صفحات من الدبلماسية الإسلامية
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
لما تولى المعتصم الخلافة عقب وفاة أخيه المأمون، حاول قيصر قسطنطينية الإمبراطور تيوفيلوس (توفيل) أن يعقد الهدنة والصلح مع المسلمين، فأوفد إلى المعتصم سفارة على رأسها يوحنا النحوي. وكان يوحنا من أعظم علماء عصره، يجيد العربية، فقصد إلى بغداد يحمل أنفس الهدايا والتحف، وأنزل بأحد قصور الخلافة؛ وأدهش البلاط برائع بذخه، وما نثر حوله من مظاهر الفخامة والترف.
وتعرض لنا الرواية البيزنطية قصصاً عجيبة عن بذخ يوحنا وفخامته.
وكان لهذه السفارة غاية مزدوجة: الأولى أن تعقد بين الخليفة والقيصر معاهدة سلام دائم؛ والثانية أن يعمل السفير على إقناع منويل، وهو قائد بيزنطي يلوذ ببلاط الخليفة، بالعودة إلى قسطنطينية.
فأفلح السفير في تحقيق الثانية، ولم يفلح في تحقيق الأولى؛ ولكن المعتصم رأى أن يجامل القيصر بالإفراج عن مائة من الأسرى النصارى.
وعلى أثر هذا الفشل في عقد الصلح، زحف الإمبراطور على أراضى المسلمين، وغزا زبطرة من معاقل الحدود الإسلامية، وكان الروم يزعمون أنها مسقط رأس المعتصم؛ فاستولى عليها واستباحها وأنزل بسكانها المسلمين رائع الإثم والسفك؛ وتروي التواريخ البيزنطية أن المعتصم لما علم بزحف الروم على زبطرة، أرسل إلى الإمبراطور سفارة يرجوه فيها أن يفر المدينة العيث والسفك فأبى تيوفيلوس وارتكب فيها ما ارتكب، وهدمها حتى صارت قاعا صفصفاً عندئذ قرر المعتصم الحرب وأقسم بالانتقام وسار إلى أراضي الروم في جيش ضخم، وقصد إلى عمورية (أموريوم) أجل وأمنع مدن الروم في آسيا الصغرى؛ فهاجمها مراراً، ولكن الروم دافعوا عنها دفاعاً شديداً، فضرب حولها الحصار، واعتزم ألا يغادرها حتى تسقط في يده.
عندئذ اضطر الإمبراطور أن يسعى إلى طلب الصلح، وأرسل بدوره سفارة إلى المعتصم، على يد أسقف عمورية وكبرائها، فأعلن المعتصم أنه لن يعقد الصلح، و يمنح شروطاً للتسليم، وأن الانتقام هو غايته واعتقل السفراء، فاستمر الحصار خمسة وخمسين يوماً، ثم سقطت المدينة في يد المسلمين، وأبدى المعتصم، كما أبدى تيوفيلوس من قبل منتهى الشدة والقسوة ففتك بالنصارى فتكاً ذريعاً، واسترق الناجون من الموت، وأحرقت عمورية حتى غدت أطلالاً، وهدمت حصونها وأسوارها؛ ثم أطلق المعتصم سفراء الإمبراطور بعد أن احتجزهم ليشهدوا ظفره، وردهم إليه بهذا الجواب! (نبئوا سيدكم بأني أديت دين زبطرة) وكان ذلك سنة 223 هـ (838م) واستمر الصراع وتبادل الغزو بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية مدى قرن آخر.
وفي عهد الإمبراطور قسطنطين السابع الذي حكم طفلاً تحت وصاية أمه الإمبراطورة زوي كاربوبسينا، أرسل بلاط قسطنطينية إلى الخليفة المقتدر بالله سفارة في طلب المهادنة وتنظيم الفداء.
