أرشيف المقالات

في الرحلة إلى الحجاز

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 الوميض للآنسة عزيزة توفيق هناك لحظات لامعة تومض في الحياة المرء وقد أحلكتها ظروف الحدثان.
وفي فيض من نور تلك اللحظة التي لمعت في حياتي وقفت أرقب الجموع المحتشدة المودعة لقطار الحجاج الذي يقلهم إلى السويس.
ابتعد القطار رويداً واستلقت على مقعد من ورائي أنظر إلى الباكيات أمامي، وأدير عيني في اللوحين بمناديلهم وقد اغرورقت أعينهم بدموع بدت من ورائها لهفة الفراق: كنت أشعر بفيض من سعادة شاملة لا تؤثر فيها تلك المناظر الحزينة: فعجبت لنفسي اليوم وكم رثيت من قبل للباكي وشاركت المخزون الملتاع! وصلنا إلى ميناء السويس وانشغلت بملاحظة الحمال وهو يحمل حقائبي وأمتعتي وأسرعت وراءه أعتلي يلم الباخرة وتركته لأبحث عن قمري، حتى إذا اهتت إليها تركت حاجاتي وخرجت إلى ظهر الباخرة لأراقب الجموع من جديد وأسمع للتنهدات وأرى الإشارات ولأبتسم في سكون.
ترى لم كل هذا الحزن؟ أولا يعلم القوم أنهم ذاهبون إلى حيث السعادة الكبرى؛ يصلون ويبتهلون لله في أوقات معلومة، وقد ابتعدوا عن زيف الحياة وأغراضها المتعبة، فيغسلهم من أدرانها ويغفر لهم ما تقدم من ذنبهم؟ لقد تركت أهلي وعشيرتي وعلى رأسهم أمي في بلدتي وحضرت القاهرة وحيدة لأستقل القطار إلى الباخرة وكلي فرح وابتهاج: روح تسيرها السعاة تسبح وراء شعاعها الذي برق في حياتي فحقق أمنية طالما خفق بها وترنمت بها روحي في صلاتي. ودوى البوق واهتزت الباخرة لتسير في تؤدة، وارتفع بجانبي صوت شجي حنون من حاجة ريفية: يا بحر يا رائي (رائق) ...
لا موج يعوق ولا ريح يضايق يا بحر يا كبير ...
لا موج يغرق ولا ريح يغير وزادت نشوتي ووقفت أطيل النظر إلى تموجات البحر الزرقاء وقد بدت منتشرة على صفحة الماء، وظهرت وهي نتسابق وتتلاحق كوشى براق خلاب.
وكأنما اجتذب هذا المنظر الساحر الأسماك فقفزت لاهية لاعبة مع الموج وقد بدا لونها الأحمر المزركش مكملاً للمجموعة اللونية المكونة من انسجام ألوان المياه الزرقاء البنفسجية وقد علاها وشى الموج الأبيض.
وتحركت شهوة الإنسان في صبى طباخ الباخرة فأسرع بشصه ليصطاد من جموع السمك ما سوف يجهز لنا به وجبة العشاء.
وأيقظني من تأملي صوت أجش متسائلاً: (لم لم تغادري الباخرة حتى الآن؟ لقد تحركت في تؤدة وعما قليل ستسرع ولن تتمكني من النزول) فتطلعت إلى صاحب الصوت في استغراب كأنما أوقظت من حلم بعيد، وللمرة الثانية يكرر قوله وأخبرته بأنني (حاجة)، وسرى هذا اللفظ (حاجة) في روحي متعة ولذة.
وإذ دخلت قمرتي وطالعني وجهي في المرآة ولاحظت شعري المصفف ألهمت أن الشرطي كان على حق؛ فما ينبغي أن أذهب عارية الرأس إلى البيت الحرام.
ومن ثم أسرعت بخلع ملابس المدينة وارتديت الجلباب الأبيض الفضفاض وأسدلت خماري على جيبي.
وشعرت إذ ذاك كأن وجهي قد ازداد نورا، وروحي قد اكتسب صفاء، وخرجت إلى ظهر الباخرة من جديد، لأمتزج بالحجاج فوجدت أن أغلبهم لم يخلع بعد ملابسه. ووافاني الشرطي معتذراً بأنه ما كان يظن أن صغيرة مثلي تقدم على الحج.
وللمرة الثانية نظرت إليه في تعجب وذهول، وتركته لأجلس مع صاحباتي وكلمته ما زالت تدور في فكري.
كيف ينظر الناس إلى الحج على أنه واجب الشيوخ وقد أثقلتهم ذنوب أعمالهم التي سطرتها سنو حياتهم ليتطهروا منها؟ أو كانت الفريضة وتأديتها وفقاً على الشيوخ دون الشباب؟ - وكأنما كان ينتظرني عجب آخر إذ سمعتهن وسنتهم في أحاديثهم وهي تعلو على هدير الموج يتذاكرون فيما تركوه من شؤون، وبدت في أحاديثهم الشجون؛ فمن شاكية زوجها وما تركتها إلا من ساعات، ومن باك على حبيب فقده، وحاقد على أخ اغتصب حقه من الميراث، وأنا أطل عليهم من تفكيري الشارد. أو هؤلاء الحجاج يا رب: الناس هم الناس في كل مكان حتى في الطريق إلى بيتك المعظم! ومر يوم وكاد الثاني ينقضي، وشاء الله أن يريح فكري، فدوى البوق واختلطت بدوية الزغاريد، واستيقظت على نغمات القطعة الموسيقية التي كونتها المقاطع المتوافقة ممتزجة بتصفيق الأمواج، ونظرت إلى ساعتي فإذا بها تشير إلى الثانية عشرة مساء، ومر في أدنى صوت يتحدث قائلاً بأننا قد وصلنا (رابغ) وأن علينا أن نبدأ الإحرام، وأسرع الجميع إلى الحمام وأنا فيهم لنستحم على ترانيم الزغاريد ونلبس ثياب الإحرام.
واجتمعنا على ظهر الباخرة، وكانت تلك هي اللحظة الخالدة التي تبعث الرهبة في القلوب، وتحرك أقسى النفوس صلابة.
الجميع في ابتهال وخشوع (لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك) وقد بدا الرجال عراة إلا من مئزر أبيض (بشكير) يدور حول وسطهم وآخر يغطي كتفهم الأيسر.
وارتدت النساء الملابس البيضاء الواسعة، والخمر وقد بدت مثل هالات جميلة حول وجوههن، وضربنها على صدورهن فظهرن في أبدع زي وأكمل زينة.
عمت الفرحة واشتركنا في التلبية؛ السيدات في صوت اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وإن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك) هانحن قد وفقنا ملبين وجئنا ساعين، نلبي نداءك أيها الإله العظيم.
هذا النداء الذي يسري في رو كل مؤمن، ويحرك قلبه في كل حين حتى إذا ما وافي ميقات الحج بعث فيه شوقاً ينطق ناراً ونوراً بمن استطاع إليه سبيلاً حيث يلبي النداء، وفاء بوعدك الذي وعدته لإبراهيم؛ فلقد رددت الجبال والوديان آذانه في الناس بالحج، وحملته للأثير ووجد مجالاً في قلوب المؤمنين ممن استنشقوه من البشر. ورحت معالم (جدة) من بعيد فزاد التهليل والتكبير. عزيزة توفيق كلية الآداب

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