أرشيف المقالات

صور من الشعر الحديث في العراق

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 للأستاذ إبراهيم الوائلي الكاظمي لم يطل مكث الشيخ عبد المحسن الكاظمي في العراق فقد هاجر منه إلى مصر سنة 1897م وهو في السابعة والعشرين أو الثانية والثلاثين واستقر به المقام في القاهرة سنة 899م والتاريخ يحدثنا أن الكاظمي ترك العراق مرغما من قبل السلطات الحاكمة وقد كان تركه هذا أشبه شيء بالهرب.
ويقول الذين أرخوا هذه الفترة من حياته.
أنه اضطهد بسبب اتصاله بالسيد جمال الدين الأفغاني عند مروره بالعراق لأنه تأثر بمبادئه واقتبس من آرائه فغضبت عليه السلطات واضطرته إلى مغادرة العراق.
ير أن الذي وجدناه في ديوان الكاظمي لا يدل على مناهضته للسياسة العثمانية يوم كان في العراق بل وجدناه شاعرا مؤيدا لهم هاتفا بمجدهم؛ وقصيدته (حرب الحياة الباقية) المنشورة في الجزء الأول من ديوانه دليل واضح على تأييده للعثمانيين وحثهم على محاربة الأوربيين وبخاصة دول البلقان متى ثارت عليهم في أواخر القرن التاسع عشر ومن هذه القصيدة: حماة العلي قد حان حصد الجماجم ...
أقيموا العلي واستأصلوا كل هادم حماة العلي طال السكوت فعاذر ...
إذا نطقت أسيافكم في الجماجم خصومكم ضلوا وطاشت سهامهم ...
وما وسموا إلا بشر المياسم رعاياكم يا آل عثمان أصبحوا ...
ملوكا وملك البغي ليس بدائم أرى دول البلقان طالت أنوفها ...
على دولة آثارها في المخاطم والقصيدة طويلة وكلها مدح واستنهاض.
ولا نستطيع أن نفسر هذا المنحى الذي نحاه الكاظمي إزاء سياسة الأتراك إلا بالعطفة وحدها وهي التعصب للإسلام؛ فهو إذن لا يعدو هذه العاطفة الإسلامية التي أنسته كل شيء فلم يقف في طريقه ما عاناه العراق من تدهور ومآس في ظل الحكم العثماني. ولا نريد أن نحاسب الكاظمي على هذا الموقف الذي وقفه ما دام منبعثا عن حسن نية وصفاء عقيدة.
على أنه موقف واحد سبقته مواقف لا ترضي العثمانيين، وتلته مواقف أخر فيها الشدة والصرامة عليهم.
أما الأولى فدليلها السخط الذي انصب عليه فاضطر إلى الهرب، وما يرويه المؤرخون من أن له مذكرات قذف بها في نهر دجلة.
وأما الثانية ففي ديوانه المطبوع ما يكفي للتدليل عليها؛ ففي الديوان قصائد كثيرة نظمها في مصر وفيها دعوة إلى الحرية وتنديد بسياسة الأتراك منه وانتهاء حكمهم له، ورغبة ملحة في أن يحكم العراقيون أنفسهم بدلا من أن يحكمهم أي أجنبي.
وهذه العواطف التي تنساب في قلب الكاظمي تجدها ماثلة في قصيدته (ذكرى الفتوح) وقد نظمها يوم حملت له أنباء هزيمة الأتراك من العراق. عسى بغداد يوقظها بياني ...
فتقرأ فيه أبكار المعاني مضى أمس فلا يرجى لأمس ...
مآب أو يؤوب القارظان فلا العهد الذميم له بباق ...
ولا الذكر الحميد لنا بفان ونجد الشاعر يعبر بوضوح عما كان يعانيه في العراق من اضطهاد العثمانيين له وأنه لم يستطع أن يجاهر بآماله وخواطره حتى إذا استقر به المقام في مصر وانتهت دولة الأتراك من العراق لم يجد ضيقا في مجال التنفس ولا حرجا في البوح بما يكنه لبلاده. هل الزوراء تعلم ما عراها ...
غداة دنى النفير وما عراني أبوح بما أكن وكنت دهرا ...
أحاذر أن أبوح بما أعاني ويهتز الشاعر بشرا حين استراحت بغداد من الأتراك. أتاني أن بغداد أريحت ...
فلا كذب البشير بما أتاني أريحت من ليال كن ناراً ...
فمن بكر تشب ومن عوان ورد لها التراث فلا بعيد ...
ينازعها التراث ولا مدان ثم يدعو بغداد إلى الاستمرار في الجهاد وبحثها على السير في طريق الاستقلال. أعيذك غرة البلدان من أن ...
تخوري في جهادك أو تواني إذا نامت ظباك فقل سلام ...
على تلك المنازل والمغاني بنوك الغر أم (جنكيز) أحرى ...
بهذا الملك من قاص ودان فسيري لا سرت لك غير بشرى ...