وتصف لنا الرواية الإسلامية حوادث هذه السفارة، فتقول لنا إن سفيري ملك الروم وصلا إلى بغداد في المحرم سنة 305هـ (917م)، فاستقبلا بترحاب وإكرام، ودخلا على الوزير في أفخم حفل ونظام، وقد اصطف حوله الجند في أتم سلاح وزينة، وأديا رسالة قيصر، ثم أخذا إلى الخليفة المقتدر فاستقبلهما ومن حوله الوزراء والقادة والجند في أروع زينة وأبهة وأديا رسالتهما، فأجابهما الخليفة إلى ما طلب قيصر من تنظيم الفداء، وسير خادمه مؤنساً ليحضر الفداء وعينه أميراً على كل بلد يدخله فيتصرف فيه على ما يريد حتى يغادره، وسير معه قوة من الجند، وزوده بمائة ألف وعشرين ألف دينار لافتداء الأسرى المسلمين، فقام مؤنس بالمهمة وافتدى آلافاً من الأسرى وكانت مسألة الفداء مبعث طائفة من السفرات التي تبودلت بين الدولتين خلال القرن الثالث الهجري، وطائفة من المعاهدات السلمية التي عقدت بينهما وفي عهد الإمبراطورة زوى أيضاً بعث حاكم كلابريا (قلوريه) البيزنطي رسله إلى خليفة أفريقية الفاطمي (عبيد الله الشيعي)؛ وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت بها الحكومة البيزنطية أن تؤدي إلى الخليفة الفاطمي جزية سنوية كبيرة، نظير تعهده بحمل أمراء صقلية المسلمين على وقف الحرب والغزوات المستمرة في قلورية، واستمرت هذه المعاهدة مدى حين.
وان كانت الجزية قد أنقصت خلال ذلك ولنترك الآن علائق الدولتين العباسية والبيزنطية لنتحدث عن نواح أخرى من علائق الإسلام والنصرانية، والسفارات التي تبودلت بينهما لما قامت الخلافة الفاطمية بمصر، غدت مصر منذ أواخر القرن الرابع، قوة إسلامية جديدة تشترك في قيادة الإسلام وتوجيهه في المشرق.
ولم تكن مصر قبل ذلك مركزاً هاماً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية، لأنها لم تكن أكثر من ولاية خلافية أو دولة ثانوية تظللها الخلافة العباسية بسلطانها الروحي.
على أنه كانت ثمة علائق مستقلة في هذا العصر بينها وبين الدولة البيزنطية زعيمة النصرانية في المشرق.
وأشهر ما انتهى إلينا من أخبار الحوادث الدبلوماسية بين الدولتين في تلك الفترة سفارة الإمبراطور رومانوس الأول (ارمانوس) قيصر قسطنطينية إلى محمد بن طغج الإخشيد صاحب مصر (323 - 334هـ)، ورد الإخشيد على هذه السفارة.
وحمل كتاب الإمبراطور إلى الإخشيد رسولاه نقولا وإسحاق، وفيه يطلب الإمبراطور تنظيم مسألة الفداء، وتسهيل المعاملات التجارية لرسله في البيع والشراء، وعقد الصداقة المتبادلة بين الدولتين، غير أن الإمبراطور يمن في نفس الوقت على الإخشيد بأن تنازل لمكاتبته مباشرة، لأن مقامه كقيصر الدولة الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته وحميد سيرته وفيض عدالته ورحمته.
وقد رد الإخشيد على رسالة الإمبراطور بكتاب شهير من إنشاء إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، وانتهت إلينا صورته بأكملها.
وفيه يرد الإخشيد على رومانوس بالشكر على ما أسبغ عليه من حمد ومديح، ويقول: إنه مهما تكن منزلة ملك الروم فانه لا يرى بأساً أن يكتب إليه، وقد كتب من قبل إلى أقرانه ممن لا يرتفع إلى منزلته، فقد كتب القياصرة من قبل إلى خمارويه أحمد بن طولون، والى تكين مولى الخليفة وحاكم مصر وحدها؛ وينوه الإخشيد بأهمية مكانته وضخامة ملكه وما لمصر من غابر الزمن من ملك باذخ، وأنه يحكم الشام وفلسطين إلى جانب مصر، ويشرف على مكة منبع الإسلام، ومدينة الرسول؛ وأنه لم يكن يحب أن يثير في ذلك جدلاً أو ملاحظة لولا ما تقدم به الإمبراطور.
ثم يعبر الإخشيد عن حمده وثنائه للإمبراطور لما يبديه نحو الأسرى المسلمين من الرفق والرعاية، ويصرح بإجابته إلى ما طلبه من تنظيم الفداء ومبادلة الأسرى، ومن عقد الصداقة المتبادلة، ومن تسهيل المعاملات التجارية لرسله التجاريين، وقد صيغت هذه الرسالة الشهيرة في أسلوب سياسي بديع يجمع بين حزم المخاطبة، ورقة المجاملة.
وفي صيغتها ومحتوياتها ما يلقي ضياء كبيراً على طبيعة العلائق بين مصر الإسلامية والدولة البيزنطية في أوائل القرن الرابع الهجري (أوائل القرن العاشر الميلادي) وكانت الدولة الفاطمية خصيمة الدولة العباسية تنازعها زعامة الإسلام في المشرق؛ وكانت السياسة البيزنطية تتجه يومئذ إلى الضرب بين الدول الإسلامية المختلفة والاستفادة من تنازعها وتنافسها؛ فلما تضاءل سلطان الدولة العباسية، وبرز سلطان السلاجقة في المشرق، اهتمت الدولة البيزنطية بمقاومة هذا الخطر الجديد ومصانعته، وعملت على أن تكون محوراً للتجاذب السياسي بين هذه القوى الإسلامية المختلفة.
وقد وقع بين مصر وقسطنطينية في منتصف القرن الخامس، حادث سياسي شهير يوضح لنا طبيعة هذا التجاذب، هو سفارة المستنصر بالله الفاطمي لبلاط قسطنطينية وما كان من أدوارها ونتائجها.
ففي سنة 446هـ (1053م) أيام الخليفة المستنصر بالله نكبت مصر بوباء ذريع استطال مدى أعوام؛ واقترن الوباء بغلاء وقحط شديدين، وأصيبت مصر بصنوف مروعة من الدمار والفوضى.
وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر (بالشدة العظمى).
فأرسل المستنصر بالله (سنة 446هـ) إلى قسطنطين إمبراطور قسطنطينية يطلب منه العون، وأن يمده بالغلال والأقوات، ورأت السياسة البيزنطية في ذلك فرصة سائحة لتحسين مركزها وعلائقها مع مصر، التي كانت تهددها من البر والبحر، فلبى الإمبراطور الدعوى، وتم الاتفاق على بذل العون المطلوب؛ ولكن قسطنطين توفي قبل تنفيذه، وخلفته على العرش الإمبرطورة تيودورا، واشترطت لمعونة مصر شروطاً أباها المستنصر، واشتبك الفريقان في معارك شديدة في البر والبحر.
وفي سنة 447هـ، أرسل المستنصر سفيراً إلى تيودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية الخلاف، فذهب إلى قسطنطينية ليحاول عقد الصلح مع بلاطها، ولكنه لم ينجح في مهمته، لأن السياسة البيزنطية آثرت عندئذ جانب السلاجقة الذين كثرت غزواتهم لأراضي الدولة، ورأت أن تصانعهم وأن تسعى إلى مهادنتهم، وسمح لرسول طغرل بك عاهل السلاجقة أن يخطب في جامع قسطنطينية باسم الخليفة العباسي القائم بأمر الله ولما وقف المستنصر بالله على ذلك رأى أن ينتقم بالقبض على أحبار القمامة (كنيسة قبر المسيح) في بيت المقدس ومصادرة تحفها وذخائرها؛ واستمرت الخصومة بعد ذلك عصراً بين مصر والدولة البيزنطية وفي أيام الحروب الصليبية كثر تردد السفارات والمفاوضات بين مصر باعتبارها زعيمة الجبهة الإسلامية يومئذ، وبين قادة الحملات الصليبية، وكثر عقد العهود والهدن والمعاهدات.
ولا يتسع المقام لاستعراض هذه المبادلات الدبلوماسية التي وصلت يومئذ إلى ذرى التشعب والاتساع، والتي تملأ فراغاً كبيراً في أخبار ذلك العصر؛ ولكنّا نمثل لها بحادثين: الأول سفارة لويس التاسع (القديس لويس) ملك فرنسا إلى سلطان مصر الملك الصالح حينما جاء إلى مصر على رأس حملته الصليبية (1249م) وكتب إلى الملك الصالح باسم الأمم النصرانية يطالبه بتسليم مصر وينذره بالويل إذا أبى؛ وكان الملك الصالح يومئذ مريضاً في القاهرة، فتولى كاتبة بهاء الدين زهير الشاعر الأشهر كتابة الرد، وفيه يرد على الصلبيين وعيدهم وينذرهم بالانتقام؛ والثاني سفارة من ملك فرنسا أيضاً إلى سلطان مصر يطالبه بإعادة بيت المقدس إلى الفرنج، وان يفتح لهم ثغرا في الساحل وتكون البلاد وولايتها ة وإدارتها مناصفة بين المسلمين والنصارى على أن يؤدي الفرنج لمصر نظير ذلك جزية سنوية ضخمة.
والظاهر أن مرسل هذه السفارة هو فيليب الجميل ملك فرنسا، وأن المرسل إليه هو السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأنها وردت إلى مصر في أواخر القرن السابع الهجري أو أوائل القرن الثامن.
