أرشيف المقالات

طرائف من العصر المملوكي:

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
8 الشكوى في شعر ابن نباتة للأستاذ محمود رزق سليم لا ريب أن البشرية غايتها السعادة؛ فهي تسعى إليها أفراداً وجماعات، وتطرق كلُّ باب يؤدي إليها، وكل سبيل تفضي نحوها.
- وقد اختلف الناس - ولا يزالون مختلفين - في كنه السعادة وفي الوسائل المؤدية إليها.
ولكن - ليت شعري - أيكون البؤس مظهراً من مظاهر السعادة، أو يكون وسيلة من وسائلها؟ نتساءل، لأن النفوس مختلفة الطباع، متباينة الاتجاه.
ومن الناس من يجد لذته في شقائه، وسعادته في بؤسه.
إذ خلقت نفسه ذات طبيعة قلقة حائرة تنشد الهدوء، حتى إذا وجدته نفرت منه، وعاودت سعيها إليه.
وتطلب الرضا، حتى إذ ظفرت به ونعمت بأسبابه، قطعت ما بينها وبينه، ثم شاقها الحنين للبحث عنه.
هذه نفوس من طراز خاص توسع في آمالها ما أفسح لها الخيال، وتسعى في سبيلها ما بدا لها السعي.
حتى إذا وصلت إلى أمل جددت أملاً؛ وإذا ما انتهت من سعى عاودت سعيا.
لأن غايتها في السعي نفسه، لا في عاقبته.
ولأن إربتها في البحث ذاته، لا في نهايته، فهي أبدا في عمل دائب وهم ناصب.
وهي لقلقها الذي فطرت عليه، وحيرتها التي خلقت بها، لا تستريح إلى طريق في الحياة ممهدة معبدة، لا أمت فيها ولا عوج.
ولا تطيب لها السبل، إذا امتلأت جبناتها بالورود والأزاهير.
بل تفضل منها المعقدة الملتوية المجذبة، على السهلة المستقيمة المخصبة.
وتختار المشقة على اليسر، وتؤثر التعب على الراحة.
كلُّ ذلك لا ليقال: مجيدة بلغت السيادة بجدها وجهادها، ولا ليقال: فريدة حازت السعادة بكدها وجلادها، بل لكي تلائم بين هذه المشقات وبين طبيعتها، وما فيها من قلق وحيرة.
ولكي تجد فيها من الأسباب ما ترتل عليه شكواها وتوقع أنينها.
فهي مطبوعة على حب الشكوى، تجيدها وتجد فيها راحتها، ومفطورة على الأنين تحبه، وتستشعر خلاله طمأنينتها.
وهي لا تستطيع الحمد فلا تجأر به، ولا تستسيغ الرضا فلا تهدأ إليه.
ولو راحت تحمد وترضى، ما استطاعت ذلك إلا متكلفة مجهودة، ومتعبة مكدودة. هذه نفوس من طراز خاص كما أشرنا.
وتأبى الأقدار إلا أن تهيئ لها كلُّ العوامل التي تنضج فيها هذا الفن من فنون الحياة فتلقى في طريقها الأشواك، وتبث الشراك، حتى يكث عثارها، ويتكرر نفارها.
وهي - في الحق - راضية في قرارتها، هانئة في أعماقها؛ لأن ما تصنعه لها الأقدار يتلاءم مع سجيتها، وينسجم مع طبيعتها.
وهكذا تبدو بائسة يكاد يأكلها البؤس، ونحسة يكاد يطويها النحس.
فتقر بقلقها من دار إلى دار، ومن سبيل إلى أخرى.
تنشد ما تزعم من سعادة وعزاء، شاكية آنة، باثة حانة.
حتى إذا ما ظفرت نفرت وإذا وصلت فصلت.
ولم تستطب هذا الاستقرار، ولا ما هيأه لها من سعادة، ولا ما دعاها إليه من لهج بالحمد والثناء. تتجاذبنا هذه الخواطر كلما جلسنا إلى ديوان ابن نباتة الشاعر المصري الكبير، لنقرأ طرفاً من أبياته؛ إذ نرى فيها شاعراً بادي القلق ظاهر البؤس، كثير الشكاية، وتلك سمة واضحة في شعره، وفي مراحل حياته. كان جمال الدين بن نباتة (686هـ - 768هـ) أمير شعراء مصر في جيله غير منازع، وهب الله له نفساً أديبة خصيبة، وخيالاً واسعاً رحيباً، ولساناً طيعاً، ومنطقاً مصوراً بارعاً.
فهام لذلك في أودية الشعر، وطرق الجم من فنونه.
وحق له أن بفخر بقوله: فما الدر إلا دون نظم أصوغه ...
وما القصر إلا دون بيت أشيده ويقول: من مبلغ العرب عن شعري ودولته ...
أن ابن عباد باق وابن زيدونا ظن ابن نباتة، وقد طاع له من القول عصيه، ودان له من الشعر أبيه، أن من حقه على الزمن أن يسعده لا يجحده، وأن ينعمه لا يشقيه، وأن يهيئ له من أسباب الرضا ما تقر له عينه، وتطيب به نفسه، حتى يستبقى جهده، لفنه وحده لا تشغله عنه شواغل الحياة، ولا تقعده دونه هموم الرزق. ظن ابن نباتة ذلك، ولم يعلم أن الزمان قد استحال، وأن الدهر قد تغير، وأن دولاً ذهبت، وجاءت على أنقاضها دول.
وأن الملوك قد استعجمت بل والشعوب، وذهبت أيام الرواج للشعر، وطويت بسط الإنشاء، وانفض سامره، وقضى عهد التكسب، وقبضت يد العطاء عن الشعراء، وأقفلت في وجوههم جنات النعيم. هذه حقيقة فطن لها انداده من شعراء عصره فلووا جيدهم وانصرفوا عن التكسب بالشعر إلى التكسب بغيره.
فكان منهم العالم الفقيه، أو الكاتب المنشئ، أو التاجر المتنقل، أو المعترف الصانع.
والتمسوا الرزق بالوظيفة في القضاء أو الكتابة في الدواوين، أو التجارة والصناعة.
ورفهوا عن أنفسهم بين الفينة والفينة بأبيات من الشعر ينظمونها في حاجاتهم النفسية.
ولم يسلموا مصيرهم إلى يد الشعر، يستمطر لهم الرزق من الملوك وأشباه الملوك، كما كان أسلافهم في عهد بني أمية، وعهد بني العباس - حتى بدا لبعضهم أن يحمل على صناعة الشعر، ويفضل عليها صناعته الدنيا التي يقتات منها.
ويعلل لذلك فيحسن التعليل، ويوري فيجيد التورية.
وقد قال أبو الحسين الجزار (679 هـ): كيف لا أشكر الجزارة ما عاش ...
ت حفاضاً وأرفض الآدابا وبها صارت الكلاب ترجِّي ...
ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا. أما ابن نباتة، فقد صمم على أن يعيش لفنه، لا تلهيه عنه تجارة أو بيع.

ظانا أنه سيدر عليه من الذهب النضار، ومن الفضة النثار.
فانساق إلى مهواة التكسب حتى أدركته حرفة الأدب، ولحقه كساد الشعر وبواره.
ولم يجن من وراء ذلك إلا القلق والبؤس وصار كما يقول عن نفسه وهو بدمشق، متذكراً ما مضى من أيامه: شهور وصل كساعات قد انقرضت ...
بمن أحب وأعوام كأيام ولَّت كأني منها كنت في سنة ...
ثم انبرت لي أيام كأعوام مقلقلاً بيد الأيام مضطرباً ...
كأنما استقسمت مني بأزلام قد حرمت حالتي طيب الحياة بها ...
كأن طيب حياتي طيب إحرام هي المقادير لا تنفك مقدمة ...
وللحجا خطرات ذات إحجام وهذه حالة لا مفر منها، مادام قد طرق أبوابها، وسلك رحابها.
وما ظنك بمتكسب في غير سوق، وسادر دون وثوق.
ليقرع بابا، ويهجر مقصوداً لييمم شطر مقصود.
هذا يعطيه وذاك يمنعه، وهذا يهب له وذاك يدفعه.
وهو ما بين هذا وذاك ساخط على من حرمه وقلاه، شاك فيمن منحه وأعطاه.
هذه - لعمرك - حياة المتبطل الكسول الذي يلبس لبوس عصره، ولم يرتد مسوح زمانه.
يقول: يا سائلي بدمشق عن أحوالي ...
قف واستمع عن سيرة البطال ودع استماع تغزلي وتعشقي ...
ماذا زمان العشق والأغزال طول النهار لباب ذا من باب ذا ...
أسعى لعمر أبيك سعي الظلال وبقول منها: أترى الزمان يعينني بولاية ...
أحمي بها وجهي عن التسآل زحل يقارن حاجتي وقد انحنى ...
ظهري من الهم انحناء الدال لم تهتم المقادير بإجابة ابن نباتة إلى سؤله، بل ادخرت له في جعابها أقسى ما ادخرت لإنسان.
وحفظت له في قرابها أحد ما أرهقته لامرئ.
وهي تعلم - بلا ريب - خبيآت نفسه ومغيبات حسه.
فادخرت له ما ادخرت، وأرهفت ما أرهفت لملاءمته لها.
وبذلك وحده، ينبغ أدبه، وينبغ فنه، ويصبح شاعر البؤس والشكوى.
وما كلُّ بائس بملتئم مع بؤسه في أعماق نفسه.
أما ابن نباتة فقد نعم بهذا البؤس، لأن نفسه وجدت فيه معيناً لشكايتها حتى خلقت لتجيدها وتحسن القول فيها.
لهذا جاء شعره ترجماناً صادقاً عن مطوى نفسه، ولساناً معبراً عن مذخور حسه.
وصارت الشكوى في خلال أبياته، على اختلاف منازعها، اللون الأصيل، واللحن المشترك، الذي لا تتم ألوان القصيدة أو أنغامها إلا به، يقول وقد عجل إليه المشيب: عجبت خلتي لو خط مشيبي ...
في أوان الصبا وغير عجيب من يعم في بحار همي يظهر ...
زبد فوق فرعه الغربيب من يحارب حوادث الدهر بخفي ...
لون فوديه في غبار الحروب أي فرع جون على عنت الأ ...
يام يبقى وأي غصن رطيب لو همي ماء معطفي من ال ...
ين لأفنته مهجتي بلهيب ونعتقد أن ابن نباتة، كان في مقدوره أن ينجو بنفسه بعيداً عن نحسه، وأن يجنبها مشاق الحياة ووعثاء العيش بالأرتزاق بإحدى الطرق المألوفة في زمانه، وأيسرها عليه الكتابة في ديوان الإنشاء.
ونعتقد أنه لو سعى جاداً إلى الوظيفة لظفر بها.
فهو لا يقل باعاً ولا يقصر ذراعاً عن رؤساء هذا الديوان، إن لم يكن في الإنشاء أحفل منهم وأفضل.
ولا ندري ما نعلل به حرمانه من وظائف الديوان - وما خلقت إلا لأمثاله - إلا وثوقه من شعره واعتقاده أنه سيكون سبيله إلى الغنى والثراء والعيش الكريم، وإلا خوفه مما في الديوان من قيود ونظم لا تتلاءم مع قلقه وحبه للتنقل.
ولعل استحواذ جملة من أدباء العصر - أمثال العلاء بن الأثير، وأبناء فضل الله العمري - على قلب الناصر سلطان مصر حينذاك، كان في جملة أسباب حرمانه، وتأبى وظائف الديوان عليه. على أن ابن نباتة كانت لأبيه ثروة بدمشق وبمصر، وكان يعينه بشيء منها بين الآن والآن.
فلما مات أبوه بدد ما ورث في مسارح اللهو ومطارح الهوى ومغامرات الشباب، وأنفق وأسرف، وبذر واتلف، كأنما وعده القدر أن يهيء له الأمل الجديد في المستقبل السعيد.
ولكن القدر ضحك منه ملء شدقيه وأسلمه للحاجة تأزمه، وللفاقة لا ترحمه. هذه أمور كان لها أثر في ابتئاسه وشكواه.
ويأبى الدهر إلا أن يضاعف له في هذه الأسباب كلما تراخت الأيام وتطاولت عليه الليالي. فقد ابتلى بالزواج الباكر.
والزواج الباكر نعمة وعصمة، لولا مسئولياته الضخمة وأعباؤه الثقال.
ولو كان ابن نباتة في بحبوحة من العيش، وسعة من النعمة، لما أرهقه الزواج وآده.
وقد كان شاعراً.