يسيل بها لديك الرافدان ويكرر هذه العاطفة في قصيدة عنوانها (أنين وحنين) وأولها شعر تقليدي الأسلوب ولكنه لا يخلو من عاطفة الشاعر المحب لوطنه ولبلادة.
وبعد هذا الحنين والشوق يبكي مجد بغداد الغابر وتاريخها الذهبي أيام بني العباس. أين تلك القصور والدور أضحت ...
حيث أضحت مقابراً وسجونا ما ذكرنا تلك الليالي إلا ...
وبكينا هارون والمأمونا ثم يخاطب بغداد بأبيات تدل على حزنه الكامن وتفجعه بما جرى على بغداد من نكبات. اقصري الشكوى يا ربوع المعالي ...
رب شكوى سرت فكانت أنينا لم يخنك الأمين يوم تولا ...
ك ولكنك ائتمنت الخئونا كان للعدل من ثراك نصيب ...
عبثت فيه أثرة الحاكمينا ومن الملكين من لا يرى الم ...
لك سوى آلة تقيه المنونا يستفز القانون والدين لكن ...
لا يراعي دينا ولا قانونا ومثل هذه القصيدة قصائد أخرى تتشابه معهما في الدوافع والإحساس وفي العاطفة الصادقة التي يثيرها الحنين إلى الوطن والتطلع إلى الحرية المحروبة أمام الغشم والاستعمار ونجد الكاظمي في قصائد غير قليلة يمدح الملك الحسين وأولاده ويشير إلى ثورتهم على الأتراك وأعمالهم كما يجب أن يكون عليه الشعر السياسي بل يجتاز هذا إلا قليلا ويترك شاعريته تنطلق في آفاق المدح وإطراء الممدوحين ومواقفهم في سبيل العرب والأمة العربية.
غير أن هذه القصائد لا تخلو من العطفة القومية التي تجري في عروق الشاعر وتتبلور في أفكاره وتأملاته فهي تفيض بالشعور العميق لتأييد الثورة العربية على الأتراك.
ونترك استعراض هذه القصائد لطولها وما فيها من مدح وثناء يكاد يكون مكرراً مسموعا ولما فيها من لهجة قاسية على الأتراك مكتفين ببيتين من قصيدة عنوانها (هذا الحسين) ويعني الحسين بن علي ملك الحجاز آنذاك أمطرت بالبيض الذكور مطهرا ...
أرض بها عاث الشرير ودنسا ونجابك البيت الحرام وللورى ...
أمل بأن تنجي ظباك المقدسا من هذا الذي درسناه يتضح لنا أن الكاظمي صاحب عقيدة دينية راسخة القواعد لا يرضى لها أن تذل وتخضع لأية عقيدة أخرى، وعاطفة قومية عنيفة لا يريد لها أن تتصاغر لأية أمة أخرى ولو كانت من المسلمين.
وهو في كلتا الحلتين واسع الآمال والأبعاد لا يحتويه العراق - وإن كان وطنه الحبيب - ولا الجزيرة العربية - وإن كانت مهد العرب - بل كان يخفق بجناحيه في آفاق العروبة أينما حلت وأيان أقامت، وفي دنيا المسلمين مهما اتسعت رقعتها.
على أن الكاظمي شاعر إنساني يحب الخير للبشر جميعا ولكن الحديث عن إنسانيته لا يستقيم لنا في هذا البحث المحدود. بقي أن نشير إلى شيء له علاقة بالموضوع الذي نتحدث فيه وهو أن الكاظمي لم يشر إلى عودة الدستور في تركيا ولم يتحدث عنه بخير أو شر كما سنرى ذلك عند الزهاوي والرصافي ولاسيما أن إعلان الدستور اتفق أيام كان الكاظمي في مصر التي كانت منفصلة عن الخلافة العثمانية.
وفي حيث لا يخشى الشاعر بأس أحد.
يضاف إلى هذا أن إعلان الدستور كان بأمر من عبد الحميد ذلك الرجل الذي مدح مع من مدح في قصيدة (حرب الحياة الباقية) التي أشرنا إليها في صدر البحث.
ولعل الكاظمي قد قال في ذلك شيئا ولكنه لم يصل إلينا. الزهاوي لا نريد أن نترجم لجميل صدقي الزهاوي ترجمة تاريخية.
ولا نريد أن نتتبع حياته المادية كيف قضاها، وكيف كان يحياها.
بل نريد أن نتحدث عنه كما تحدثنا عن الكاظمي فلا نتجاوز شعره ولا نلم إلا بالسياسي منه.
وندع هذا الشعر نفسه يصف لنا جوانب من حياة الشاعر في بغداد وفي تركيا وما لاقى من اضطهاد وتشريد بسبب دعوته إلى التحرر من حكم العثمانيين فكان ثائرا حانقا شديد اللهجة على خصومه أيام استبدادهم، ثم هادئا مطمئنا كبير الأمل يوم أعيد الدستور.
وفي ديوانه (الكلم المنظوم) دليل واضح على ثورته واستيائه من سياسة العثمانيين ودعوته الجريئة إلى التخلص منهم.