وقد نقلت إلينا الرواية الإسلامية تفاصيل الحادث دون أن تعين تاريخه، وذكرت أن السلطان غضب لجرأة الفرنج حين أبلغ السفراء رسالتهم، وذكرهم بنكبة دمياط، وأنذرهم بالويل والثبور وردهم أقبح رد وقد كانت مصر منذ الحروب الصليبية محور الدبلوماسية الإسلامية ومجمعا للعلائق بين الشرق والغرب؛ وكانت علائقها مع الأمم النصرانية متشعبة النواحي والأطراف، فمن بلاط قسطنطينية إلى الدول الإيطالية - البندقية وبيزا وجنوه ونابولي - إلى مملكة فرنسا، وإلى إسبانيا النصرانية؛ وتاريخ مصر في القرنين الثامن والتاسع الهجريين (الرابع عشر والخامس عشر) حافل بأخبار هذه العلائق الدبلوماسية.
وقد أورد لنا القلقشندي في (صبح الأعشى) عشرات بل مئات من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية التي تلقي أعظم ضياء على طبيعة هذا العلائق ومداها ونكتفي في هذا المقام أيضا بالتمثيل ببعض السفارات النصرانية إلى بلاط القاهرة؛ فقد أرسل قيصر قسطنطينية مانويل باليولوج سنة 814هـ (1411م) كتاباً إلى الملك الناصر فرج، على يد تاجر يوناني يدعى سورمش يؤكد ما كان بين والده (أي والد قيصر) وبين والد السلطان (الظاهر برقوق) من أواصر المودة والصداقة، وبعث معهم عدة من البزاة هدية للسلطان؛ ورجا السلطان في كتابه أن يعامل الأحبار النصارى بالرفق والرعاية. ووردت على بلاط مصر سفارة أخرى في نفس هذا العام (سنة 814هـ) من (دوج) البندقية ميميكائيل، وقدم السفير (نقولا البندقي) إلى السلطان ناصر فرج كتاباً من الدوج يبلغه فيه تحياته وثناءه على ما كان يلقاه التجار البنادقة من الرعاية وكرم الوفادة، ولكنه يحتاج على حبس بعضهم في ثغر دمياط، ويحتج بالأخص على ما وقع بالإسكندرية من القبض على (قنصل) البنادقة وأكابر التجار البنادقة، وأخذهم إلى القاهرة مصفدين بالأغلال، وينوه بأن هذه الإهانة إنما هي إهانة له بالذات (أي للدوج) ويرجو السلطان أن يعدل عن هذه السياسة إلى الرفق بالقنصل والرعايا البنادقة، لتحصل الطمأنينة للتجار ويكثرون من التردد على مصر.
وهذه الوقائع التي يشرحها الدوج في رسالته إنما هي حادث دبلوماسي محض؛ وقد صيغت في أسلوب رقيق ينم عما كان لمصر يومئذ من عظيم الهيبة في نفوس الدول النصرانية؛ وفيها يستعمل قلم الترجمة السلطاني كلمة (قنصل) ترجمة للكلمة الإفرنجية المماثلة، وهي كلمة ما نزال نطلقها اليوم في اصطلاحنا الحديث على ممثلي الدول الذين يختصون بأعمال هذا المنصب تلك طائفة متناثرة من السفارات الخلافية والسلطانية، والموضوع مشعب الأطراف واسع المدى.
بيد أن ما أوردناه من أحاديث هذه السفارات والرسالات المتبادلة يكفي لشرح كثير من خواص العلاقات الدبلوماسية في تلك العصور.
وهناك بالأخص ناحية أخرى من علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية لم يتسع المقام للتحدث عنها: تلك هي علائقإسبانيا المسلمة (الأندلس) بأسبانيا النصرانية وبالأمم الإفرنجية الأخرى؛ فهذا العلائق وحدها تملأ صحفاً فياضة من تاريخ الدبلوماسية الإسلامية؛ وقد كان عهد الخلافة الأموية بالأندلس عهداً زاهراً في تنظيم هذه العلائق ففي عصر الناصر دين الله، ثم ولده الحكم المستنصر، انهالت وفود الأمم النصرانية وسفاراتها على بلاط قرطبة؛ فكانت تستقبل في قرطبة في أيام مشهورة ومراسيم شائقة بهرت أمم العصر وقصوره؛ وكان تقاطرها على قرطبة في ذلك العصر الذي بلغت فيه الأندلس ذروة العظمة والسلطان، شاهدا بتطبيق هذه الخاصة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث، وهو أن اتجاه السفارات السياسية من الغرب إلى الشرق ومن الأمم النصرانية إلى الأمم الإسلامية كان في معظم الأحيان شاهدا بتفوق الشرق والإسلام في القوة والعظمة والسلطان (تم البحث) محمد عبد الله عنان المحامي