أرشيف المقالات

صور من الحياة:

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 قلوب من حجر للأستاذ كامل محمود حبيب - 2 - قلت لصاحبي: ما بال هذا الفتى يصعر خده في كبر ويتطاول في صلف، وينظر إلى هذا الناس في احتقار كأنه يرمق بعوضة ضاوية عرجاء؛ ثم هو يتأنق في زينته ويزهى في إهابه؛ على حين أنه ما برح في أول الطريق لم يبلغ الغاية التي تصبو إليها نفس، ولا سما إلى المنزلة التي يفرح بها قلب. فهمهم صاحبي في أسى كأنما يحدث نفسه: آه لو انشق عنه أعاب الإنسان لرأيت من خلاله صورة كلب! إن الإنسانية - يا أخي - حين تتهاوى تسل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية! قلت: وماذا عسى أن يكون شأنه؟ قال: إن له لقصة فيها عبرة للعقل وعظة للقلب. فقلت: هاتها. قال: آه لو رأيت هذا الفتى وهو صبي في فجر الحياة يضطرب في دار عمه، يفتش في زواياها عن حنان الأم فلا يجده، ويبحث في أركانها عن عطف الأب فلا يلمسه، لأنهما ماتا عنه طفلا وخلفاه بين يدي عمه.
وشعر الصبي - منذ أول العمر - بأن الحياة خاوية من الرحمة خالية من الشفقة، لا تنبض بالسعادة ولا تخفق باللذة، فنزل عن طفولته كارها، وعاش في دار عمه حيناً من الزمان، وعمه رجل فيه قسوة الطبع وجفاء الخلق، يحس وطأة الضيق ويستشعر شظف العيش، ومن ورائه أولاده يستحثونه إلى غاية فهو يستل قوتهم من برائن الفاقة في جهد، وينتزع اللقمة الجافة من مخالب الفقر في كد، وهولا يرى في أبن أخيه إلا عالة تثقل كاهله وتكثر من عياله، فرماه بالجفوة واخذ بالعنف.
وسرى داء الأب إلى أبنائه فتدافعوا إلى أبن عمهم يقذفونه بالسباب ويلطمونه بالقسوة، يدعونه عن لطعام ويدفعونه إلى العمل، فعاش عبداً بين سادة غلاظ شداد يتمنى الخلاص فلا يبلغه، ويرجو المفر فلا يناله، وإن في قلبه أسى يسلبه القرار، وإن في نفسه ذله ترغمه على الصبر. وأحس الصبي بالضوى من أثر الجوع، وشعر بالضنى من أثر الإرهاق، وأصابه الكلال من شدة الغلظة، فانطوى على كراهية تؤج في صدره، وانضم على مقت أبنائه مقتاً ينفث فيه روح الشر والانتقام، ثم عقد العزم على أمر وإلى جانبه صبي في مثل سنه يعينه على شأنه ويزين له الرأي ويسول له أن يطيرا معاً إلى غير غاية. وعند مطلع الفجر هب الرجل - كدأبه - ينادي أبن أخيه، عبد الدار، ليقذف به - كشأنه أبداً - في غمرة العمل الشاق العنيف، فما راعه إلا أن يرتد إليه صدى صيحاته ثم يتلاشى في سكون الدار.
وأزعجه أن يرى الصبي العاق يصم أذنيه عن ندائه لأول مرة في حياته، فأندفع يزمجر يريد أن يبطش بالصبي اليتيم، غير أن الصبي كان قد فر من بين يديه الغليظتين، فثارت ثائرته وأضطرم غضبه على أن ينفلت الطير من شباكه وهو يرى ولا يستطيع أمراً. وأحس الأسير الذي ولد مكبلاً في قيود ثقال.