وشعره هذا لا يخلو في كثير من المواطن من الناحية القصصية التي يتحدث بها عن حياته وما كان يلاقيه من الجواسيس والحكام وما ينزلون من بلاء على كل بريء يدركونه؛ فدولة الأتراك في ذلك الوقت - كما يراها الزهاوي - دولة همجية تعبث بالعراق وسوريا واليمن وتجوز على هذه الأقطار وتستنفذ خيراتها بلا وازع ولا ضمير، والسلطان لا يرتضي ري ناصح ولا يستجيب لمشورة أحد، ولا يعمل بما أنزله الله وما صدع به النبي الكريم.
نجد هذا في قصيدة عنوانها (حتام تغفل) وقد نظمها أيام طغيان عبد الحميد وقبل إعلان الدستور بسنوات قليلة.
ومنها: ألا فانتبه للأمر حتام تغفل ...
أما علمتك الحال ما كنت تجهل ويسير على هذه الوتيرة في أبيات غير قليلة يدعو فيها أمته وشعبه إلى التكتل والنهوض والثورة على حكومة الأتراك ثم يصف هذه الحكومة فيقول: وما هي إلا دولة همجية ...
تسوس بما يقضي هواها وتعمل فترفع بالإعزاز من كان جاهلا ...
وتخفض بالإذلال من كان يعقل ولا نريد أن نتعرض للبيت الأخير بالنقد من الوجهة اللفظية واعتماده على الصناعة والتقليد فنقول: أن الشاعر كان نحويا حين رفع وخفض، وكان بديعيا حين طابق بين الجهل والعقل.
لا نريد هذا وإن تكن الموسيقى اللفظية من أهم العناصر في الشعر - وإنما يكفينا هذه الصورة اللفظية التي يضعها الشاعر في إطار الواقع عن تلك الحكومة التي أساءت إلى نفسها وإلى غيرها، هذه الصورة تبرز لنا في هذا البيت وفي غيره من أبيات هذه القصيدة، فالدولة العثمانية دولة مستبدة همجية كما سبق، وحكامها وولاتها. إذا نزلوا أرضا تفاقم خطبها ...
كأنهم فيها البلاء الموكل ولم تسلم منهم البلاد العربية وأقطارها. فمدت إلى سورية يد عسفهم ...
تحملها من ظلمهم ما تحمل وبغداد دار العلم قد أصبحت بهم ...
يهددها داء من الجهل معضل وسل منهم القطر اليماني إنه ...
يبث بما يجري عليه وينزل ثم يتحدث عن السلطان عبد الحميد ونترك مجال التصوير للشعر وحده: وذي سلطة لا يرتضي رأي ناصح ...
إذا قال قولا فهو لا يتبدل أيأمر ظل الله في أرضه بما ...
نهى الله عنه والنبي المبجل فيفقر ذا مال وينفي مبرأ ...
ويسجن مظلوما ويسبي ويقتل ثم يلتفت إلى عبد الحميد فيهدده ويتوعده بسوء العاقبة: فيا ملكا في ظلمه ظل مسرفا ...
فلا الأمن موفور ولا هو يعدل تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا ...
تحرك فيها الغيظ لا تتمهل وأيديك إن طالت فلا تغترر بها ...
فإن يد الأيام منهن أطول ونحب أن نستمع إلى الزهاوي وهو يقص علينا ما لاقاه في تركيا من عنت واضطهاد وما قوبل به هو وصحبه من مراقبة شديدة وتجسس بغيض، ثم إرجاعه إلى بغداد مقهورا ونفي أصحابه الذين كانوا معه، بحد هذا كله في قصيدته (أين المفارق) وقد نظمها سنة 1317هـ ونترك أول القصيدة آخذين ما فيها من وصف للظلم والجاسوسية، وما فيها من احتجاج شديد وجهه الشاعر إلى خصومه فلم يفده شيئا: ويممت دار الملك أحسب أنني ...
إذا كنت فيها نازلا أتمتع وإني إذا ما قلت قولا يفيد في ...
مصالحها ألغيت من هو يسمع ولم أدر أني راحل لمحلة ...
بها الفضل مجذوم الذراعين أقطع إلى منزل فيه العزيز محقر ...
إلى بلد فيه النجيب مضيع ويحاول الشاعر أن يعود إلى وطنه بعد ما شاهده من الغدر والخيانة والظلم الذي استغلقت فيه منافذ الحرية ولكنه لم يستطع العودة كما يشاء لأن الشرطة والجواسيس حالوا بينه وبين ما يريد: ولما رأيت الغدر في القوم شيمة ...
وأن مجال الظلم فيهم يوسع وأن الكلام الحق ينبذ جانبا ...
وأن أراجيف الوشاية تسمع خشيت على نفسي فأزمعت رحلة ...
إلى بلدي من قبل أني أصرع وهل راحة في بلدة نصف أهلها ...
على نصفه الثاني عيون تطلع ولكنني لما تهيأت صدني ...
عن السير (بوليس) ورائي يرح (للكلام صلة) إبراهيم الوائلي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن