أرشيف المقالات

أسباب تفرق المسلمين

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
أسباب تفرق المسلمين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن من ركائز الدين الإسلامي ودعائمه العظام؛ اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ونبذ الفرقة والخلاف.
 
وذكر سبحانه نعمته على المؤمنين باجتماعهم وتآلف قلوبهم، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 62، 63].
 
قال ابن كثير رحمه الله: "قوله: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، أي: لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103] " [1].
 
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159].
فبرأ الله نبيه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهى عن التفرق والاختلاف، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].
 
وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: "وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول ولا ينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم لم يزدهم الهدى إلا ضلالًا، ولا البصيرة إلا عمى، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ودين واحد" [2].
 
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار قال: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي"، فَكُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ [3].
 
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة -قال سفيان مرة: في جيش– فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟!" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" [4].
 
وفي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ".
قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: "إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ".
قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِليَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجدر فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ ألْصِقَ بَابَهُ فِي الْأَرْضِ" [5].
 
فهذه الأحاديث السابقة تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على تأليف قلوب الناس، وجمع الكلمة، ومراعاة المصالح والمفاسد، بل إن الكذب وهو من كبائر الذنوب أُجيز في حالات معينة، منها تأليف القلوب، وجمع الكلمة، والإصلاح بين الناس، فكما جاء في الحديث: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا" [6].
 
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله: "وانظر في حكمة الله ومحبته لاجتماع القلوب كيف حرم النميمة - وهي صدق - لما فيها من إفساد القلوب، وتوليد العداوة والوحشة، وأباح الكذب - وإن كان حرامًا - إذا كان لجمع القلوب وجلب المودة وإذهاب العداوة" [7].
 
ولذلك يجب الدعوة إلى هذه الركيزة العظيمة - أعني اجتماع الكلمة - والتحذير من الأسباب التي توقع في الفرقة والخلاف وهي أسباب كثيرة وفروعها متشعبة، إلا أنها ترجع في نهاية المطاف إلى أمرين اثنين:
الأول: عدم توحيد المصدر الصحيح الذي يرجع فيه إلى تطبيق شعائر الدين، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه السلف الصالح، وذلك بكثرة من يفتي وهو غير مؤهل للفتوى، وفي هذا العصر تساهل الناس في تلقي الفتوى، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية مفتٍ أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفتٍ أو أكثر، وكذلك الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق والفجور لها مفتٍ، والذين يفتون المثقفون والأطباء والصحفيون والمهندسون وغيرهم من الجهال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّه لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" [8].
 
"ولذلك ينبغي لمن ولاه الله أمر المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها.
 
وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يعينونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم، قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك: "ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق" [9].
 
وفي السابق كان العلماء يمنعون من ليس من أهل الفتوى من التصدر لها، ويذكر في هذ المقام سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الذي كان يمنع المتطاولين، ويؤدب المتجاوزين، جاء في كتاب له لأحد المتصدرين للفتيا ممن ليس من أهلها: "الداعي إلى الكتابة لكم أنه تكرر منكم تدخلكم فيما أنتم في غنى عنه، فضلًا عما فيه من التنافي مع ما يقتضيه التقى والورع من وجوب استبراء العبد لدينه وعرضه، وذلك رأيكم في التصديق للعامة بإفتائهم في مسائل الطلاق بما هو خلاف ما عليه الفتوى، وما اشتهر القول به لدى جمهور العلماء، ومرجوحيته ظاهرة لدى المحققين من أهل العلم.
 
فنأمل منك بارك الله فيك الكف عن إرباك العامة بفتاوى شاذة، أو مرجوحة، ومتى تقدم إليكم من يطلب الفتوى فعليك بالإشارة لهم إلى الجهة المختصة بالفتاوى، ونرجو أن يكون لديك من أسباب احترامك لنفسك، ما يغنينا من إجراء ما يوقفك عند حدك" [10].
 
ولما أعلن أحدهم إباحة الغناء رد عليه بعض العلماء كالشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ صالح الفوزان" [11].
 
الثاني: حب النفس وتقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وقد كان السلف على خلاف ذلك يؤثرون غيرهم على أنفسهم ويقدمون مصالح المسلمين على مصالح أنفسهم.
فمن ذلك ما حصل من تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، حيث سمي ذلك عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين على معاوية، وكان هذا مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [12].
 
"قد يقول قائل: إذا كان الاختلاف في الدين منهيًّا عنه، فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين؟
الجواب: نعم، هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك في شيئين: الأول سببه، والآخر أثره.
فأما اختلاف الصحابة، فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم، لا اختيارًا منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليًّا، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها، لعدم تحقق شرط المؤاخذة وهو القصد أو الإصرار عليه.
وأما الاختلاف القائم بين المقلدة، فلا عذر لهم فيه غالبًا، فإن بعضهم قد تبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ.
 
وآخرون منهم على النقيض من ذلك، فإنهم يرون هذه المذاهب – على ما بينها من اختلاف واسع– كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم [13]: لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: "اختلاف أمتي رحمة"، وكثيرًا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك.
ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده.
 
قال ابن القاسم: "سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: فيه توسعة ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب" [14].
وقال أشهب: "سُئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛أتراه من ذلك في سعة، فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! ما الحق والصواب إلا واحد" [15].
 
فثبت أن الخلاف شرٌ كله، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم، فظهر أن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم هو غير اختلاف المقلدة.
 
وخلاصته: أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، وأما المقلدة – فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه – فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين، ذلك هو الفرق من جهة السبب.
 
وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم - مع اختلافهم المعروف في الفروع – كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه؛ ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعًا وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلافٍ مذهبي.
 
وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تمامًا، فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعًا وراء إمام واحد، بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك ورأيناه كما رآه غيرنا [16]، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة أو البطلان؟! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناسًا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي.
 
بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين، مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية- وهو الملقب بـ"مفتي الثقلين" - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله: تنزيلًا لها منزلة أهل الكتاب [17]، ومفهوم ذلك- ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم - أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية؛ كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة؟!
هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السَّيِّئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيِّئ في الأمة، ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين– بخلاف المتأخرين – هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم.
وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة؛ إذن لهان الخطب بعض الشيء، ولكنه -ويا للأسف- تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار، فصدوهم بسبب اختلافهم، عن الدخول في دين الله أفواجًا" [18].
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] تفسير ابن كثير (7 /2114).



[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص(890).



[3] صحيح البخاري برقم (4330)، وصحيح مسلم برقم (1061).



[4] برقم (3518).



[5] صحيح البخاري برقم (7243) وصحيح مسلم برقم (1333).



[6] صحيح البخاري برقم (2692) وصحيح مسلم برقم (2605).



[7] سبل السلام (8 /264).



[8] صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (3673).



[9] بدائع الفوائد (3 /1287).



[10] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (11 /36).



[11] الانحراف في الأمة.أسبابه، وآثاره، وسبل مواجهته للدكتور عبد العزيز البداح، ص(230-231).



[12] صحيح البخاري برقم (3629).



[13] انظر: فيض القدير للمناوي (1 /209)، أو سلسلة الأحاديث الضعيفة (1 /76-77).



[14] ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2 /81-82).



[15] المصدر السابق (2 /82، 88-89).



[16] راجع الفصل الثامن من كتاب: ما لا يجوز فيه الخلاف، ص65-72، تجد أمثلة عديدة مما أشرنا إليه وقع بعضها من بعض علماء الأزهر.



[17] البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2 /49).



[18] مقدمة كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني رحمه الله ص60-66 بتصرف.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١