أرشيف المقالات

حاضر الأدب العربي

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
8 الكلمة التي ألقيت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني بالإسكندرية يوم 26 أغسطس سنة 1950 سيداتي، سادتي، دعاني إلى الكلام في حاضر الأدب العربي أمران: أولهما أن الأدب العربي هو الجامعة الروحية الحق للعرب جميعاً؛ اتصل بها حبلهم حين تقطعت الأسباب، وانتظم عليها شملهم حين شتت الوحدة.
ومزية هذه الجامعة إنها من وحي الله ومن صنع الطبيعة، فلا يوهي من عقدها تناقض رأي ورأي، ولا تعارض غاية وغاير.
وفضيلة أعضائها أنهم كالأنبياء يبنون لتعمر الأرض، ويبذرون ليحصد العالم، ولا يؤثرون بجهدهم وطناً على وطن، ولا يخصون بخيرهم قوماً دون قوم. لذلك كان من الخير أن يتحدث أعضاء هذه الجامعة بعضهم إلى بعض كلما واتتهم الفرصة لهذا الحديث. أما الأمر الآخر فهو سؤال من الأسئلة التي عرضتها الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية للإجابة عنها في هذا المؤتمر، ونصه كما ورد في الصفحة الثالثة عشرة من البرنامج: (ماذا يجب أن تعمله المدرسة للتغلب على النزعة الأدبية والكلامية المنتشرة في البلاد العربية، ولإشاعة روح التفكير العلمي بين شباب العرب) ولست أدري إلام يرمي هذا السؤال؟ أيرمي إلى قتل النزعة الأدبية في الشباب ليصبحوا جميعاً أصحاب علم ورجال عمل؟ وهل هناك تعارض بين الأدب والعلم فلا يجوز أن يكون للأديب من العلم ما يكسبه الضبط والدقة والوضوح، وأن يكون للعالم من الأدب ما يقيه المادية والثقل والجفاف؟ أم يرمي إلى أن الأدب كلام وأن العلم عمل، وشباب العرب وهم أحوج إلى النهوض المادي قد انصرفوا إلى الأدب عن العلم، ولهواً بالقول عن الفعل؟ إن كان ذلك ما يرمي إليه فإن الواقع يخالفه.
ولعل في تهافت الطلاب على شعبتي العلوم والرياضة ما يدعو إلى التفكير في مستقبل كليات الآداب والحقوق. على أن الكلام إذا كان ألفاظاً فارغة كان غثاء وثرثرة، فإذا كانت ألفاظه حافلة بما تمتع أو يقنع أو يفيد، كان إنتاجه عملاً مثمراً لا يقل خطراً عن صنع آلة أو اختراع قنبلة أو كشف دواء.
ورجال الأدب الخليقون بهذه الإضافة أقل عدداً في كل أمة من رجال العمل والمال والسياسة، ووظيفتهم وهي التفكير والتعبير أقوى أثراً في رقي الأمم من وظائف أولئك جميعاً. ومهما يكن من مرمى هذا السؤال فإنه هو والأمر الأول قد حرك في نفسي الكلام في حاضر الأدب العربي عسى أن يكون له من عناية المؤتمر نصيب أكبر، ومن رعاية رئيسه الأديب الوزير حظ أوفى سيداتي، سادتي، حاضر الأدب العربي لا يطمئننا كثيراً على مستقبله.
حظه من المنهج الحديث قليل.
وهذه القلة نفسها مئوفة بسوء الطريقة في تعليمه، وقلة الرغبة في تعلمه؛ فلا المعلم على الجملة صادق الجهاد فيما يعطي، ولا المتعلم على العموم حسن الاستعداد لما يأخذ، والأثر المحتوم لهذا الحظ المنكود في كمه وفي كيفه، ضعف الملكة فيمن يكتبون، وفساد الذوق فيمن يقرئون، وإذا ابتليت أمة بضعف الملكة فلا تحسن أن تعبر، وبفساد الذوق فلا تعرف كيف تقدر، أصبحت لغتها بينها أشبه بالرموز اللفظية البدائية، لا تشعرها بجمال، ولا تحفزها لكمال، ولا تربطها بماض، ولا تصلها بمستقبل. كانت علوم الأدب فيما مضى تدرس في الأزهر وفي دار العلوم وفي مدرسة القضاء وفي مدرسة المعلمين العليا وفي أشباهها من معاهد لبنان وسورية والعراق دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ، وفقه ما يعلم، وتعليل ما ينقد، وتحليل ما يذوق؛ فإذا اتصل النظر بالعمل، واقتران الحكم بالتطبيق، وصادف ذلك استعداداً في المتعلم، نبغ الكاتب الذي يكتب عن علم، والشاعر الذي ينظم عن فن، والناقد الذي يحكم عن تصور.
