تأملات في الأدب والحياة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
للأستاذ إسماعيل مظهر
المدنيات وبيئاتها
لكل مدنية من المدنيات بيئات عديدة، ومن هذه البيئات ما هو طبيعي فطري، ومنها ما هو اكتسابي
أما الطبيعي فكالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض وما يحيط بها من البحار، وما يتخللها من الأنهار، وما يبرز فوقها من الجبال، وما ينبسط فيها من السهول، وما ينزل بها من المطر، وما يهب عليها من الرياح، وما ينبث في الأرض من الأشجار، وما يتخلل جوها من الرطوبة، وما يذيع فيه من حرارة أو برودة. وأما الاكتسابي فكالمعتقدات العامة والشرائع الموروثة والأديان والعادات وطبيعة الحكم وصفة الحكومة وأخلاق الطبقة الحاكمة إلى غير ذلك أما البيئة الطبيعية فقلما تتغير؛ وإن تغيرت فإن تغيرها لا يتناول الجوهر الثابت، وإنما يتناول العرض، فازدياد هبوب الرياح أو قلة الأمطار أو تغير الطقس من جفاف إلى رطوبة؛ أو من حرارة إلى اعتدال، قد يؤثر في الأمزجة بعض الشيء؛ ولكن الأثر لا يتناول الطيع الثابت في الأنفس بما يغير من طابع مدنية أصيل في الجبلة.
ذلك على العكس من البيئة المكتسبة، فإن زوال معتقد من المعتقدات، أو انهيار دين من الأديان، أو شريعة من الشرائع، أو عادة من العادات، وحلول غيرها محلها، قد يلبس مدنية من المدنيات ثوباً جديداً ويدمغها بميسم له سمات خاصة.
على أن هذه السمات قد تتكيف بما يلائم وحي البيئة الطبيعية، غير أنه يكون مختلفاً عن السمات التي تتسم بها المدنية في ظل معتقدات أو أديان أو شرائع انهارت وقامت أخرى على آثارها على هذا نستطيع أن نقضي بأن انحلال المدنيات إنما يتناول بيئاتها المكتسبة، لأن انحلال بيئاتها الطبيعية مستحيل تقريباً.
أما السبب في أن تظل شعوب أزماناً طويلة في ركود بعد انحلال طور من أطوارها المدنية، فيرجع في الغالب إلى انعدام المنبهات التي تبعث في الأنفس حب المجد والعظمة وعلو الذكر والسيادة العالمية.
وهذه صفات إن انحلت بانحلال وجه من وجوه المدنية فإن بعثها يكون رهن ظروف لا يمكن التكهن به التفكير المستقل (أرثر شوبنهور) فيلسوف ألماني ولد بمدينة دنتزج سنة 1788، وتوفي سنة 1860.
ولقد كتب مؤلفات أشهرها وأعمقها كتابه (العالم إرادة وفكر) ولقد نال هذا الفيلسوف شهرته في مصر خاصة والشرق عامة بنظريته في القوة ونظريته في المرأة، إذ نزع إلى أفكار وتأملات ألبسته في الأذهان ثوباً من التطرف كانت له جدته وطرافته في عصر كنا فيه مقيدين بقيود تخلصنا من أكثرها في عصرنا هذا.
غير أن لهذا الفيلسوف الفذ تأملات في الحياة والفكر قلما عرفنا منها شيئاً.
ومن أطرف ما خص بتأملات هذا الفيلسوف من نواحي الحياة ناحية الفكر المستقل، أو التفكير المستقل الذي يكون خالصاً لك من التأثر بأفكار الغير ونظرياتهم.
ونقتطف هنا لقراء الرسالة فقرات من مقاله في هذا الموضوع وهو من أمتع ما كتب شوبنهور قال: (كما أن أغنى خزائن الكتب وأحفلها بالمؤلفات لا تكون مفيدة - إذا لم ترتب - فائدة أخرى قليلة العدد حسنة الترتيب.
كذلك الحال في ما تحصل بالدرس من المعلومات، فإنها مهما غزرت وكثرت لا تفيدك إن أنت لم تصقلها بفكرك الخاص فائدة معلومات قليلة تعهدتها بالصقل والتأمل الطويل فيها.
لأنك بالتأليف بين معلوماتك، ومقارنة كل الحقائق التي تقع لك مقارنة تفكير وعمق، إنما تستطيع أن تهضم المعارف التي تحصل عليها فتصبح ملكاً لك وطوع قوتك.
فإن الإنسان ينبغي له أن يدرس.
ولكن ما يدرسه لا يصبح ملكاً خالصاً له إلا إذا فكر فيه وأطال التأمل له) (إن الفرق بين الأثر الذي يحدثه التفكير الذاتي، والأثر الذي تحدثه القراءة في الفكر، كبير جهد الكبر.
ذلك بأن التفكير الذاتي وحده هو الذي له القدرة على أن يمد آفاق الفكر في نواح مختلفة تزيد في قوة الابتكار في الذهن حتى يتسنى له أن يختار حراً طليقاً أي طريق يسلك، وينظر في أي جهة يختار) (إن القراءة تفرض على الذهن أفكاراً، هي بذاتها غريبة متنافرة بعيدة عن المتجه والمنحى الأصيل لفكر القارئ؛ فيكون مثلها كمثل الخاتم أن يطبع الشمع بنقوشه الخاصة.
وإن لذلك على العقل من الأثر ما يعادل أثر الأشياء الخارجية على الأجسام، فيظل العقل مضطراً إلى التفكير في هذا ساعة وفي ذاك أخرى، من غير أن يكون له رغبة في الإكباب على التفكير في كليهما أو القدرة على استيعابهما.
أما إذا مضى العقل يفكر لذاته فإنه إنما ينساق إلى التفكير في أشياء تفرضها عليه السليقة وتدعوه إليها الفطرة.
وإن لي أن أقول إن كثرة القراءة تجرد العقل من مرونته.
ومثلها في ذلك كمثل الثقل التارز الشديد إذا وضع على فوهة نبع فائض، فإنه يثقله ويعيق جريانه.
وعندي أن أقوى الوسائل التي تصد الفكر عن الوصول إلى الأفكار المبتكرة هي أن تلجأ إلى كتاب تقرأ فيه كلما أردت أن تنفق وقتاً أو تقطع مرحلة من فراغك.
وهذا هو السبب في أن كثيراً من حملة الشهادات العليا يكون عادة أقل ذكاء وأكثر بلادة مما هم إذا تركوا على الفطرة) (كرستوفر مارلو) وكتاب فوست هو من كبار كتاب الدرامة من الإنجليز، وهو من المتقدمين على شكسبير.
ولد في سنة 1563، أو سنة 1564، ودرس في كمبردج ثم هبط لندن واستقر بها.
وله كثير من المؤلفات أهمها كتاب (فوست) الذي نسج على منواله جوته الألماني.
ولعل كثيراً من القراء لا يعرفون أن لهذا المؤلف الإنجليزي خطر السبق في صياغة تلك الدرامة العظمى التي خلدت اسم جوته في التاريخ، وغشت على اسم مارلو بسحابة من النسيان.
وننقل هنا قطعاً مما كتب (مارلو) عسى أن ينتبه بعض الأدباء إلى دراسة ذلك الرأي الأدبي الجليل: فوست في حجرة درسه: فوست - والآن، أمن المحتوم أن تحل على فوست اللعنة، وألا يكون من الناحين؟ ما الذي يحملني إذن على أن أفكر في الله والسماء؟ ألا بعداً لمثل هذه التخيلات الدنية، ومرحباً باليأس، باليأس من الله، والثقة في بعل لا تتقهقر، بل تشدد يا فوست وكن قوي الإرادة.
لماذا تضطرب؟ هاهو ذا شيء يرن في أذني صداه.
(أقلع عن هذا السحر وارجع إلى الله ثانية)، أيرجع فوست إلى الله مرة أخرى؟ إلى الله! إنه لا يحبك.
إن الله الذي ينبغي أن تخدم وتعبد، إنما هو شهوتك الذاتية، إذ فيها قد انغرس حب بعل وتأصل.
وله سوف أشيد مذبحاً وكنيسة، وأقرب له دم الأطفال فائراً حاراً يدخل ملكان: ملك الخير، وملك الشر ملك الخير - فوست! أقلع عن هذه المهنة الساقطة. فوست - الندم.
الصلاة.
التوبة.
ما عندك منها؟ ملك الخير - نعم: إنها الأسباب التي تأخذ بيدك إلى السماء. ملك الشر - إنما الأوهام، وثمرات الجنة والمس، هي التي تخلط العقل، وتجعله أجنح إلى التصديق بها، والاعتقاد فيها ملك الخير - فوست! فكر في السماء، وفي أشياء السماء. ملك الشر - كلا يا فوست! بل فكر في العزة والمال. يخرج الملكان فوست - في المال! لم ذا؟ إن ضيعة إميدن ستصبح ملكاً لي.
مال الذي سيكون في مستطاع الله أن يفعل بي إذا ما أيدني مفستوفيليس وأخذ بيدي؟ إنك ناج يا فوست.
لا تكثر من شكوكك.
تعال.
تعال يا مفستوفيليس، وقص عليّ أخبارك السارة عن إبليس العظيم.
إن الليل لم ينتصف بعد.
تعال.
تعال يا مفستوفيليس! يدخل مفستوفيليس والآن خبرني، ما الذي يقوله سيدك إبليس؟ مفستوفيليس - قال إني سأكون في خدمة يا فوست طوال حياته، على أن يشتري خدمتي له بثمن هو روحه. فوست - إن فوست قد جازف فعلاً بهذا وبذلك مفستوفيليس - ولكن تذكر يا فوست أنك لابد من أن تهب روحك مخلصاً، وأن تكتب بالهبة صكاً يكون مداده من دمك، فإن هذا الضمان يطلبه إبليس العظيم.
أما إذا رفضت فسوف أعود إلى جهنم. فوست - تأن يا مفستوفيليس وخبرني: أي خير يستمد سيدك من روحي؟ مفستوفيليس - يزيد بها ملكوته. فوست - أهذا هو السبب في أن يبلونا ويمتحننا كما يفعل؟ مفستوفيليس - دعك من هذا وخبرني هل أنال روحك لأكون لك عبداً وأقف على خدمتك وأضفي عليك من العطايا أكثر مما يصل إليه خيالك؟ فوست - نعم.
سأهبك إياها. مفستوفيليس - إذن اطعن ذراعك بشجاعة، وقيد روحك واعترف بأن من حق إبليس العظيم أن يستحوذ عليها يوماً ما لتكون له.
وهنالك ستكون عظيماً كإبليس نفسه. فوست - (يطعن ذراعه) مفستوفيليس! حباً لك أقطع ذراعي، وبدمي الصميم أسجل أن روحي أصبح ملكاً لإبليس العظيم، للملك الأكبر المهيمن على دار الظلام المستديم.
أنظر! هاهو ذا الدم الذي يقطر من ذراعي، لعل فيه كفاء لغرضي مفستوفيليس - إنما هو لزام عليك أن تكتب به صك هبة فوست - نعم.
سأفعل.
(ويكتب) غير أن دمي يتخثر سريعاً، ولا أقدر أن أكتب به أزيد مما كتبت مفستوفيليس - سأحضر لك قبساً من نار يحلله ويجعله صالحاً (ويخرج) فوست - أي شيء ينذر به تخثر دمي ووقوفه عن الاندفاق؟ أينذر بأنه لا يريد أن يكون مداداً لكتابة هذا الصك؟ لم لا يعود إلى الجريان والتدفق حتى أقدر على تحرير الصك به؟ (إن فوست يهبك روحه): آه.
عند هذا وقف دمي.
ولكن لماذا لا تعقل يا فوست؟ أليس روحك ملكاً لك؟ إذن فاكتب ثانية - (إن فوست يهبك روحه) (يدخل مفستوفيليس حاملاً جمرات ملتهبة) مفستوفيليس - فوست! هذه نار.
تقدم وضعها على الدم فوست - لقد أخذ الدم يصفو مرة أخرى.
وإذن ينبغي لي أن أتم الأمر سريعاً (ويمضي في الكتابة) مفستوفيليس - (مبتعداً) لم أثق من حيلة إلا أخذت بها لأنال روحه فوست - لقد انتهى الصك، ووهب فوست روحه لإبليس العظيم.
ولكن أي أثر ذاك الذي انطبع على ذراعي؟ أين أطير؟ أين أذهب؟ أإلى الله! إنه سوف يلقي بي في جهنم؟ لقد غشتني حواسي.
ليس من شيء على ذراعي.
ذلك ظاهر.
لقد كان هنالك شيء مكتوب على ذراعي.
أين أطير؟ أين أذهب؟ مفستوفيليس - سأبحث عن شيء يهدئ روحه ويرضي عقله.
(يبتعد ثم يخرج) هذه قطعة مما كتب (مارلو) الأديب الإنجليزي.
ولا شك عندي أن في خياله وسياقه لشبهاً بما كتب (جوته).
وأن مقابلة أدبية بين ما كتب الأديب الإنجليزي والخالد الألماني، لموضعاً للدرس ومجالاً لخلق صورة من الأدب حديثة إسماعيل مظهر