أرشيف المقالات

أسمعي يا مصر

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوى نائب معتمد دار العلوم بندوة العلماء بلكهنو بالهند أحييك يا مصر بتحية السلام وأحي فيك الزعامة للعالم العربي.
الزعامة التي كانت عن جدارة واستحقاق، لا عن احتكار واغتصاب، وإنك تحلين اليوم في العالم العربي محل السمع والبصر، ومحل العقل والفكر، رضى به الناس أم لم يرضوا، ولكن الواقع لا ينكر أحي فيك يا مصر نفاق سوق العلم ورواج بضاعة الأدب، وتقدير رجال العلم والفن، فقد أنجبتهم واحتضنتهم ودافعت عنهم، وحدبت عليهم، فهم أبناؤك البررة وأنت الأم الحنون أحي فيك الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين والعلم للعالم الإسلامي، والذي لا يضارعه ولا يزاحمه في تقدم السن وطول العمر وامتداد الظل وكثرة الإنتاج معهد أو جامعه على وجه الأرض أحي فيك المكتبة العربية التي فاضت وامتدت كالنيل وأصدرت كتبا ومطبوعات عربية لو وضع بعضها فوق بعض لكانت مثل الأهرام أو أرفع أحي فيك على اللغة العربية وجهادك في إحيائها ونشرها ورفع شأنها وتوسيعها حتى أصبحت بجهود أدبائك وكتابك، وبفضل الصحافة المصرية والحياة السياسية، وبفضل حركة التأليف والترجمة والنشر، وبفضل المجمع اللغوي؛ لغة راقية عصرية علمية سياسية فنية لا تقل في غزارة مادتها وقابليتها لتعليم العلوم العصرية والطبيعية والرياضية عن أي لغة من لغات الغرب أحي فيك عددا مشرفا من الأدباء والكتاب، فيهم الكاتب المبدع، والمترسل القدير، والأديب الفنان، والباحث الناقد، والعالم الضليع، والمؤرخ الأمين، والفيلسوف الحكيم، ولمحدث اللبق، والروائي المصور، والمتهكم اللاذع، والمضحك المطرب، والمصلح المنتقد، والشاعر المطبوع، والسياسي المناقش، والصحاف البارع، إذا كتب أحدهم في موضوع ردد العالم العربي صداه، وافتخر المتأدبون بتقليد أسلوبه والنسج على منواله، واحتجوا به كما يحتج بشعر القدماء أحي فيك يا مصر هذا وغير هذا، وكن لي معك اليوم شانا آخر.
إن لي معك كلاما أرجو أن تلق إليه سمعك وتشهديه قلبك فأنا ضيف قد نزل بك، ومن حسن الوفادة وتمام الضيافة الاستماع إلى كلام الضيف والإقبال عليه بالسمع والقلب إن مسئوليتك يا مصر أوسع وأعظم من تأدية رسالة الأدب وخدمة لغة العرب، وما تجودين على الأقطار العربية الشقيقة برشحات الثقافة الأوربية وفتات المدينة الغربة.
إنك بين آسيا وأوربا فأنت ملتقى الثقافتين ومجمع البحرين.
إنك وسط بين مهد الإسلام ومشرق نوره؛ وبين مولد الحضارة الغربية ومبعث العلوم المصرية، فعليك مسؤولية القارتين، وعندك رسالة الثقافتين وأما مسؤولية آسيا والأقطار العربية فلا تخرجين منها يا مصر حتى تكوني قنطرة تعبر عليها إلى البلاد العربية تجارب أوربا وعلومها ونشاطها وكدحها في الحياة وجهادها للبقاء، هنالك تقومين برسالتك ووظيفتك لهذه البلاد العزيزة التي ترتبطين بها برابطة دينية وروحية وثقافية وسياسية وأما مسؤولية أوربا فلا تخرجين منها حتى تبلغي رسالة الجزيرة العربية - وهي الإسلام الذي احتضنته من زمان - إلى أوربا، وحل المشاكل التي أعيت كبار المفكرين وأتعبت عظماء المشرعين، وبذلك تؤدين واجبك المقدس نحو هذه القارة الأوربية التي استوردت منها شيئا كثيرا من العلم والمصنوعات والمنتجات، ونظمت عليها مدنيتك وحياتك تنظيما جديدا، وتحسنين إليها أكثر مما أحسنت إليك وتصدرين إليها أفضل مما صدرت إليك إنك يا مصر قد بنيت القناطر الخيرية فانتظم الري وازدهرت الزراعة وأخصبت البلاد؛ وأريد أن تبنى قنطرة خيرية أخرى هي أكبر القناطر في العالم وانفعها، تصل بين بحرين لم يزالا منفصلين، وبين حضارتين لم تزالا متنافستين، وبانفصالهما وتنافسهما شقي العصر الجديد، فلو إنك وصلت بينهما وكنت قنطرة تتبادل بها القارتان خيراتهما ومحاسنهما؛ وفرت على الإنسانية جهودا وأوقاتا كثيرة وصنتها من الضياع كما أن قناطرك الخيرية وفرت على مصر مياه ونظمت أمر الري تقد كان حفر قناة السويس اكبر حادث في التاريخ العصري غير مجرى التاريخ وأحدث انقلابا في السياسة والتجارة؛ ولكن من يستطيع أن ينكر أن شقاء الأمم الشرقية كان أعظم وأعظم من سعادتها، وأنها لم تجن من السويس إلا عبودية واستعمارا.
والعالم الآن في حاجة إلى قنال آخر، قنال التعارف الصحيح والتبادل المتوازن، وإليك وحدك يا مصر، القيام بهذه المبرة العظيمة لمكانك الجغرافي وأهميتك السياسية وثروتك الثقافية ومركزك الروحي.
تعلمين أن دولة تتزن ميزانيتها ولا تتحسن أحوالها الاقتصادية إلا إذا وجد توازن بين حركة التصدير والتوريد، أو كان تصديرها أكثر من توريدها، ولمننا في الشرق نورد أكثر مما نصدر، وكان السويس أكبر مطية من مطايا هذا التوريد، فلا نريد قنطرة أو قنالا يكون معبر البضائع الأجنبية من أفكار وآراء وفلسفات وأخلاق إلى أعماق الشرق وأحشائه، بل نريد قنالا يساوي بين التوريد والتصدير، ويصدر أفضل ما عند الشرق الإسلامي من رسالة وعقيدة وخلق وعلم، ويورد أحسن ما عند الغرب من منتجات ومصنوعات وتجارب واكتشافات ومرافق الحياة، فكوني يا مصر ذلك القنال الأمين العادل الذي لا يسمح بالمرور إلا للصالح للفاضل إن لك يا مصر يدين، فخذي من الغرب ما فاق فيه من علم وتجربة فالحكمة ضالة المؤمن، ومدي إليه يدا أخرى، يد المساعدة والكرم، وجودي بما أنعم الله عليك من نعمة الأيمان وشرف الإسلام فذلك الذي لا يملكه الغرب ولا يستغني فيه عنك، وقد أنهى به إفلاسه فيه إلى ما ترين من فوضى وانحلال، فتصدقي عليه بهذا الأيمان ورسالة الروح، ولا تنسى أبدا اليد العليا خير من اليد السفلى كوني يا مصر رسول الإسلام إلى الغرب، واحملي إليه رسالة محمد ﷺ، تلمك الرسالة تلتي حملها العرب إلى الأمة الرومية والأمة الفارسية فأنقذتهما من مخالب لموت وأفاضت عليهما ثوبا قشيبا من الحياة ولونا جديدا من النشاط، وليس الغرب أقل حاجة إلى هذه الرسالة وهو في دور التفكك وتنازع الموت والحياة إلى الأمة الرومية والفارسية إليها.
وقديما اختار الملوك وأصحاب الرسالة السماوية رسلا من عشيرتهم والأقربين إليهم، ولك من إبراهيم وإسماعيل ومحمد ﷺ رحم ماسة وقرابة خاصة ليست لقطر من الأقطار الإسلامية بعد الجزيرة العربية إن أوربا قد شاخت ونضجت كالفاكهة التي أدركت وضعف الغصن عن حملها، فاستعدي يا مصر الإسلامية لتحلي محلها في الزعامة العالمية وقيادة الأمم، وما ذلك بعزيز ولا بمستحيل، إذا تم استعدادك الروحي والخلقي والمادي.
وإذا كانت أوربا قد احتفظت بالقيادة العالمية هذه المدة الطويلة وليست عندها رسالة عامة للإنسانية ولا دعوة مخلصة لأمم العالم وعندها كل ما يضعف ثقة العالم بها من وطنية وعنصرية وتقديس للنسل الآري وإدلال باللون الأبيض ونزعة تجارية وإستعمار، فكيف لا يرضى العالم بقيادتك وعندك الرسالة التي تضمن سعادة العالم كله، ودين لا يفرق بين الأوطان والعناصر والألوان؟ احرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم، وصوني شبابهم وشرفهم ودينهم وصحتهم من أن يعبث بها العابثون أو يتجر بها المتجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لتروج بضاعتهم وتزدهر تجارتهم، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة والصور العارية والأدب المكشوف، فإنك يا مصر في محل الزعامة والقيادة للشرق الأوسط وفي طريقك إلى الزعامة والقيادة للعالم الإسلامي، ولا تأتي الزعامة والسيادة إلا بعد الاستقامة والثبات في مزالق الإنسان، والنجاح البارز في امتحان العفة وطهارة الأخلاق، واذكري قصة يوسف التي مرت على أرضك، ووقعت بين سمعك وبصرك، كيف ثبت في الامتحان وكيف حافظ على دينه وعفته، فكانت نتيجة ذلك الثقة والاعتماد والسيادة والملك، واقرإي أن شئت (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أن يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)؛ بل ولا حياة ولا شرف إلا بالرجولة والأخلاق، فكيف وأنت في ميدان القتال وساحة الجهاد فلا بد أن تحفظي وصية قائدك الكبير سيدنا عمر بن العاص وتذكري ما قال لخلفائه في أرضك (واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم والى داركم) فكافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة أشد مما تكافحين وباء الكوليرا الذي يقضي على حياة بعض الأفراد؛ وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك، ويزلزل الأيمان ويفسد الخلق، أشد مما تطاردين من ينشر الوباء أو يسبب الأمراض أو ينقل إلى أرضك المكروب، فلم نسمع أن الأمة الرومية العظيمة ماتت وبادت بسبب وباء أو مرض، وأن اليونان اجتاحهم مرض من الأمراض، ولكننا قرأنا في التاريخ وشهدت أنت أن هذه الأمم كانت كلها فريسة التفسخ الخلقي والأمراض الأجتماعية، فأحذري يا مصر - صانك الله وحرسك - هذا المصير المؤلم إن العالم العربي قد أحلك يا مصر من نفسه محلا رفيعا ووضع ثقته فيك وفتح لك أذنيه وعينيه، فأتقي الله يا مصر فيمن ائتمنك ووثق بك في نفسه وعقله، ولا تصدري إليه من أدبك ومطبوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه وقوته المعنوية وروحه، كما لا ترضين ولا ترضى كرامتك ومروءتك أن تصدري إلى زبائنك من الدول والبلاد الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة ولا تقبلين أن يصدرها إليك أحد، وصدقيني يا مصر العزيزة أن هذه الروايات الخليعة والأدب الماجن أفسد وأضر للأمة والحياة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة.
إنك زعيمة للعالم العربي فلا تغلبنك النزعة التجارية ولا تغرنك المنافع المؤقتة، فلا يكون زعيما ولا يكون عظيما من يؤثر العاجل على الآجل، والمنفعة الفردية على المنفعة الاجتماعية، والأثرة على الإيثار إنك يا مصر من أغنى بلاد الله، ولست أعنى بالغنى خصب الأرض وكثرة الموارد، وإنك لغنية من غير شك، ولكني أعني غناك في المواد الخامة وهي الشعب الذي توفرت المواهبوالقوى، خصوصا ما يسكن منه في أريامك، فهي المناجم التي لا تزال مدفونه، والمعادن التي لم تستخرج بعد، هذا الشعب قوي الأيمان قوي الشخصية، قوي الجسم، فلو أنك أحسنت تعليمه وتربيته وأفدت من هذا الأيمان ووضعته في محله لكان حارسك الأمين القوي وثروتك العظيمة قد أختار الله لك يا مصر من أوسع القارات وأكثرها مواد خامة هي القارة الأفريقية ولا يزال جزء كبير منها على سذاجته وفطرته، ولا تزال فيها أمم على الجاهلية والوثنية، وعلى الجهالة والضلالة، ولا تزال فيها أمم كاللوح الصافي يكتب الإنسان فيه ما يشاء، وهذه الأجزاء من القارة وهذه الأمم خير حقل لجهودك وتربيتك، وخير أرض لزراعتك وغرسك، فأرسلي إليها دعاتك المبشرين ورجالك المصلحين، وعلمائك المرشدين وأبنائك المعلمين، يبلغونهم الدين ويتلون عليهم آيات الله ويعلمونهم الكتاب والحكمة، وبذلك تنقذين بإذن الله نفوسا كثيرة من النار، وتخرجينها من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وتكتسبين قلوبا نقية وأرواحا فتية وأجساما قوية، ويكون ذلك خيرا لك من هذه الأمم والدول الغربية التي تخطبين ودها وتحرصين على صداقتها، وهي لا تدوم على حال بل تجري وتدور مع أغراضها المادية ومصالحها السياسية، فيوما هي معك ويوما مع أعدائك، وإذا كانت معك لم تكن بإخلاص وصدق، وإنما هي المطامع والمصالح.
وما أضعف الصداقة التي تقوم على المطامع والأغراض! وأخيرا أريد أن أقول في أذنك يا مصر إن الله في خلقه شوؤنا وأنه أعظم غيرة من كل غيور وأنه لا يعطي نعمة دينه إلا من يعظمها ويجلها ويقدرها حق قدرها، فإذا رأى منك استغناء عن الدين وما ينبئ عن احتقر لشأنه واستصغار لأمره وزهدا في الإسلام، وانصرافا عن خدمته وتقصيرا في أداء رسالته واعتزازا لمبدأ غير الإسلام وتشرفا بغير محمد عليه الصلاة والسلام أستغمى عنك - على مآثرك السابقة وثروتك الضخمة ومدينتك الفخمة - (سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) وجاء لخدمة الإسلام وقيادة الأمم الإسلامية بأمة لم تخطر منك إلى بال تعتز بالدين وحده وتتشرف برسالة الإسلام وتتشبع بحب محمد عليه الصلاة والسلام وتلتهب غيرة دينية وحماسة إسلامية وتجاهد في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم، وإن الله تعالى حذر العرب الأولين وقال لنبيه ﷺ (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وقال للمسلمين العرب (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ولله جنود السماوات والأرض، وفي كنانة الإسلام سهام لم يرها أحد ولا تخرج إلا في وقتها.
ومن يدري فلعل شمس الإسلام تطلع من المشرق وهذه أمم إسلامية فتية على سواحل المحيط الهندي وفي جزره تتحفز للوثوب وتتهيأ لقيادة العالم الإسلامي، فاحتفظي يا مصر العربية بمكانتك ومجدك ولا تأمني الأيام ولا تأمني مكر الله (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) هذه تحيتي إليك يا مصر العزيزة فتقبليها، وهذه آمالنا فيك فحققيها، وكلمة مرة في الأخير فتحمليها، وهذه معذرتي إليك فاقبليها، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته أبو الحسن علي الحسني الندوى (نزيل مصر) القاهرة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١