أما إذا قوى الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهي الوسائل ويقرب الموارد ويوجه المواهب ويسدد الخطى.
ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر، وتنمو لتنتشر، وتسمو لتخلد وكان من خريجي هذا المنهج القديم في التعليم، أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة، وجددوا شباب الأدب، وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة.
ولا يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر.
فإذا ما خلت أمكنتهم من المجتمع بعد أجل طويل أو قصير، فهل يخلف من بعدهم خاف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟ ليس أمام الراصد الأدبي من الظواهر الواعدة ما يحمله على أن يجيب عن هذا السؤال بنعم.
كل شيء يبعث على التشاؤم: منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد، كما كان المنهج السابق نظرياً يكاد يخلو من التطبيق.
وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان بأية وسيلة؛ فالمطولات تختصر، والمختصرات تختزل، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة.
وزهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد بالنشء عن تعيق الأصول وتقصى الفروع، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة، أو من شهادة إلى شهادة.
فإذا ما تخرجوا عادوا كما بدأهم الله أميين لا يقرئون إذا قرءوا إلا السهل، ولا يطلبون هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراطهم في هذا الطلب إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع.
ذلكم إلى طغيان الأدب الأوربي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول الناشئين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة، ففتنهم عن أدبهم، وصرفهم عن تاريخهم، وزين في قلوبهم أن الآداب الغربية من لوازم المدنية الحديثة، فكما تركنا في الأكل اليد إلى الشوكة والسكين، وفي اللباس الجبة والقفطان إلى الجاكتة والبنطلون، ينبغي أن نترك في الكلام اللغة العربية وأدبها إلى اللغة الأوربية وأدبها ليقال إننا متمدنون تقدميون نحفظ، هوجو ولا نحفظ المتنبي، وندرس فلتير ولا ندرس الجاحظ، ونقرأ لامرتين ولا نقرأ البديع! ومن هنا نشأت هذه التبعية المعيبة التي فرضت على أدبنا لأدب الغرب؛ فأساليب الشباب اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهب الأدب اليوم هي مذاهب الأدب في الغرب، حتى الرمزية بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان والمغمغم، يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح! وحتى الوجودية وليدة الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته عن سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن. ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم: الأدب للنفس والعلم للناس.
الأدب مواطن والعلم لا وطن له.
الأدب روح في الجسم ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلاً بنفسه، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزاً بأفراده الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد، والعلم شيء غير أولئك كله.
فإذا جاز طبعا أن نأخذ عن غيرنا ما يكمل نقصنا في العلم، فلا يجوز قطعاً أن نرجع إلى هذا الغير فيما يمثل نفسنا من الأدب. إن من أشد البلايا على الأدب الحاضر بليتين: العامية في اللغة والعلمية في الأسلوب.
أما العامية في اللغة فلو كان الغرض منها إمداد الفصحى بما تزخر به لغة العامة من مصطلحات الحضارة وألفاظ الحياة العامة لقلنا نعم ونعام عين، ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هي أن يكتب الكاتب كما يشاء، لا يتقيد بقاعدة من نحو، ولا قياس من صرف، ولا نظام من بلاغة.
ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتباً أو شاعراً وهو لا يعرف من وقواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه.
وإذا كنتم تقرءون الصحف والكتب ولا تقعون على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش، فالفضل لأولئك الجنود المجهولين الذين يرابطون ليل نهار في دور النشر ويسمونهم المصححين، فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى. وللعامية أنصار من بعض الكبراء الذين تعملوا في قصورهم على المربيات وهؤلاء لهم نفوذ معوق، ومن أشباه المعلمين الذين يتولون تعليم العربية في مدراس الأجانب وهؤلاء لهم توجيه ضار.
حدثتني معلمة فاضلة أن أحد الأمراء رغب إليها في أن تنظر في تعليم ولديه، وفي المنهج الذي يدرسان عليه، ثم تكتب له تقريرا بما ترى.
فكان مما لاحظته المعلمة أن الولدين يتكلمان العربية باللهجة التركية ولا يعرفان من قواعدها الضرورية شيئاً.
فلما كلمته في ذلك أبتسم وقال لها ما نصه: (لا، مش عاوز كلام أزهر ولا كلام أولاد بلد).
وحدثني معلم فاضل عين مشرفاً على امتحان النقل في مدرسة أجنبية، فلما أخذ يدقق في أجوبة التلاميذ قال له المفتش وهو رجل عربي من رجال الدين المسيحي: (حسبك يا أستاذ! إن تلاميذنا يتعلمون العربية ليكلموا بها الخدم)! وأما العلمية في الأسلوب فلو كان الغرض منها اقتباس الروح العلمي في تحديد الفكرة وتصحيح القياس وتدقيق العبارة ونبذ الفضول وتوخي الفائدة لقلنا نعم ونعام عين؛ ولكنهم يقصدون بالعلمية بخس القيمة الجمالية للأسلوب، وخفض المستوى الرفيع للبلاغة فيكون الكلام جارياً على نهج العلماء في تأدية المعنى المراد في اللفظ السهل، أو على سنن التجار في ضغط المعنى المحدد في اللفظ المختزل، ولا عليهم بعد ذلك من الروح الذي يبعث الحياة في المعاني فتؤثر، ولا من الفن الذي يلقي الألوان على الصور فتمتع، ولا من الشعور الذي يشيع الهمس في الجمل فتوحي إن الأسلوب العلمي أسلوب من أساليب التعبير لا هو كلها ولا هو خيرها؛ وإنما هو أسلوب تقتضيه حال كما تقتضي غيره أحوال؛ فالسعي لتغليبه على غيره من الأساليب مخالفة للطبيعة ومجافاة للطباع.
والمعروف في تاريخ الآداب أن المذاهب الأدبية والأساليب الفنية هي التي تتنافس في الشيوع وتتفارس على البقاء؛ أما الأسلوب العلمي فله مجال آخر ورجال أخر: مجاله العلوم ورجاله العلماء.
والعلوم والعلماء يتخذون من اللغة أداة ضرورية للفهم والإفهام، لا وسيلة كمالية للجمال والالهام؛ فأساليبهم في فن الكلام أشبه بالصور الجغرافية والخطوط البيانية في فن الرسم: بقصد بها البيان لا الزخرف، ويراد منها الحق لا الجمال.
فإذا صح أن نقول للرسامين اقتلوا في أنفسكم ملكة التصوير الجميل لتصبح رسومكم كلها جغرافية أو هندسية، صح بالقياس أن نقول للكتاب اقتلوا في أنفسكم ملكة التعبير الجميل لتصبح أساليبكم كلها علمية أو فلسفية. سيداتي، سادتي.
هذه على الإجمال الخطوط البارزة في صورة الأدب العربي الحاضر، منها خطوط بيض تشرق عليها أشعة من أقلام الصفوة الباقية من رجال المدرسة القديمة والتابعين لهم بإحسان من الشباب المعتدل؛ ومنها خطوط سود تخفق عليها ظلال من المستقبل الغامض يساعد على مدها تساهل المدرسة الحديثة والتابعين لها من الشباب المتطرف.
فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية، لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية مع الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى درس، ولا النبوغ فيها إلى ملكة.
وتغلب الأساليب العامية معناه فصل الأدب عن الدين، وقطع الحاضر عن الماضي، وتوهين الصلات بين العرب.
وفي اعتقادي أن أمر العربية وأدبها لا يصلح إلا بما صلح به أوله: فقه اللغة جد الفقه، وفهم قواعدها أشد الفهم، وحفظ آدابها كل الحفظ.
وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، وتوفير الزمن الأسبوعي لاستقصاء الدرس، وتنظيم الامتحان العام على النحو الذي يحرِّج ولا يخرِّج وما أظنني أعدو الصواب إذا قلت إن الثقافة العامة للشاب إنما توزن بالقدر الذي يحصله من ثقافة لفته.
فإذا استطاع بعد المدرسة أن يقرأ فيفهم، ويكتب فيحسن، استطاع أن يجد السبيل إلى كل علم والدليل إلى كل غاية.
والمثقفون متى تركوا مقاعد الحياة المدرسية إلى مواقف الحياة العلمية، تبخر من رءوسهم أكثر ما تعلموه، فلا يكاد يبقى من ثقافتهم إلا ما حذقوه من اللغات وما شدوه من الآداب ذلك إذا كانت ثقافتهم الأدبية ثابتة الأصول نامية الفروع، فإذا كانت كغيرها من الثقافات الأخرى سطحية رخوة أني عليها النسيان فيصبحون أميين في المخطوط بعد أن كانوا أميين في الخط أمامكم الساسة والقادة والزعماء والعلماء والمصلحون في كل أمة، هل تغني عنهم علومهم وعقولهم عند الناس شيئاً إذا لم يملكوا ناصية البيان فيقنعوا إذا كتبوا ويؤثروا إذا خطبوا؟ كلا يا سادة! إن العالم من غير أدب معمل ساكن.
وإن الزعيم من غير بيان تمثال صامت.
وإن المصلح من غير بلاغ مصباح مطفأ. سيداتي، سادتي.
لا بأس في أن نيسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب؛ ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير.
لا بأس في أن نحذف الغث من التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو، وننبذ الأوجه الإعرابية التي بقيت في اللغة أثراً من اختلاف اللهجات في الجاهلية، فبلبلت الألسن، وهوشت القواعد، وجعلت كل صواب خطأ وكل خطأ صوابا؛ ولكن البأس كله في أن نجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي، فيه الخفة والبساطة والشكل، وليس فيه العضل والعصب والروح. إن ما يبقى من هذه العلوم يعد النقصان، وما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان، لا تحيى به لغة ولا يبقى عليه أدب.
وإن استطاع يوما أن يجيز امتحاناً أو ينيل شهادة، فلن يستطيع أبداً أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر، كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين والمنفلوطي والبشري، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كجاويش والمهدي والخضري والسكندري والجارم، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء كأحمد أمين وعبد الوهاب عزام والخولي، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة المعلمين العليا كالمازني وشكري وأحمد زكي وفريد أبو حديد، ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد والرافعي وشوقي وحافظ في مصر، كاليستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان، والمغربي وجبري والطنطاوي والأفغاني في سورية، وكالرصافي والزهاوي وكاشف الغطاء والراوي والانري في العراق، وكالنشاشبي والسكاكيني وغيرهما في فلسطين. هذه يا سادتي مخاوف ألقاها في روعي ما أرى من ضيعة الأدب الحاضر بين تسامح القائمين عليه وزهادة الناشئين فيه، والأمل في عميد الأدب القائم عليه الآن في مصر، وفيكم يا حماة العربية ودعاة العروبة في كل قطر، ألا يتحقق من هذه المخاوف شيء.
ومناط هذا الأمل أنكم تؤمنون جميعاً بأن العربية هي عماد ثقافتنا، ورباط جماعتنا، وبأن أدبها هو التراث الروحي المشترك الذي يثور في دمائنا لننهض، ويصرخ في آذاننا لنتحد، ويشتد في حدائنا لنلحق. إن الأدباء في كل أمة هم الذين يحملون شعلة الفن والفكر وينقلونها بالتتابع، يسلمها السالف للخالف فيغذيها وينفخ فيها لتظل في طريق الأبد باقية نامية هادية.
وأدباؤنا الشيوخ وهم خريجوا الماضي قد تسلموا شعلة الفكر العربي في أواخر القرن التاسع عشر من أدباء لم تهيئهم ثقافتهم ولا حضارتهم ليمدوها بوقود من عصارة الذهن ولا بقبس من نور الوحي، فكادت تنطفي؛ ولكن الله قد أتاح لأدبائنا الذاهبين من مواتاة الملكات وتهيئوا الوسائل ومعاونة الظروف واستكمال الأداة ما مكنهم من إذكاء هذه الشعلة، فأوقدوها بالزيت والكهرباء، وجلوا نورها السماوي في بلور كالكوكب الدري، فتألق سناها وتنشر هداها.
وهاهم أولاء يكادون يسلمونها لشباب الغد خريجي هذا العصر، فليت شعري ماذا تصنع بها الأحداث، وماذا يخبئ لها القدر؟ أنا بالرغم مما أتوجس من المخاوف متفائل، لأن الله سبحانه الذي يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قد ضمن للعرب بقاء البيان ببقاء القرآن.
وفي هذه القلة البارة من أدباء الشباب في أقطار العروبة نرجو أن يحقق الله وعده، وان الله لهو خير الصادقين. أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