النقد
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
الينبوع
للدكتور احمد زكي أبو شادي
من جد الحياة أن نضحك. ومن جد الحياة أن نعمل ونشقى، وبين الضحك والعمل، تنساب الأيام وتتراكم الأعوام، ويفنى قديم ويعيش جديد، ويقضي قوم وينشأ آخرون. ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت ضحكه، ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت عمله، وأن يصور خلجات قلبه القلب، وجموح نفسه الوثابة، ومطامع روحه الهائجة، أو نمثل حياتنا التي هي مسرح نضال بين عواطفنا وعقولنا. فنحن أما عمل لذيذ مفرح، نتمثل فيه الماضي، ونرسم صورته الحائلة بصورة لماعة رائعة، ونخلد فيه ذلك الشبح الباهت بطيف براق فاتن.
فيه سحر الحياة وفتونها، وفيه غموضها واسرارها، وفيه جمالها وبهائها، وفيه موسيقاها المتزنة، وأنغامها المتناسقة.
إننا نخلق من القتام نوراً، ومن الموات حياة، أو ننتج نتاجا فنيا. إننا نشيد هذه العواطف والاحساسات، التي أوحت بها إلينا الحياة، والتي صبغها الأسى بلونه الأحمر الدامي، أو أيقضها الأمل بعطره وشذاه، أو حركها الأباء والشمم، والغيظ والشفقة، والغضب والرحمة، تلك العواطف التي تتلاعب بعقولنا وأرواحنا، والتي تتحد في دائرة، سمها إن شئت حياة.
وان شئت حركة الكون. والفنان إنما خلق ليسجل هذا الشعور الذي يصور وحدة الكون، ولا يستطيع تسجيلها إلا إذا أحس بالكون ذاته، ولا يستطيع أن يحس بالكون إلا إذا كان نفس صافية، تنطبع عليها المشاهد، وتظهر على صفحتها الرؤى، وقد تشابك بعضها ببعض.
وقد ارتبطت بروح واحد هو روح التناسب.
فهي كالنغمة الموسيقية، مترابطة مؤتلفة متزنة. وعمل الفنان في هذا المجال.
هو أن يقف أمام دولاب الزمن الذي يدعس كل شيء فينتشل من تحته رؤى ومشاهد.
وعواطف واحساسات، ونوعا من الشعور المبهم الغامض.
ونوعا من الإدراك الناقص.
اجدر بها أن تبقى لأنها تمثلنا.
لأنها قريبة منا شديدة الصلة بنا.
إننا نحتفظ بها لنبقى نحن.
فهي تخلدنا ونحن تخلدنا فنشعر بها في أدمغتنا، ثم نصورها بألفاظنا وكلماتنا.
فنحس أنها قد أتت بسامة فتانة.
نحس بنورها المشرق على نفوسنا فيبعث مواتها. ويحي رميمها، وقد لا نرسمها بالكلمات، فأن اللغات أضيق من أن تشرح ما في النفوس، قد تستعين بالرسم أو النقش أو الموسيقى أو غير ذلك، فعملنا في سبيل إحيائها ورسمها هو الفن وجزاؤنا منها هو الخلود. فهل الفن الذي يتنفس عنه رجال الفنون في بلادنا من هذا القبيل؟ وهل لي أن أقول واسأل عن الشعر الذي يفيض من قرائح شعراء الزمن أيكون تلك الأداة المادية التي تصور تلك الصور الفتانة التي تمتلك علينا تفكيرنا.
وتستبد بنفوسنا؛ أو تلك العواطف المتبدلة المتغيرة التي تستنفد حياتنا، أيكون تلك الأداة المادية التي لها موسيقاها وتوقيعها، والتي نسعى لان نظهر لعيوننا نوعا من الشعور الغامض والإدراك الناقص، لا يدركه إلا القلب الشعري الذي يستمد قوته من الإلهام والعلم والعقل والخيال، كأنه أدراك شامل لما تحويه لحظة من لحظات النعيم أو الشقاء، وبإبراز هذا الشعور الغامض وهذا الإدراك الناقص، في صورة واضحة ناطقة، تامة كاملة فيها حياة وفيها حركة. واذا كان الشعر العصري كما يقول الدكتور أبو شادي في مقدمة ينبوعه (هو لسان حياة العصر، والحياة العصرية ذات صلات شتى بالماضي، وذات تطلع إلى المستقبل، فليس غريبا في الثورة الروحية والفكرية الحاضرة أن يأتي هذا الشعر مزيجا منوعا، لا في مصر وحدها بل في العالم الأدبي بأسره) ويضرب على ذلك المثل بالشاعر الألماني العظيم (إننا لا نجاريه في قوله ولا نجاريه في استشهاده بالشاعر الألماني العظيم، فبينما يشرح ذلك الألماني النبيل عواطفه المتدفقة في نفسه، أو يشرح نفسه الواسعة الفياضة، بأنواع من النظم، نرى الدكتور، لا يرتفع في شعره عن أن ينظم في بعض مناسبات خاصة.
وفرق كبير جداً بين هذا الشعر الذي يكاد يكون (شعرا صحفيا) وبين شعر هين المختلف المتناسق، الذي نرى اختلافه في أغراضه وسعتها، والذي تراه يتناسق في الصفات الأولى، التي تتصف بها نفس ذلك الشاعر العبقري، أما أن يجد الدكتور احمد زكي أبو شادية حجة على الناس في مناسباته التي صاغ كل شعره من اجلها فهذه حجة غير واردة كما يقول رجال القانون في بلادنا، ولا ادري أن كانوا يقولون كذلك في مصر. وأنا عالم كل العلم بأن أقوالي قد لا تفيد مع الدكتور الشاعر، لأنه قد قطع عليَّ الطريق في مقدمة ديوانه فقال (وإذا كنت أؤمن إيمانا عميقا، بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة.
فلست اعني بذلك أن تقديرها شامل في الظروف الحاضرة.
فكم تتباين الأذواق، وعلى حد تعبير (بردنز لاهو برمان) (لا يرتقب أن يجيد عزف موسيقى بتهوفن إجادة المتذوق المعجب بها، من ليست لديه إثارة من عواطف بتهوفن) كذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة). والأستاذ أبو شادي يشير إلى أن (ليس محتوما على غير مريديها - أي أشعاره - أن يطلعوا عليها حتى أكون معرضا لمؤاخذتهم إياي) والشاعر يحدث الناس في صراحة ما بعدها صراحة فيقول (نوازع وجدانية، صوفية تحبب ذلك إلى - أي نشر أشعاره - كأنما أنا مكلف برسالة أؤديها) وأبو شادي يقول (إن الشاعر ككل فنان يعمل على تخليد صورة الحياة الفانية، وذكرياتها في النسق الذي يستطيع به استرجاعها لروحه العالمية) وأنا متفق مع الدكتور في هذه الفكرة إلى ابعد حد، مؤمن بالنوازع الوجدانية الصوفية التي تحفز الشاعر العبقري على إذاعة بنات شعره، ولكنني أكاد أكون كافراً بفكرته الأخرى فكرة النقد واطلاع الناس على الشعر. إن هذا الشعر الذي نشره صاحبه قد خرج من يده واصبح ملكا للناس، لقد تنازل لهم الشاعر عنه، فسيقرئون وسيفهمون وقد لا يفهمون كثيراً، وسيؤخذون وينقدون، فما دخل الشاعر هنا، لقد صار هذا الكلام في حكم التاريخ وسيتكلم الناس عنه بما يرضي صاحبه وبما يكره. وأنا باسم هذا الحق المكتسب قد استعرضت الكتاب، ووقفت على مقدمته، وبعد أن قرأت الينبوع من الجلد إلى الجلد بما فيه من مقدمة وتصدير وإلمامه، ودراسات مختلفة.
وبما فيه من شعر اختلفت ألوانه، وتباينت أمزجته، وبعد أن أنعمت النظر بما فيه من صور جميلة ملونة تستهوي كثيرا من الناس، وأنعمت النظر مرة أخرى في عنوان الكتاب، وصورته الفنية التي تزين غلافه.
آمنت بفكرة واحدة، جسمتها في ذهني قراءة ديوان أبى شادي الجديد. آمنت أن من النادر أن ينتج لإنسان كما يتصور الإنتاج، وأخذت أطبق هذا الحدس على نفسي.
هل الشعر الذي انظم عقوده، يوافق ما أريد أن افهم من الشعر، ثم رجعت اسأل مرة أخرى، إلا يخطئ الإنسان في تصوير الصورة التي تقوم في ذهنه، ومن ثم سألت نفسي، هل الشعر الذي يفيض من ينبوع أبي شادي يشبه في شيء الشعر الذي يشير إليه في مقدمته،؟ وأنا حائر بين الفكرتين، أو أنا أؤمن بأن لأبي شادي اكثر من شخصية واحدة في الشعر، كما أن له اكثر من شخصية في مناحي الحياة، فقد يكون من الوجهة الشعرية، نظرياً وعملياً، وعمله لا يتفق مع نظرياته، كما نه في الأعمال لا يتمسك بمهنة أو فكرة واحدة، فهو طبيعي وشاعر يحرر وينشر ويقرأ ويطالع ويهتم بالوظيفة والنظم وتربية الحيوان، أكاد أتمثله بصورته الرمزية، والجاهرة أمامه والمبضغ في يد والريشة في الأخرى والآلة الموسيقية إلى جانبه، وفتاة الإلهام تنضو عليه، والنحل من حوله وله أزيز وطنين، ويتمثل أمامي وعيناه في الأفق البعيد واحدة تنظر إلى الشرق ولا ترتفع عن الشرق.
وواحدة في الغرب تذهب بنظرها عنه ثم تعود إليه كأنها أبصرت ما يريبها، ولسانه يردد بين هذه النظرات الحائرة شعره المقفى الموزون هو ناظر إلى بلد آبللوخياً، وشاخص ببصره إلى عمرو بن كلثوم يردد معه أقوالا تشبه قوله: قفي قبل التفرق يا ظعينا ...
نخبرك اليقين وتخبرينا وأنا شاك في أن يكون أبو شادي مجددا ملتوي التجديد، لقد وقف على أدب الغرب ما في ذلك شك، وعرف من أدبالغرب كل غث وسمين، فماله قد ضيق على نفسه كل هذا التضييق وهو يحاول بين العسر وذاك، أن يضع لنفسه مزاجا خاصاً.
يتمثل لك فتكاد تنفر منه، لضعفه في التعبير، وتقصيره في التصوير.
ثم هو لا شيء من وجهة التفكير. اقرأ معي الينبوع وهي قطعة من الديوان سمي الديوان باسمها يتمثلها في صورة (سكس ابيل) اقرأها جملة.
فماذا ترى.
أنا إلا أرى فيها نظرة صوفية، ولا افهم منها فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة عادية بسيطة، من الفكر التي يسميها (بول فاليري) فكرة غير شعرية،.
وهي بعد هذا كله، شهوانية مفرطة في الشهوة، تتمثل في بطن أملس، انتصب فوقه جبلان وفي أسفله واد عميق، ربما كانت الفكرة طيبة، ربما كنت تهم علماء الغريزة، ربما كانت تهم رجال النسل، ولكن المادة الصرف، المادة المنتجة الملموسة، المادة التي تشبع شهوة الجسم، أو التي تنتج الجسم، المادة التي لا روح فيها.
هذه المادة النجسة التي ترى في كثير من النساء، قد لا تعجب ذا النفس الشاعرة، وقد لا تروق في عينيه كثيرا. وأعوذ بالله أن أكون كمن حاول عزف مقطوعة لبتهوفن فما استطاع لأنه لم يتأثر بالمؤثرات التي دفعت بتهوفن إلى تأليف قطعته.
لو أن يكون الدكتور كذلك المصور الذي أتيت إليه ليرسمني فشوهني، فلما عاتبته في ذلك.
قال هذا تصوير فني وأنا عوذ بالله من أن يكون كلامي لغواً من ناشئ ارعن، يقلق على الدكتور صفاء نفسه.
وما عرفته وغيره من إخواننا المصريين، لا أباة على النقد، يثيرون من اجله المعارك.
ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع. وأنا بعد هذا الذي قمت أسال نفسي.
إذا كنت على اتفاق والدكتور من حيث النظرة إلى الشعر كفن من الفنون العالية، أفلا يجدر بي أن اتفق معه على اللغة التي يدون بها هذا الشعر؟ إلا يصدق معي الدكتور أن العلة هي اللغة التي يشتكي منها الشعراء، فهي التي تؤلمهم عند التعبير، وتضيق عنهم أو يضيقون بها عند التصوير، فيداورونها ويتلاعبون بها حتى تأتي طيعة راضية لا تحس فيها ضعفاً، وهل يرى الدكتور معي أن لغته في شعره، ابسط من أن تسمى لغة شعرية، بل أكاد أحس بضعفها في كل بيت من أبيات الينبوع التي تبلغ ألفي بيت ونيفا التمس من الدكتور، أن يقرأ معي قطعة أخرى أو قطعتين.
وقعت يدي عليهما من غير تفتيش أو تنقيب.
الأولى دنيالفي جب الأسود.
أقرا هذا البيت وافهم منه شيئا: جعلوا المليك محرماً ...
لسوى الميك دعا المسود أظن أن في هذا الكلام ركاكة وتعقيدا.
وأظن أن الزمن ليس زمن عبد القاهر الجرجاني.
لنعيد النظر في بيت الشعر والفاظه، ولكننا نقول: أن ضعف هذا البيت وغيره من أبيات هذه القطعة اظهر من أن يظهر بل ما تقول في هذا البيت الهزيل من القطعة ذاتها.
وكثير على شاكلته؟ أنا في أمان يا مليك ...
بفضل ربي من ملك أتدري أية مناسبة بين حكمة من ملك ومليك.
ما الذي هزها.
فأنت مختالة تضع نفسها في آخر البيت لتكمل القافية أو قوله في قصيدة العودة صفحة (30) وقفنا في جوار اليم سكرى ...
كسكر الناظرين إلى الرحيق نرى في البر ألوان التناجي ...
وفي البحر المشارف والعميق البحر المشارف والعميق، وسكر الناظرين إلى الرحيق، لا يكملها إلا قوله وأبنا أوبة المحزون لكن ...
بنا طرب من الأدب الحقيقي أو قوله وتمضي الغانيات على تثن ...
تثنى النور في الجو الصفيق الحق أن الجو الصفيق والأدب الحقيقي.
والبحر المشارف والعميق والرحيق إذا زف بعضها إلى بعض خرج شيء ليس في الحسبان هو قصيدة العودة. أنا لا أريد أن اذهب إلى كثير من شعر الديوان فبعض يجزي عن بعض، بل لا أريد أن أطيل الحوار في قضية يراها الدكتور قضية ذوق، وأنا أراها أدبية عربية، تهم الناطقين بالضاد جميعا، فما كانت الكلمات تتلاعب بالشاعر، فتسخره ولا يسخرها، وأنا أومن إيمانا واثقا أن كلمات الشعر يجب أن تكون كالكلام المنزل، لو رفعت كلمة من بيت فلن تجد في اللغة بأجمعها كلمة تحل مكانها وتؤدي المعنى الذي كانت تؤديه الأولى، بل أنا افرق كثيراً من أن توضع الكلمة في غير موضعها فيبخس حقها، ويبخس المعنى حقه بل ما رأى الدكتور في قرط جميل من الماس الفاخر تعلقه أنثى في اسفل ذقنها؟ إنها تشوه جمالها، ويضيع قدر الماس الثمين، فما للدكتور يسوق الكلام فيمواضعه وفي غير مواضعه، بل ما يلجئه إلى كثرة الإنتاج هذه، وللقليل الناضج خير من الكثير الفج، وأنا أرجو أن أكون مخلصا كل الإخلاص في قولي، جريئا كل الجرأة في تعبيري، فقد كفى هذا التبلبل في الأدب العربي، وينهض ولكن ليقعد، ويسير ولكن، إلى الوراء، ينتج الأديب أو الشاعر، ويظن انه فوق النقد، ولو عرف أن النقد سيتناوله في عنف وفي قسوة ما انتج إنتاجا كهذا، ولحاول أن يكون مدققا اكثر مما دقق. حلب (المرتيني)