والشاعر تطن الأحداث في دنياه الباطنة طنيناً مضاعفاً.
وكانت أوتار نفسه تجيد ألحان الشكوى، فوجدت في أحداثه ما يحسن التوقيع عليها. لقد ولد له نحو ستة عشر وليداً.
والأبناء عزة وقوة وزينة، إلا مع الفاقه، فإنهم ذلة وجبنة ومذمة.

هكذا جرى العرف بين الناس.
يقول ابن نباتة: لقد أصبحت ذا عمر عجيب ...
أقضى فيه بالأنكاد وقتي من الأولاد خمس حول أم ...
فوا حرباه من خمس وست ويقول: كنت في الشعر جواداً ...
يحرز السبق بلمحه فثناني العسر والأو - لاد لا أملك فسحه كلُّ ابن لي وبنت ...
كشكال لي وسبحه وزناد القول لا يس - مح في وجهي بقدحه وتأبى الأقدار مرة أخرى إلا أن تتخذ من هؤلاء الأبناء هدفاً تقذفه فيه وتصميه منه.
فقد كان أبناؤه يموتون واحداً إثر واحد إذا بلغوا الثامنة أو نحوها.
فتكررت فجيعته في كلُّ واحد منهم يوم ميلاده ويوم وفاته.

بكاهم وأودع في رثائهم ما في قلب الأب من وله ولوعة، وما في صدره من زفرة، وفي عينه من دمعة ورثاء الأبناء من أمر ضروب الشكوى.
يقول الشاعر في رثاء ولده عبد الرحيم. أسكنت قلبي لحدك ...
لا خير في العيش بعدك يسيل أحمر دمعي ...
لما تذكرت خدك وقدَّ بالهم قلبي ...
لما تذكرت قدَّك يا سائل الدمع إيه ...
فما أجوَّز ردك أقصدتني يا زماني ...
كأنني كنت قصدك وكان ما خفت منه ...
فاجهد الآن جهدك.

الخ نبا بابن المقام بمصر، فنزح إلى دمشق ولقي وزراءها أبناء فضل الله العمري، ووجد من لدنهم شيئاً من الخير والبر أطلق لسانه مادحاً مشيداً بذكرهم، حتى قال: من مبلغ الأهلين عني أنني ...
بدمشق عدت لطيب عيشي الأرغد وأمنت من نار الحطوب ولفحها ...
لما لجأت إلى الجناب الأحمدي ويقول شهاب الدين بن فضل الله: نظرت أبا العباس نظرة باسم ...
لحال امرئ كاد الزمان يبيده فأحييته بعد الردى وأقمته ...
وقد طال من تحت التراب هموده ولكنا لا ندري بالضبط ما الذي نفره من دمشق فزايلها إلى حماة، إلا ما كان في نفسه وطبيعته من حب التنقل، وكراهة الاستقرار.
ولعل أريحية المؤيد صاحب حماة، جاذبته عصا تسياره ورحل أسفاره.
وهناك في حماة وجد طمأنينة وبلهنية، ورفاهة ونعيماً، وصحبة كريمة، وظفر منه المؤيد وأبنه الأفضل، لقاء ذلك، بأعطر ما تطمع فيه الملوك من القصيد.
قال يذكر لقاء المؤيد له ويمدحه: زمن الأنس قائم بالتهاني ...
ونوال الملك المؤيد يسري ملك باهر المكارم يروي ...
وجه لقياه عن عطاء وبشر زرت أبوابه فقرب شخصي ...
ومحا عسرتي ونوه ذكرى ونحا لي من المكارم نحواً ...
صانني عن لقاء زيد وعمرو الخ غير أن الزمان تجهم له في حماة.
ولعل ذلك بسبب وفاة المؤيد ثم زوال الأفضل، فعاد إلى دمشق يطرق أبواب وزرائها مرة أخرى، فأدخله ابن فضل الله في ديوان الرسائل.
وهكذا نال في شفق حياته ما حرمه وعز عليه في ضحاها.
وضج لسانه بشكر ابن فضل حيث يقول: بلغتني يا ابن فضل الله مطَّلباً ...
لم أرجه من بني الدنيا ولم أخل وقد سموت لديوان الرسائل في ...
طي ادكارك لا كتبي ولا رسلي غير أنه ابتلى حينذاك بتأخر مرتبه، وانقطاع هبات علاء الدين بن فضل الله وتغير قلبه عليه.
وكان ذلك مثاراً لشكاية ابن نباتة فمدح علاء الدين مدحاً امتزج فيه العتاب واللوم، والاعتذار والشكوى، والأمل والرجاء.
فمن ذلك قوله: أمولاي قد غنى بمدحي لك الورى ...
وسارت به الركبان في السهل والوعر إلى أن قال: على أن عندي كأس شكوى أديرها ...
على السمع ممزوجاً بدمعي الغمر أيكسر حالي بالخفاء وطالما ...
تعودت من نعماك عاطفة الجبر ويدفعني عن قوت يومي معشر ...
وأنت عليهم نافذ النهى والأمر ولو كان ذنب لاعترفت به ولا ...
تحيلت في عذر ولا جئت من غفر ويقول له: يا صاحب الذيل من لفظ وفضل علا ...
هل أنت مصغ لما تمليه أسمالي عاثت يد الدهر في يومي وقد بليت ...
أضعاف ما بليت بالهم أقوالي وقد تكررت هذه المعاني منه في أبيات كثيرة.
ومما زاد في آلامه حينذاك أن أشتد به الحنين والشوق إلى بقية أبنائه ممن تركهم بمصر، وكأنما أبقاهم بها وسيلة ميسورة لقلقه وهمه وشكواه.
يقول: صب بمصر حيث أولاده ...
بالشام يذري الدمع مصبوبا ذو كبد حرى وهم بعضها ...
فالكل يشكو الشوق ألهوبا ويقول: يا ساكني مصر تبت للفراق يد ...
قد صيرت بعدكم حزني أبا لهب ويقول في سياق مرثيته للتقي السبكي يتشوق إلى مصر ويصف قلبه الموزع: من لي بمصر التي ضمتك، تجمعنا ...
ولو بطون الثرى فيها فيا طربي ما أعجب الحال، لي قلب بمصر وفي ...
دمشق جسمي، ودمع العين في حلب وتنتابه ذكرى أيامه الماضية وما جنت فيه من لذة ومتاع، والذكرى ضرب آخر من الشكوى، فيصف شعوره في أبيات موجعة حيث يقول: رعى الله دهراً كنت فارس لهوه ...
أروح إلى وصل الأحبة أو أغدو جوادي من الكاسات في حلبة الهنا ...
كميت، وإلا من صدور المها نهد إلى قوله: زمان تولى بالشبيبة وانقضى ...
وفي فيَّ طعم من مجاجته بعد عاد ابن نباتة إلى مصر بعد رحلة طويلة غير موفقة، إلا في فترات متفرقة.
فلقي من الناصر حسن سلطانها الجديد شيئاً من العطف شكره عليه.
ولكن كانت لا تزال جراح قلبه نافلة، وعبارات الشكوى على شفتيه حيث يقول: قضيت العمر مداحا ...
وهذا يا أخي الحال فقير الوجه والكف ...
فلا جاه ولا مال آمن ابن نباتة أخيراً بالحظ إيمان المضطر، وزهد زهد المغلوب، يقول: هي الحظوظ فعش منها بما وهبت ...
ولا تقل عالياً عزمي ولا دونا ويقول: منعتني الدنيا جنى فتزهد ...
ت ولكن تزهد المغلوب ويلتمس لكساد أدبه المعاذير، فيقول: لا عار في أدبي إن لم ينل رتباً ...
وإنما العار في دهري وفي بلدي والإيمان بالحظ قد يكون مظهراً من مظاهر اليأس، ودليلاً على القلق والبؤس، إذ لا يصل المرء إلى حظيرته إلا بعد مدافعة وممانعة، وأمل وإخفاق.
آمن ابن نباتة بالحظ ولكن إيمان البرم به الساخط عليه، الذي عالجه فلم ينجع علاجه، وأوقد له فخبأ سراجه.
آمن به إيمان المهزوم المستسلم، وفي نفسه ثورة عليه مكبوتة. غير أن هذا الحظ الذي تعصى عليه، والقدر الذي عبث به، قد انضجا في شعره فن الشكوى.
ولكم لهذا الفن بين الناس من عشاق! (حلوان) محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

شارك الخبر

المرئيات-١