أرشيف المقالات

تعقيبات

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ أنور المعداوي لحضات جديدة مع مرجريت ميشيل: شاهدت في الأسبوع الماضي فيلم (ذهب مع الريح) للمرة الرابعة ولا أذكر أنني شاهدت فيلماً من الأفلام أكثر من مرة واحدة.
وهكذا يبدو الفن الجميل جديداً لعينيك دائماً، ولذوقك، ولمشاعرك! وحين تجتمع لقصة كهذه القصة عبقرية القلم وعبقرية الإخراج وعبقرية التمثيل، فقل إن الفن قد بلغ أوجه وأكتمل نضجه واستوى على عرش الخلود من أقر طريق! ولقد قضيت مع مرجريت ميتشل لحظات جديدة، غير تلك التي قضيتها من قبل على صفحات الرسالة.

والفضل في قضاء هذه اللحظات يرجع إلى الصديق الذي سألني بعد انتهاء العرض: كيف تعلل هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ القصة، ظاهرة النبوغ الذي أنبثق دفعة واحدة من أول عمل فني قامت به هذه الكاتبة الأمريكية؟! لقد تعودنا دائما أن تكون بداية الكتاب والفنانين خطوة متعثرة تدفع إلى خطوات، ولمعة باهتة تفضي إلى لمعات.

ثم تقبل النهاية التي تنضج فيها المواهب بعد طول التجربة واكتمال المران.
ولقد أتيح لي أن أطلع على أكثر القصص التي أستهل بها أغلب كتاب القصة حياتهم الفنية، فكانت ألمس بوضوح مدى الفارق بين إنتاجهم الأول وإنتاجهم الأخير، وهو الفارق بين النبع في مرحلة الانبثاق الأولى حين يقطر، ومرحلة الانبثاق الأخيرة حين يفيض.
أما مرجريت ميتشل فكانت ظاهرة غير الظاهرة وطرازاً غير الطراز، وحسبها أنها حطمت القاعدة المألوفة التي سارت عليها موازين النقد ومقاييس النبوغ! وقلت للصديق الذي سألني رداً على سؤاله: لو كنت تعلم أن لقصة (ذهب مع الريح) قصة لما سألتني.

ومع ذلك فما أجدرك وأنت قصاص شاب يريد أن يشق طريقه أن تستمع لهذه القصة، وأن تعيها، وأن تتخذ منها درساً يهدي ومنهجاً يفيد.
بل ما أجد الكثيرين من كتاب القصة أن ينتفعوا بهذا الذي أرويه لك.
إذا أرادوا أن يكون لهم في مجال الفن مثل ينشدونها وغايات! لقد أنفقت مرجريت ميتشل من عمرها عشرين عاما في قراءة القصص قبل أن تمسك بقلمها لتكتب أول قصة.

ولم يكن إقبالها على القراءة بقصد التسلية أو التسرية وإزجاء الفراغ، وإنما كان هدفها اللذة الفنية والمتعة الروحية، والرغبة في صقل الملكة القاصة بهذه الدروس التي تتلقاها على أيدي الأساتذة من حين إلى حين.
وكان أساتذتها هم هؤلاء الذين تقرأ لهم.
وتأخذ عنهم، وتقضي معهم أكثر وقتها مفتوحة العينين والقلب والذهن.
وكانت في ترددها على هذا وذاك من أقطاب القصة في أدب العالم، أشبه بالنحلة التي تقع على كل زهرة وترشف من كل رحيق.
لتمد خلية الفن بأشهى الألوان من كل طعم ومذاق! عشرون عاما قضتها الكاتبة الأمريكية في القراءة والاطلاع والدرس.
ومن وراء هذا كله ذوق مرهف بلهب الحواس فتتوهج، وحياة عريضة تحرك المشاعر فتنبض، وموهبة فطرية تنتظر الوقود لتحمل المشعل وتنير الطريق.
لقد أصاخت مرجريت ميتشل لصوت الفن ممتزجا بصوت الحياة، حتى لقد شغلها الصوتان عن أن تستجيب لصوت آخر هو صوت الزوج.
الزوج الذي كان يصرخ في أرجاء البيت مطالباً زوجته بأن ترعى حقوق الزوجية فيذهب صراخه مع الريح! وحقوق الزوجية في رأي الزوج (الأمريكي) هو أن الوقت الذي ينفق في طهو طعامه وكي ملابسه وتنظيف بيته، أجدى على المجتمع من هذا الوقت الذي يضيع في قراءة القصص ومصاحبة كاتب من أمثال بلزاك.

وكم هتف الزوج وقد نفذ صبره: يا عزيزتي مرجريت، متى يقع الطلاق بينك وبين زوجك الآخر؟! وترفع الذكية النابغة رأسها عن الكتاب الذي بين يديها وتقول له: آه.

أتقصد أو نوريه دي بلزاك؟ سأطلقه عند ما آخذ كل ما عنده واشعر بأنني لست محتاجة إليه!!! وجاء اليوم الذي كان يحلم به الزوج، وخرجت إلى حيز الوجود (ذهب مع الريح).

أول نفحة من نفحات الكاتب الفرنسي العظيم، أستاذ مرجريت الذي درست فن القصة على يديه، وأستاذ الأساتذة في فنه بلا جدال! وسألني الصديق بعد أن أستمع في إعجاب بالغ إلى قصة القصة: وماذا أخذت مرجريت من بلزاك؟ فقلت مؤكداً للواقع ومصححاً للسؤال: الحق أنها لم تأخذ منه وإنما أخذت عنه.

ولهذا يجب أن تكون صيغة السؤال: ماذا أخذت مرجريت عن بلزاك؟ والجواب يا صديقي أنها أخذت عنه كيف تكتب القصة الطويلة بما فيها من رحابة الأفق وامتداد الطاقة وسلامة التصميم.
لقد كان بلزاك دارس نفسيات من الطراز الأول، حتى لتستحيل النفس الإنسانية تحت لمسات ريشته إلى غرفة مفتحة النوافذ والأبواب وكان راسم شخصيات لا نظير له، حتى لتطالعك النماذج البشرية في ساحة عرضه الفني كما تطالعك في ساحة العرض الكبرى وأعني بها الحياة.

وكان يسخر الحوادث والشخوص لإبراز فكرته العامة التي ينسج خيوطها العرض والحوار، فإذا هذه الفكرة منشورة الجناحين على حدود القصة تمتد ظلالها من البداية إلى النهاية.

وكان في التزامه لعنصر الواقعية الفنية مثلا أعلى للمراقبة الحسية والنفسية، حين تعملان في خط اتجاه فكري واحد ينتظم كل ماعداه من خطوط.

وهكذا كانت مرجريت ميتشل! أخذت عنه هذا كله، ومن العجيب أنها في اقتباسها من مواهبه واغترافها من مزاياه، تلتقي معه في ناحية نقص واحدة هي كل ما وقف عنده النقاد.
هذا النقص الوحيد الذي يأخذه النقد على بلزاك ويأخذه على مرجريت، هو عدم التناسب بين طاقتين: طاقة التصوير وطاقة التعبير.
أعني أن الأداء التعبيري عند الكاتب الفرنسي والكاتبة الأمريكية لا يرضي المثاليين من عشاق الأساليب، أولئك الذين ينشدون ضخامة اللفظ وفخامة العبارة.
ولقد كان أسلوب بلزاك كما وصفه الناقد الإنجليزي الكبير إليوت، أشبه بأسلوب الكتاب الصحفيين! معايير القيم في الصحافة الأدبية ألم تقع في يدك مرة هذه المجلة الأدبية التي تصدر كل شهر في أحد الأقطار العربية الشقيقة؟ ألم تعجب إذ لا تجد فيها غير الغث والتافه من ذلك الأدب الذي لا يفهم، والذي يصر أصحابه على تسميته بالأدب الرمزي؟ لاشك في ذلك، بيد أن هناك في الصفحات الأخيرة زاوية خاصة، لو بحثت عنها لوجدتها تعلن أسماء أنصار المجلة خلال تاريخ معين، كما أنها تذكر أرقام المبالغ التي تلقتها من هؤلاء الأنصار تاركة قناع الحياء وهي تستجدي الليرات من أصحاب الأقلام، أو بالأحرى تبيعهم النشر بالمال! فما من أسم يذكر في هذه القائمة إلا وكانت له في المجلة قطع أدبية من هذه القطع الأدبية التي لا تفهم ولا تهضم.
أعرف قارئا في العراق أرسل إلى هذه المجلة قيمة الاشتراك السنوي فقط، فإذا برسالة تأتيه بخط صاحبها يبدي فيها شكره الجزيل، ويرحب به وبأدبه وبقلمه.

في حين لم يكن له - ويشهد الله - أدب ولا قلم! ليس من شك في أن هذا الرجل قد جعله (الإدمان) على هذا المسلك الخاص لا يفكر في حقيقة المشترك، بل يفتح له صدر مجلته بمجرد استلامه بدل الاشتراك أو تلك (المعونة) التي يطلبها من (الأنصار)! ولا أدري لماذا، فإن هذه المجلة لو بيعت في كل مدينة تصل إليها عشرون نسخة منها لعادت على صاحبها بالربح، والربح الوفير.
وأعرف الكثيرين من أصحاب الأقلام المعروفة في العراق، يأبى صاحب هذه المجلة أن ينشر أي شيء لهم لأنهم لا يرفقون مع كتاباتهم قيمة الاشتراك السنوي أو قيمة الهبة التي ينتظرها من الأنصار.

وقد سمعت أخيراً أن الرجل قد عزم على أن يهجر بلاده ومجلته ولا يأخذ إلا ما جمع من مال! هذا ما لا ينبغي أن تسكت عنه، أنت أيها الرجل الذي وهب قلمه للدفاع عن قيم الأدب وكرامة الأدباء كرنيك جورج (البصرة - العراق) رسالة الأديب العراقي الفاضل كما يرى القراء، رسالة تضج بالشكوى وتحفل بالاتهام.

أما الشكوى فمن إهدار القيم في مجلة تمثل الصحافة الأدبية في قطر شقيق، وأما الاتهام فموجه إلى صاحبها الذي يسلك طريقاً خاصاً لا يقره عليه كل غيور على كرامة الأدب والأدباء! ولا نريد أن نصدق هذا الذي يقصه علينا الأديب الفاضل، لأنه لو صحت هذه الوقائع التي ينسبها إلى هذه المجلة، لترتب على ذلك أن يفقد القراء ثقتهم في رسالة الصحافة الأدبية.

إننا نريد للصحافة الأدبية أن تسمو رسالتها فوق مستوى الظنون والشبهات، فلا يتهم المشرفون عليها بما ينقص من قدرهم وقدر الأدب وقدر الكرامة العقلية! نقول هذا ولا نريد أن نصدق هذا الذي بلغنا عن زميلة تحرص كل الحرص على أن يظل مشعلها مضيئاً بنور الفن ونور الإيمان.

الفن الذي لا يقبل أن تكون المساومة معبره إلى القلوب والأسماع، والإيمان بهذه الحقيقة مهما تنكر لها أصحاب المطامع والأغراض! ونكتفي بهذا القدر من الدفاع عن رسالة الصحافة الأدبية، ونمسك القلم عن العرض لاسم الزميلة وأسماء المشرفين عليها إلى حين.

نمسك القلم حتى نطمئن إلى صحة هذا الاتهام من جهة، ويطمئن الذين تمسهم كلمات الأديب العراقي إلى أننا نحرص على مكانتهم من جهة آخرى، نحرص عليها من الزلزلة التي تهتز معها المثل العليا وما يكتنفها من ثقة غالية هي ثقة القراء! أما عن هذا الأدب الرمزي الذي أشار إليه الأديب الفاضل في رسالته، فقد أبدينا رأينا فيه وفي أصحابه يوم أن تناولناه بما يستحق من سخرية في (التعقيبات).

وحسب الرمزيين والسرياليين ما تلقاه بضاعتهم الزائفة من إعراض هنا وهناك! الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة: فكرة كثيراً ما راودتني وأردت تحقيقها فإليك أتجه بها؛ فكرة من لا يتقن من اللغات غير العربية ولم يهيأ له أن يلج بغيرها من اللغات، مع شوقه وشدة رغبته في الاطلاع على تلك الأفكار والمعاني الراقية لكتاب الغرب وغيرهم. وأذكر أنك طالما ناديت بأن الإنسان لا يكون مثقفاً ثقافة كاملة إلا إذا أتقن لغتين أجنبيتين عن لغة بلاده، ليتمكن من تغذية عقله وفكره بتلك الروائع الناضجة.
فهل تغني المؤلفات الأجنبية المترجمة إلى العربية بأقلام كبار الكتاب عن النص الأصلي؟ وهل لابد من وجود تفاوت بين الأصل والترجمة في الروح؟ وإذا كان موجوداً فما قيمته؟ صبرى إبراهيم النجار (كلية اللغة العربية) أما أننا قد نادينا بأن الإنسان لا يكون مثقفا إلا إذا أتقن لغتين أجنبيتين عن لغة بلاده فصحيح في جملته، غير أننا لا نتمسك بوجوب لغتين أو ثلاث حين تغني لغة واحدة عن بقية اللغات.

فاللغة الإنجليزية في رأينا تعين من يجيدها على أن يطلع على أغلب الآثار الفكرية في أدب العالم، لأنها أكثر اللغات الأجنبية انتشاراً وأوسعها نقلا لمختلف الآداب والفنون.
وفي الوقت الذي لا نستطيع أن نتذوق الكثير من ثمار الفكر الأوربي مترجماً إلى الفرنسية أو الروسية أو الألمانية أو الإيطالية، تيسر لك اللغة الإنجليزية هذا الأمر بما تدفع به بين يديك من ألوان الثقافات. وإذا كان الأديب الفاضل يريد أن يعتمد على المؤلفات الأجنبية المترجمة إلى العربية، فليس من شك في أن الاعتماد عليها غير كاف ولو أنه مفيد.
غير كاف لأن اللغة العربية لم يترجم إليها غير النزر اليسير من آثار الفكر الغربي، إذا قيس هذا الذي نقله الناقلون إلى ما لم ينقلوه بعد ولم يتح للكثيرين أن يطلعوا عليه.
غير كاف من هذه الناحية ومفيد من ناحية أخرى، وهي أن هذا العدد الذي ترجم من المؤلفات الأجنبية يعطي القارئ العربي فكرة عامة عن مناهج التفكير وطرائق التعبير عند الغربيين، فكرة عامة ولا نقول فكرة كاملة.

ولكنها كسب معنوي على كال حال! أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه، لأن لكل لغة من اللغات خصائصها البيانية وقيمها التعبيرية وآفاقها المختلفة وأخيلتها المتباينة، وكل هذه الجوانب معرضة لشيء من التغيير الذي يمس روح النص إذا ما نقل إلى بيئة غير البيئة ووطن غير الوطن.
.
ولكن هذا التغيير متفاوت الأثر تبعاً لتفاوت الملكة الناقلة عند الكتاب المترجمين، لأن هناك من يقضي على روح النص بركاكة الأسلوب وضعف الأداء، أو بسوء الفهم وانحراف الذوق، أو بغير ذلك من العوامل المؤثرة على حركة اللفظ وحرارة العبارة.
.
وضع هذا الطراز من المترجمين في كفة، لتضع في الكفة المقابلة طرازاً آخر يمتلك القدرة على الترجمة الصادقة والأداء الأمين، بما أتيح له من الإجادة الكاملة للغته ولتلك اللغة الأخرى التي ينقل عنها في حذق ومهارة.
ولكن مهما بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فإن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في لغتها الأصيلة التي يتذوقها المتذوقون! أنور المعداوي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١