أحس بالحرية التي لم يتذوقها أبداً فأنطلق يشدو ويثب ويضحك وإلى جانبه صاحبه يشاركه نوازع نفسه الطروب، ويشاطره أفراح قلبه الغض وهبط الصبي القاهرة - بعد أيام - فتاه في لجة المدينة، وتقاذفته أمواج الحياة، لا يستقر في مكان ولا يهدأ إلى عمل، ثم ساقه الحظ إلى دار سيد من ذوي الثراء والجاه، فراح يقلب ناظريه فيما حواليه من رواء وأناقة وقد خلبته أبهة المكان وسحرته روعة الدار وأذهلته هيبة العظمة، فامتلأت نفسه رهبةً وخشوعاً.
ووقف أمام سيده، سعادة البك، فاضطربت روحه من خوف، وارتعدت فرائصه من فرق، وتلجلج لسانه من فزع، ورأى البك الصبي القروي يوشك أن يتناثر من رعب فهم من مجلسه يريد أن يهدئ من روعه؛ ولكن خيل للصبي أنه هم يبطش به حين آذاه ما سيطر عليه من ارتباك وخوف، ففزع خشية أن يصفعه السيد في غلظة مثلما كان يصفعه عمه من قبل، فزلت قدمه فهوى فأنطرح على الأرض؛ فابتسم سعادة البك لما رأى، ثم أخذ يسكن من جأشه بكلمات فيها الرقة والعطف حتى أفرخ روعه واطمأنت نفسه.
لقد شهد الصبي - إذ ذاك شيئاً لم يره أبداً فقال لنفسه (يا عجباً! أفي الناس رجل يعطف علي أنا الضائع المسكين؟ لطالما شعرت بأن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس أشياء لمستها في عمي الفظ الغليظ! واندفع الصبي في عمله يتوثب نشاطاً ويتألق إخلاصاً، لايني عن الطاعة ولا يتريث عن الخضوع، حتى رضى سيده واطمأن فحصه بفضل عنايته وشمله بفيض من عطفه، فسرت سمات الحياة في عروقه، وتوهجت علامات العافية في وجهه، وانسربت معاني الصحة في دمه، فبدا وثيق الأركان صلب العود جياش الحركة خفيف الظل. ورأى البك في الصبي القروي شمائل حببته إليه وقربته منه، فعهد إليه أن يحرس أبنه الأوحد في غدواه ورواحه ليدفع عنه الأذى ويصد عنه السوء.
وأبن سعادة البك واهي القوى من الترف، مضعضع العصب من دلال، رخو العود من رخاء، مسلوب العزم من رفاهية. ثم تغالي السيد فألحق القروي وأبنه المرفه في مدرسة واحدة ليدرأ واحد عن واحد شر التلميذ وعادية المدرسة، فانطلقا معاً والخادم يتبع سيده في ريث ويقلب البصر في لباسه الإفرنجي الأنيق يتيه في زهو ويتخلع في خيلاء وهو لا يكاد يصدق أنه قذف عن كاهله أعباء الريف وشقاء الحقل ليكون أفندياً يتأنق في زيه ويختال في أبهته.
وانطوت السنون فإذا الصبي القروي ينكب على الدرس في نهم لا يهمل ولا يتمهل فيسبق أقرانه في سهولة ويسمو على أترابه في يسر.
وإذا أبن النعمة يتراخى من ضعف وينحط من كسل فيتخلف عن الركب فيبغض المدرسة ويمقت الكتاب ويحتوي القراءة، ثم يندفع في شبابه الأول ليرتدغ في أسباب له والعبث وسبله من أمامه معبدة ميسرة، ثم ينصرف عن المدرسة إلى غير رجعة ورأى البك فرق ما كان بين أبنه الغض الجميل وبين أبن القروي الفض الغليظ، فغاضه أن يسبق الخادم سيده، وأن يسمو الوضيع على الرفيع، فتكشفت إنسانيته الرقيقة عن حيوانية جارفة تصفع الخادم وقد شب ونما غرسه وشدا طرفاً من العلم.

تصفعه فتذيقه فنون من القسوة والغلبة، ثم تجذبه من المدرسة إلى الدار، ثم تدفعه من الدار إلى الشارع واستحالة صورة البك، السيد الطيب الرقيق.

استحالة صورة - في لمحة واحدة - في عيني الفتى القروي إلى صورة بغيضة إلى نفسه كريهة إلى قلبه، هي صورة عمه الفظ يوم أن كان يذيقه فنوناً من القسوة والغلظة في غير ذنب ولا جريرة الآن، بدا للفتى القروي أن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس، أشياء لمسها - زمان - في عمه الفظ الغليظ. وتاه الفتى القروي مرة أخرى في لجة المدينة - وتقاذفته أمواج الحياة، ولكنه لم يلق السلم وفي نفسه أن يسعى ليكون في مثل ما كان فيه من نعمة وترف في دار سيده.
ولم لا! وهو قد سبق ابنه في الدرس وغلبه في التحصيل وفاز عليه في العلم، فراح يفتش عن عمل يسد به رمقه ولا يحول بينه وبين المدرسة. وذاق الفتى بين عمله الجديد وبين المدرسة.

ذاق مرارة الضيق ولذغ الحرمان، ليرضى بالقليل ويقنع بالتافه ويصبر على الشدة، ومن أمامه أمل جياش يفعم صدره فيصرفه عن بعض ما يقاسي من فاقة وشظف، فأندفع إلى غايته في غير هوادة ولا لين واشتاقت نفسه إلى لقمة طرية ناعمة، فأخذ يدخر من عوز ويوفر من فقر، حتى جمع - في أيام - قروشاً اشترى بها قطعة من لحم لا تغني من جوع ولا تسمن من غثاثة - غير أنها بعثت في نفسه روح البهجة والطرب، فأنطلق إلى حجرته الضيقة المظلمة، يطهوها بنفسه لنفسه وفي قلبه السعادة والغبطة وفي روحه اللذة والفرج.
وامتلأت الحجرة بروح الشواء وروح المرح في وقت معاً يا للعجب! إن قطعة من اللحم لا تشبع طفلا قد أترعت حياة الفتى المحروم اللذة والسعادة! وأعد الفتى لنفسه مائدة شهية لا تنضم إلا على قطعة من اللحم ورغيف واحد، ثم أخذ يمتع نفسه بالنظر إليها حيناً وينسم ريحها العبق حيناً أخر، فما أفاق إلا على قط فظ غليظ ينقض عليها فيلتهمها دفعة واحدة، فهب الفتى المحروم من مكانه مذعوراً ثائراً يقذف الحيوان الشره بما حواليه في غير وعي ولا عقل. ورأى الفتى غريمه ملقى على الأرض يصرخ من شدة الألم فأندفع إليه في غيظ يشد وثاقه وفي رأيه أنه قد سلبه متعة نفسه وحرمه لذة بطنه.
ثم سيطر عليه جنون الشهوة.

الجنون الذي بعث فيه روح الشر والانتقام من حيوان ضعيف، الجنون الذي نزع عنه ثوب الإنسانية الرقيق ليتبدى في أوضع مراتب الحيوانية.
ووضع الفتى المحروم القط الضعيف في هاون ثم اندفع يدق عظمه في غلظة وفضاضة وتناثر الدم يلطخ ثوبه ووجهه ليصمه بالخسة والضعة، ويلصق بجدار الحجرة ليشهد أن إنساناً قد صفرت نفسه من الرحمة وخوي قلبه من الشفقة فأنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية. ولا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية. كامل محمود حبيب

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن