منها عضوا بارزا في سجل الخلود تلك هي أم عمارة: نسيبه بنت كعب بن عمروا بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وأبناءها حبيب وعبد الله كان لأم عمارة مؤهلات المجد والكمال، ومستندات الحسب والنسب، فهي من بني النجار، وما أدراك من بنو النجار! بنو النجار أخوال محمد رسول الله أي أخوال جده عبد المطلب سيد العرب، وعمدة المكارم في الجزيرة.
بنو النجار الذين نزلت بهم آمنة ومعها محمد اليتيم الذي لم يتجاوز من عمره ست سنوات، وهنالك رأى الزروع والضروع والقصور والآبار.
بنو النجار الذين نزل بهم النبي المهجر من مكة فدعوه إليهم حيث المنعة والعدد والعدة والحدائق.
بنو النجار الذين خرجوا إليه رقاق القلوب، يقول غلمانهم: طلع البدر علينا ...
من ثنيات الوداع وتقول جواريهم وفي أيديهن المعازف والدفوف: نحن جوار من بني النجار ...
يا حبذا محمد من جار فيقول لهن: أتحببنني؟ فيقلن: نعم.
فيقول: الله يعلم أن قلبي يحبكن بنو النجار الذين اصطفاهم النبي ليسترضع فيهم ابنه إبراهيم، وائتمن على رضاعته بردة.
بنو النجار الذين كانوا للنبي أنصارا، أولئك الذين رقت مشاعرهم، وأشرقت أساريرهم، ونعمت نساؤهم بالجمال والكمال، وعرفن بالظرف والرقة، والغزل والطرب.
بنو النجار الذين قال النبي فيهم (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثمبنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير) في هذه الجواء العاطرة بالمرح والنعيم، وفي تلك الأرجاء الحافلة بالبطولة والرجولة، وفي بيت بني مازن، نشأت أم عمارة، وكانت من ربات البيوت اللأئي أفضن على الأزواج والأولاد من إيمانهن بالله ورسوله، فاستنارت القلوب، وارتفعت الجباه، بما دعا إليه نبي الإسلام من توحيد الله، واتحاد العباد وكانت أم عمارة إحدى اثنتين من نساء يثرب جاءتا في الحجيج إلى مكة قبل الهجرة، وبايعتا النبي فيمن بايعه ليلة (العقبة الكبرى) ويالها من ليلة مشهودة، أنبثق من حواشيها السود، طلائع النور في يثرب الفيحاء وليس من الهين على التاريخ أن ينسى أم عمارة وأم منيع وهما اللتان ظفرتا ببيعة النبي، فقد أخذ عليهما من غير مصافحة، وأقرتا له فقال لهما: اذهبن فقد بايعتكن وذهبتا لتمهيد النفوس للبشارة المحمدية الصافية، ولاستقباله يوم يقدم المدينة مهاجرا من قريش التي أخرجته من مكة، ولولا أن أخرجوه لكان له المقام الدائم في بلد به بيت الله الحرام، فهو لذلك احب البلاد إليه، والصق الأوطان بجلده، وأعمقها أثرا في لحمه ودمه وطلع البدر على يثرب من ثنيات الوداع، ونزل بدار (أبي أيوب الأنصاري) وتوافد المهاجرون إرسالا من مكة، واخذ كل أنصاري يستضيف اخاه المهاجر حتى ليكاد أن يشاطره ماله، وينزل له عن إحدى زوجتيه حبا وكرامة، ولم تنقطع جفان بني النجار خاصة والأنصار عامة عن منزل رسول الله.
تطعم منها ويطعم البائس الفقير من أهل الصفة يالها من اربحيه تهز المكارم الملية في نفوس الأنصار رجالا ونساء، شيبا وشبانا، سواء في ذلك الأوس والخزرج، وقد اعتصموا بحبل الله (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) وانقلبوا بعد العداوة والراوة إخوانا وأحبابا، ورفت على صدورهم نعمة الإسلام، وتضوعت بين أعطافهم رياحين الأيمان في بيت من تلك البيوت، كانت شعلة الأيمان أسد توهجا، وأنصع بريقا، وكلما توالت الأيام، اتسعت آفاق الدعوة، وانتشرت أقطار الخير، على الرغم مما كان يبديه اليهود، ويخفيه المنافقون، وترجوه قريش ولعل هذا الثلوث المعادي، كان العامل الأول في ازدياد عدد الأنصار، وإنقاذ جذوة الأيمان، واستعداد الكتائب لكل طارئ، وهم الذين بايعوا نبيهم على العسر واليسر والمنشط والمكره وقول الحق ولو كان مرا، لا يخشون في الله لومة لائم، ولا ينازعون الآمر وأهله أيقن الأنصار أن قدوم النبي عليهم إنما فاتحة عهد جديد لهذا الدين الذي جاء ليشق بالمهاجرين والأنصار طريق الجهاد، وإنها لإحدى الحسنيين: نصر دين الله، أو استشهاد في سبيله، وكان ما كان من أمر النبي في غزوة بدر، حيث انتصر المسلمون وهم قلة في العدد والعدة جاءت أم عمارة يوما تقول لرسول الله: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى للنساء شيئا: فتلا عليها قول الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الله، لهم مغفرة وأجرا عظيما) ولزمت أم عمارة غرز نبيها الكريم، وكانت امرأة ضابطة جلدة، قوامة، لها من النفوذ والتأثير في بيتها وأهلها وجاراتها وصواحبها ما جعل الناس يتحدثون عنها كلما ذكروا خير نساء الأنصار، والسابقات منهن إلى الإسلام ولم يكن ليفوت أم عمارة أن توثق صلتها بأهل البيت، بيت النبي الكريم، لترى عن كثب كيف تعمل فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وسيدة نساء أهل الجنة، فاطمة البتول العابدة الزاهدة، ولترى فيها المثل الأعلى للمرأة المجاهدة بنفسها في سبيل الله.
.
ولتشهد مع هذا كله أمهات المؤمنين، وما ينعمن به عند الرسول الكريم من رعاية وعناية، وما يسعدن به من دون النساء من علوم الدين على يدي رسول هذا الدين واستحوذت على أذهان نساء يثرب فكرة أخذت عليهن كل سبيل، فما وجدن عنها منصرفا، ولا أردن عنها متحولا، وسرت هذه الفكرة بينهن غاديات رائحات، فأصبحت حديث الصباح والمساء، وكلما رأين رجالهن يدرجون في مراقي الجهاد سراعا، استصغرن عيشتهن هذه الضيقة، وكادت قلوبهن تطفر من أقفاصها لتنطلق كالسهام في ميادين الجهاد هذه أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأل رسول الله فتقول: يا رسول الله: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم، وان الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟؟ عندئذ التفت النبي بوجهه إلى أصحابه من حوله، وقال: هل سمعتم مقالة امرأة احسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول.
فقال لها: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، أن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) وانصرفت أسماء وهي تهلهل وتكبر، استبشارا بما قال لها رسول الله، حيث لا زيادة لمستزيد.
وترامى حديث أسماء إلى أسماع حزب النساء، فكان لهن من هدى الرسول نور يسترشدن به في هذه الحياة الأجتماعية، التي تزخر بالحيوية، وتفيضبالنشاط على غير ما كان معهودا في المدينة من قيل، بل ما كان ابعد نساء يثرب عنه، قبل أن تشرق عليهن شمس الإسلام، وقبل أن ينقشع الوخم والوباء عن الناس، ولولا دعوة النبي لها ما طاب بها مقام، ولا لذ فيها معاش وأرادت أم المؤمنين عائشة أن تظفر بتصريح من زوجها النبي الكريم علها تأتي حزب النساء بجديد، يضاف إلى ما يشغل بالهن من أمر (جهاد المرأة)، فسألته ليأذن لها في الجهاد فقال: جهادكن الحج) وسألته غيرها من أمهات المؤمنين عن الجهاد فقال: نعم الجهاد الحج هذا وفي رأس أم عمارة فكرة تكاد أن تنفجر ولكنها تستبقيها إلى حين، وفي صدرها وثبة إلى هدف كريم، وما كان أحرصها على الأستثئار به دون غيرها.
.
إنها آمنت وصدقت كل ما جاء على لسان النبي من القرآن والسنة.
وهي امرأة من النساء وما قاله النبي لهن إنما يصدق عليها، فلا مفر من تسكين نزعتها المدوية بين جوانحها، ولا مناص من الإذعان - كسائر النساء لأوامره ونواهيه، ومن أمهات المؤمنين، وهن ما هن شرفا ومكانة ولكن أم عمارة قد أصرت إصرارا على أن تحمل السلاح وتنتظم في الصفوف، وتجاهد مع المجاهدين.
فهل خرجت بذلك عن طوع القيادة؟.
وهل خالفت عن أمر قائدها الأعلى؟.
.
كلا وما كان لها أن تفعل، ولكنها ذات امتياز على سائر النساء حتى أزواج النبي منهن، لأنها صاحبة عهد مع رسول الله منذ العقبة الكبرى، وهو الذي بايعها على الجهاد، فما ينبغي لها أن تنقض البيعة وأن كان للنساء في تصريحات النبي ذريعة للخروج من باب الجهاد.
. أفهل وقر في الأذهان أن بيعة العقبة أصبحت - ولو بالنسبة لأم عمارة وأم منيع - غير ذات موضوع.
أم أنها استنفذت أغراضها، وفقدت صلاحيتها منذ هاجر النبي إلى المدينة، واستقر بها، وقال وأم عمارة وأسماء ما قال من إعفاء النساء من فريضة القتال.
.؟ الحق أن القتال كره للرجال، ومع ذلك فقد كتبه الله عليهم، ومن يدري لعله يكون لهم خيرا.
.
من هذا الباب دخلت أم عمارة وحدها، بعد أن صممت تصميما تاما على الجهاد مع رسول الله، ولديها من المبررات ما بسند رأيها إذا أحتدم الجدال عرفت أم عمارة أن جهاد النساء ليس واجبا، فلم لا يكون تطوعا، وها هي قريش بقضها وقضيضها، وخيلائها قد غادرت مكة ليس بها داع ولا مجيب، تحارب الله وتحاد رسوله، ليكون لها يوم بيوم بدر، وهذا أبو سفيان قد استخف قومه فأطاعوه وترامت الأنباء إلى النبي، فأعد لهم من القوة ومن رباط الخيل ما استطاع، ونادى المنادي للجهاد فتقاطر المسلمون إلى الصفوف كأنهم بنيان مرصوص، منهم الغلمان أمثال رافع بن خديج وسمرة ابن جندب وأبو سعيد الخدري، وغيرهم ممن عرفوا بالرماية والمصارعة على حداثة أسنانهم، ومنهم عائشة وأم سليم وقد تطوعتا لنقل الماء على متونها لتفرغاه في افواه القوم، ومنهم الكهول الذين تاقت نفوسهم إلى الاستشهاد في سبيل الله كاليمان حسيل ابن جابر ورفاعة بن وقش ولم يقبلا أن يبقيا مرفوعين في الآطام مع النساء، ومنهم عمرو بن الجموح الذي اخذ يعدو إلى رسول الله ومن خلفه بنوه يصدونه وقد أعفاه الله من الجهاد لأنه اعرج، أما هو فقد أراد أن يطأ بعرجته في الجنة.
ومنهم حنظلة الذي لم يبت ليلة عرسه إلا ليصبح على جنابة، فما أن سمع الهيعة حتى طار إليها ليكون غسيل الملائكة بين السماء والأرض، واصطفوا عند (أحد) ظهورهم إلى الجبل أفكان يهون على أم عمارة أن ترى هؤلاء وهؤلاء، وتقف هي من خلف الصفوف، والأمر يومئذ جد لا هزل، وقد لزم كل من المجاهدين والمجاهدات المكان الذي أمر به، وحذرهم النبي إلا يبرحوا اماكنهم، وامرهم بان يحموا ظهره وإلا كرت عليهم قريش بخيلها تحت إمرة خالد ابن الوليد ودارت رحى القتال، وحمى الوطيس، واختلط الحابل بالنابل، وانقض المسلمون إلى الغنائم فتخلوا عن أماكنهم فانكشف النبي لعدوه، فكروا عليه كرة واحدة، وما أن رآهم يغشونه حتى مظر إلى من حوله وقال: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار فقاتلوا دون لرسول الله، رجلا ثم رجلا، يقتلون من دونه حتى كان آخرهم زياد فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فائت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه وانفض المسلمون من حول النبي، وتركوه قائما، فاقبل ابن قمئة وقد اختصر حرابه، وانقضى سهامه، وجعل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت أن نجا.
ونساء قريش يذمرن الرجال، ويضربن الدفوف، وبنو عبد الدار يخشون أن تسقط اللواء منهم فلا يرتفع لهم راس في قريش ابدا، وهم لذلك يستجيبون لهذه الراجزة هند بنت عتبة وصواحبها، وهن مقبلات مدبرات ويقلن: ويها بني عبد الدار ...
ويها حماة الأدبار=ضربا بكل بتار نحن بنات طارق ...
نمشي على النمارق=مشي القطا البوارق والمسك في المفارق ...
والدر في المخانق=أن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق ...
او تدبروا نفارق=فراق غير وامق والتحم القتال، وقد اصمد المسلمون لا يلوون على أحد، والنبي يقول لهم: أي عباد الله! أخراكم! ولكن ذهبت دعوته أدراج الرياح، وان كان بعض الناس قد احدقوا بالنبي، ونثروا كناناتهم بين يديه، وأبو طلحة الأنصاري يقول: وجهي لوجهك فداء يا رسول الله.
ثم يرمي اشد ما يكون الرمي، ويصرخ في القوم فكأنه زئير الأسد تتجاوب أصداؤه في جوانب الغاب، ولذلك قال النبي وقد سمع صوته يجلجل.
(صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا) وكان حول النبي سعد بن أبي وقاص، وسهل بن حنيف وأبو دجانة، وقد اعتصب بالموت الأسود وزيادة بن الحارث الذي اخذ يرمي دون نبيه حتى مات شهيدا ونادى عدو الله بن قمئة في الناس: أن محمدا قد قتل.
.
وإذا بالناس قد انتثروا من الحرب كما تنتثر الحبوب من بين شقي الرحى، وهي تدور في يد شيطان رجيم، ويستوقفهم مصعب بن عمير فيقول لهم: اثبتوا، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا أقماك الله يا ابن قمئة، وكبك في النار يا أبا عامر، وشلت يداك يا عتبة.
.
أهكذا يشج وجه رسول الله، وتدخل حلقتا المفغر في صدغيه، فينزعهما أبو عبيده بأسنانه، فتكسر رباعية النبي وتشق شفته، ويسيل الدم على وجهه، فيمسحه بن عمه وختنه علي، ويتأثر النبي فيقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويتنزل عليه جبريل الأمين بقول رب العالمين: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ويتفقد كعب بن مالك نبيه في هذه الغمرة، فيراه بحمد الله على غير ما يدعي عدو الله، فيتلفت إلى المسلمين، يبشرهم بان نبيهم لا يزال على قيد الحياة، فيشير النبي إليه أن أنصت، ثم تعتمل القوافي في وجدان شاعر النبي إذ يرى الكفار يظهرون الشماتة، وما تخفي صدورهم اكبر، فينبري لهم ويقول: إن تقتلونا فدين الله فطرتنا ...
والقتل في الحق عند الله تفضيل وإن تروا امرنا في رأيكم سفها ...
فرأى من خالف الإسلام تضليل أين أنت في هذه المعمعة الدائرة يا أم عمارة؟ (للكلام بقية) محمد محمود زيتون

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن