أرشيف المقالات

عود على بدء:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 من الأعماق للأستاذ كامل محمود حبيب - 2 - كتبت في العدد 819 من (الرسالة) الغراء قصة (من الأعماق)، وتركتها - كما هي الحياة - بدون خاتمة، وانتظرت رأي عقل القارئ العزيز لعله ينير السبيل لقلبين، فانثالت علي الرسائل من كل ناحية، فاجتمع لي منها آراء اعرض بعضها على صفحات (الرسالة).
وأنا - إذ أفعل - أدير الكلام على طريقتي وأسلوبي، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي والفكرة: جاء في رسالة الأديب عيسى الأشعري بأسيوط - بعد كلام طويل - ما يأتي: سيدي - يا حضرة الضابط الفاضل - أنت تؤمن بأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت.
فدعني أجثو أمامك في خشوع وأنحني لك في احترام، أنشق عبير روحك الوثابة وأقبل ثرى وطئته قدمك الطاهرة، وأستمتع ساعة باستجلاء طلعتك الصارمة، أحي فيك الشجاعة، والشهامة والرجولة.
وحين رجعت إلى أرض الوطن الغالي - عائداً من الميدان - رأيتك يا قلب مصر النابض، وأملها البسام، وعلمها الخفاق، فخفق لك قلبي واهتزت مشاعري، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت.
آه لو استطعت فاقتحمت هذا الجمع الزاخر وهو يفوز ويضطرب لأقف بين يديك أقدم لك نبضات قلبي ووثبات فؤادي وصلوات روحي! تلك هديتي إليك، فقلبي قد تفتح عن تقدير لك وإجلال، وفؤادي قد انتشى بعطر إيمانك الزكي، وروحي قد هفت نحو زهرات شبابك النظير المتألق.
فأنت بعثت فينا - من أطواء الزمن - روح العزة والكبرياء. لقد قلت لي - إذ ذاك - (إنني أنا القنبلة التي يقذف بها عاهل البلاد العظيم في وجه العدو فتتفجر هدامة مدمرة، وأنا المدفع يطلقه القائد الأعلى على صفوف الطغاة فلا يخطئ ولا يخيب، وأنا السيل العرم الذي يتدفق فيجرف في تياره الجناة وإن عتوا وتجبروا). هذه الشجاعة، وهذه العقيدة، وهذا الأيمان، كل أولئك - يا سيدي - أشرقت نوراً يتلألأ على جبين الوطن فينعكس على صفحات التأريخ فخراً تنحني له هامة الزمن، وتخضع أعناق الجبابرة.
وحين سللت سيفك زها وأشرق تاريخ الوطن، وثارت حميته، وتأججت كبرياؤه، وتألقت فيه روح الحرية.
وحين قذفت في الميدان بالحديد والنار، ارتد العدو على أدبارهم خاسرين، وانهزموا أمام عزمك صاغرين، وفزع كل ذي طمع، وذعر كل ذي مأرب.
وحين أصررت وتقدمت في الشجاعة، وصبرت في إيمان - حينذاك - انطوى العالم بين جناحيك في ذلة وصغار، وصمتت السن كانت لولاك سليطة بالباطل، جريئة على الحق.
فدعني - يا سيدس - أجثو أمامك في خشوع، وأنحني لك في احترام، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت! هذا أنت - يا سيدي - في نفسي، أما هذه المعركة القلبية، فأنت إن ظفرت بها خسرت هدوء قلبك وراحة نفسك.
غداً يجذبك عملك الشريف عن دارك فتذر زوجك وحدها، فتذهب وما في خيالك سوى خاطرة واحدة، فأنت ما تبرح ترى بعيني قلبك شبحاً يضطرب حول دارك يوشك أن يلجها في غيبتك.
سيثور بك الشك، وتلتهمك الريبة، وتصفعك الغيرة، فتعيش في غيرة قاتلة تصرفك عن الواجب المقدس.
فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها، في الأرض مراغم كثيرة وسعة. ستقول: هذه فتاة عاقلة متعلمة تقضي حق الزوج وترعى واجبها، وهي من بيت راسخ الأرومة طيب الجرثومة، يتدفق في عروقه دم الشرف والأباء منذ الجد الأول.
ولكن هل لها غير قلب امرأة وعاطفة الأنثى وروح الإنسان؟ ستخلو حيناً إلى نفسها تحدثها حديثاً طويلاً لو اطلعت عليه لوجدت مس الفزع والرعب في نفسك.

فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها.
وإذا انكشفت القصة كلها أمام الأب فرأى نوازع قلب ابنته سافرة واضحة، فإن تجاربه ستدفعه حتماً إلى أن يتلمس لها السعادة التي تريد، وسيضن لها أن تقضي عمرها في مضطرب من الأفكار يعصف بها اليأس ويقصمها الأسى! وفي رسالة الأستاذ محمد أحمد شكم المدرس بمدرسة سعيد الأول بالإسكندرية رأى يشبه رأي الأديب الأشعري. وإن في رأي صديقي الأستاذ عباس خضر المنشور في العدد 820 من (الرسالة) حلاً سايكلوجياً عجيباً، فهو يرى (أن يبتعد عادل قليلاً ويترك المعركة تدور بين كرامة جلال - ولا بد أن يستشعرها مع الزمن والتكرار - وبين فتور إلهام وإعراضها عنه، ويبعث عادل بالمدد إلى قلبها من بعيد، وسترى الأم سوء حال أبنتها فتشفق عليها وتتحول إلى جانب عادل فتكون عاملاً مهماً في إنهاء الموقف، بحيث يرى الضابط ضرورة فوز كرامته في المعركة بالانسحاب.
)
هذا رأي العاطفة والقلب، أما أصحاب الرأي الثاني، رأي العقل والمنطق، ففي مقدمتهم الأديبة الآنسة سلوى الحوماني، ففي رسالتها يتحدث عقل المرأة وقلبها في وقت معاً، فكلاهما ثائر هادئ، يطعن في هوادة ويصفع في رفق، وهي قد استهلت رسالتها بقولها: وإني أشكر كاتب قصة (من الأعماق)، لأنه أتاح لي فرصة أخوض بها غمار هذا الموضوع وهو من صميم الحياة.
إن الفتاة لتجد حرجاً كبيراً في أن تتحدث - علانية وفي صراحة - في مثل هذا الموضوع، لأنها تشعر في قرارها بالرجعية العقلية تدفعها عن هذا المضمار؛ وهي حين تتنحى عن إبداء الرأي ترتكب خطأين: الأول، أنها تذر الموضوع يفقد نصف الحياة حين يفقد نصف الرأي.
والثاني، أنها تفر من ميدان الحياة وهو ميدانها. ثم تتدفق بعد ذلك تقول:.

ويجب أن ينسحب عادل من هذا الميدان، فهو يغالط نفسه حينما يزعم أنه يحب الفتاة حب قلب وعاطفة وتضحية، وهو لو صدق لما انقطع عن زيارتها سنة كاملة، لأن (أباها نهاها عن أن تدخل حجرة فيها الأستاذ عادل، إلا أن يؤذن لها). هذا - ولا ريب - سبب تافه ضئيل لا يستطيع أن ينهض عذراً لمن يحب فينطوي سنة كاملة عن من أحب.
لقد أراد أن يثأر لكرامة خدشت - كزعمه - فهل عجز عن أن يلقى فتاته خفية وفي مأمن من الرقيب، أو قعد عن أن يرسل إليها رسولاً يحدثها حديث قلبه وينشر عليها ذات نفسه، وهو رجل ذو حيلة ورأي؟ لقد كان يستطيع أن يفعل لو أراد، فإذا ضاقت به الحيلة أو خانه الرأي، انطلق إلى أبيها في غير وناء ولا تريث يكشف أمامه رغبة قلبه وأمل حياته، أو طار إلى أبيه هو يخبره الخبر كله، ولكنه لم يفعل شيئاً، بل وقف على حيد الطريق ينظر إلى الركب وهو يسير، ثم يزعم - بعد ذلك - أنه يحب فتاته حب قلب وعاطفة وتضحية. والفتاة أيضاً كاذبة فيما تزعم، فهي تتصنع لفتاها وما بها إلا التصنع، ولو أنها أحست له حباً صادقاً لما وافقت - بادئ الرأي - على أن تتزوج من جلال، ولاستطاعت أن تجد التعلات والأسباب لترفض أو تؤجل، ولما قالت لعادل تعتذر: (وخفت أن أطرد خطيبي فأتخلف عن الركب، وإن شبح ابنة عمي ليضطرب في ناظري كلما ذكرت الخطبة والزواج، فهي قد تأبت حيناً على الزوج أنفة منها وصلفاً.
وهي الآن قد أشرفت على الأربعين ولما تجده، لقد فاتها الركب، وتخلفت عن القافلة)
. هذا حديث خلو من الروحانية القلبية، لا يحمل عاطفة، ولا ينبض بإحساس. هذا النوع من الحب فيه فورة الشباب وجموح العاطفة فحسب، والحب في أي صورة من صورة لا يصح أن يكون أساساً للسعادة الزوجية، لأنه ضعف عقلي يسيطر على الفتى والفتاة في سن الطيش والاندفاع، فيتمثل لهما صوراً أخاذة وأضواء خلابة تخطف البصر وتخلب اللب. ولا عجب، فإن بناء أساسه هذا الضعيف يوشك أن ينهار! وأخيراً، إن فتاة في الثامنة عشرة من سني حياتها لا تستطيع أن تختار فتاها اختياراً فيه الرأي والعقل والتجربة. لقد اختار أبوها، اختار برأيه وتجاربه وأبوته، وهي ألقت السلم لرأي أبيها - بادئ ذي بدئ - فلو أن عادلاً ظل منزوياً لأصبحت إلهام زوجاً لجلال لا تلقي بالاً إلى من زعمت إنها تحبه. والآن، كيف يخول عادل لنفسه أن يقتحم باب الفتاة ليغريها بأمر، وكيف تطاوعه هي، وهي توشك أن تكون زوجاً وربة دار، فليستشعر عادل رجولته وإنسانيته، ويذر العش ترفرف عليه أجنحة السعادة والطمأنينة.
وكتب الأديب صبري علوان بجامعة فؤاد ما يأتي: إن القصة التي ذكرت - يا سيدي - هي قصة صديق لي هو في نفسي أخ، وفي قلبي حبيب.
وهو رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه القوة والفتوة، فيه العلم والأدب، وفيه الرقة والظرف، وهو موظف حكومي لا يملك غير راتبه، وموظف الحكومة الآن رجل فقير لا ترمقه عين، ولا يغبط على حال. أما هي ففتاة في مستهل الحياة، مشرقة كالضحى، ندية كالفجر، رشيقة كالغصن، نضيرة كالزهرة، تتأرج عطراً وحياة وجمالاً.

جمعهما الحب وتعاقد قلبهما على أمر.
ثم جاء الفتى الثاني يخطب الفتاة إلى أبيها وبين يديه الثراء والشباب والجاه، فوافق الأب، واستسلمت هي.

وترامى الخبر إلى صاحبي، فتوارى إلى الأبد عن عيني فتاته حين أحس أنها ستجد السعادة والرفاهية في دار خطيبها.

توارى وفي قلبه الأسى والكمد، وضحى بقلبه في سبيل من أحب.

فهل يستطيع عادل أن ينسج على هذا المنوال؟ وقال (فتى الأندلس) في رسالة افتتحها بتحية حارة مشكورة إلى كاتب (من الأعماق): .
.
وإلهام فتاة عاقلة حصيفة تفحص الأمور بعقلها فحسب، ودليلي على ذلك قولها: (وحين وافقت على رأي أبي كنت قد خشيت أن تكون قد طردتني من نفسك لأنك نأيت عني).

فهي إذن قد هفت نحو جلال، واستشعرت ميلاً له، ونسيت عادلا.
أما العاطفة التي بدت لعادل منذ أن كان وكانت.
فلم يكن حباً عميقاً يسمو على النوازع المادية، ويعلو على الخواطر الأرضية، بل كانت ألفة عقلية استشعراها لأنهما عاشا صديقين حيناً من الزمن.
لهذا أرى أن ينسحب عادل ليذر الحياة تنطلق بالخطيبين إلى غايتها. هذه آراء بعض صحابي من قراء (الرسالة)، وللباقين - ممن تنطوي آراؤهم تحت هذه المعاني - تحيتي وشكري، ثم عذري عن أن أذكر حديثهم. أما رأي الحياة في هذه المشكلة، فسأقصه في العدد القادم - إن شاء الله - ولطالما امتدت يد الحياة إلى مشاكلنا لتحلها بطريقة عجيبة تسخر من المنطق البشري.
كامل محمود حبيب

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١