أرشيف المقالات

هل الشقاق طبع في العرب؟

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 جواب عن سؤال للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك (بقية ما نشر في العدد الماضي) وأما ما ذكرتموه عن رأي ابن خلدون في هذه القضية، فهو أيضاً في حاجة إلى إنعام النظر. فقد نقلتم الفقرات التالية، من مقدمة هذا المفكر العظيم: (والعرب أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر من الدين على الجملة). أنا أعرف أن ابن خلدون أبدى هذا الرأي في مقدمته المشهورة، ولكني أرى من الضروري أن نفطن جيداً إلى ما يقصده من كلمة العرب الواردة في هذه الفقرات؛ ثم نبحث عن نصيب رأيه هذا من الصحة والصواب. من الأمور التي يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام - حين نقرأ مقدمة ابن خلدون ونستشهد بها - أن مؤلفها كان يقصد من كلمة (العرب) العربان بوجه خاص وفقاً لما هو متعارف بين العوام -؛ ولم يقصد قط أفراد الأمة العربية بوجه عام كما نفهمها ونتصورها نحن الآن. إنني سردت الأدلة الكثيرة التي تبرهن على ذلك برهنة قاطعة في عدة مقالات نشرتها في بيروت وبغداد وفي فصل خاص من الدراسات التي كتبتها عن مقدمة ابن خلدون، ولا أرى لزوماً إلى إعادة تلك البراهين والأبحاث في هذا المقام.
ولما كانت الدراسات المبحوث عنها قد نفذت، رأينا أن ننقل هنا نموذجين من البراهين المسرودة فيها، وقد انتخبنا أحدها من القسم الأول من المقدمة، والثاني من القسم الأخير منها، قلت: (فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب) ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل رأيه هذا: (فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له.
فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لتصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني فيخربونها عليه، ويعدونه لذلك.
والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد لبيوتهم فيخربون السقف عليه.
) (ص 149). ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام.
ولا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال (لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لتصب الخيام) لم يفكر قط في أهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنه تونس أو فاس.
إنما قصد أعراب البادية وحدهم.
وقال: (وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها.
وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها) (ص 544). يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلاً لكلمة الحضر، بشكل لا يترك مجالاً للشك في أنه يقصد منها البدو على وجه التخصيص ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق.
غير أني أرى من الضروري أن ألفت الأنظار إلى موضع الفقرات الآنفة الذكر من أبحاث المقدمة: إن تلك الفقرات مستخرجة من الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني؛ وعنوان الباب المذكور هو: (العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال).
وذلك أيضاً يدل على أن ما جاء في هذه الفقرات ينصب على الذين يعيشون في حالة البداوة، ولا يشمل الذين يعيشون في المدن.
ومن المعلوم أن أحوال المدن تكون موضوعات البابين الثالث والرابع من المقدمة.
والفقرة الآنفة الذكر لا تدخل في نطاق البابين المذكورين. وبناء على كل ما تقدم يحق لنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية - وفق أسلوب كلامنا الحالي - بالعبارات التالية: (إن العرب - عندما كانوا في حالة الفطرة والبداوة - لم يستطيعوا أن يؤلفوا دولة ويؤسسوا ملكاً، إلا عندما تأثروا بدين أو ولاية تزيل عنهم التحاسد والتنافس، وتحملهم على الانقياد والاجتماع). ومن الغريب أن كلمات ابن خلدون في هذا المضمار - عندما تفرغ في هذا القالب - تصبح موافقة تمام الموافقة للنظرية التي توصل إليها علماء الاجتماع في العصر الحاضر عن منشأ الملك بوجه عام: لأن أصحاب هذه النظرية يقولون إن الممالك لم تتكون في بادئ الأمر إلا بفضل المعتقدات الدينية. إن الأبحاث التي قام بها عدد كبير من العلماء والمفكرين - مستندين إلى المعلومات التي جمعوها عن أحوال الأقوام البدائية من جهة، وعن تواريخ الدول القديمة من جهة أخرى - قد أوصلتهم إلى هذه النظرية.
فقالوا: إن تكون الجماعات السياسية الكبيرة والممالك العظيمة، في القرون القديمة، لا يمكن أن يفسر إلا بتأثير الاعتقادات الدينية، على اختلاف أنواعها وأطوارها.
فالاعتقاد بقوى خارقة للعادة - من الاعتقاد بالقوى السحرية إلى الإيمان بالقوة الإلهية - هو الذي مهد السبل إلى تكون الجماعات الكبيرة واستقرار الحياة السياسية.

في أطوار البداوة والهمجية. وقد كتب الباحث الإنكليزي المشهور (فرايزر) كتاباً ضخماً ضمنه أمثلة وبراهين كثيرة، تدل على أن الملكية نشأت من الاعتقادات السحرية: كان الناس يخضعون للملك، لاعتقادهم بأنه يتمتع بقوة سحرية، وكانوا يرون من الطبيعي أن يخلفه ابنه، لاعتقادهم بأن هذه القوة السحرية تنتقل منه إليه وقد برهن المؤرخ الفرنسي المشهور (فوستل دو كولانثر) - في كتابه (المدينة القديمة) - أن الحياة السياسية عند اليونان والرومان أيضاً قامت على بعض الاعتقادات والعبادات. وقد لاحظ جميع المؤرخين أن الاعتقادات الدينية تلعب دوراً هاماً في سياسة دول القرون الأولى.
والاعتقادات الدينية السياسية اجتازت مراحل عديدة ومتنوعة: الملك إله.

الملك ابن الإله.

الملك من نسل الآلهة.

الإله يتقمص جسد الملك.

الإله ينفخ في الملك شيئاً من روحه.

الإله يمد الملك بالهاماته.

هذه أشكال مختلفة - وأطوار متتالية - من الاعتقادات التي كانت تربط الملكية بالدين، وتساعد على جمع طوائف كبيرة من الناس تحت إدارة واحدة في تلك القرون القديمة. أنا لا أرى هنا مجالاً لذكر الأمثلة والبراهين والنصوص التي تؤيد هذه النظرية.
ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى كتاب (تيارات التاريخ العالمي العظيمة) الذي نشره أخيراً (جاك بترن) أستاذ التاريخ في جامعة بروكسل.
تصفحوا المجلد الأول من هذا الكتاب القيم، (وهو المجلد الذي يلخص التطورات التاريخية التي حدثت في العالم منذ القدم حتى ظهور الإسلام)، تجدوا في فصل من فصوله تقريباً بعض الأبحاث التي تنم عن الترابط المتين الذي كان قائماً في تلك العصور القديمة بين تطور الحوادث السياسية وبين تقلب المعتقدات الدينية. لا شك في أن الحروب كانت تلعب دوراً أساسياً في توسع الممالك وتكون الامبراطوريات: فإن ملك قطر من الأقطار يستولي على مدن وأقطار أخرى بقوة السلاح، ويوسع حدود ملكه عن طريق الفتوح العسكرية.
غير أن نتائج هذه الفتوح ما كانت تدوم وتستقر، إلا إذا دعهما شيء من التفاعل والتزاوج والتلاقح بين معتقدات البلاد الفاتحة وبين معتقدات البلاد المفتوحة، وهذا التفاعل كان يأخذ أشكالاً مختلفة: تارة كان الاعتقاد ينتشر بأن آلهات جميع تلك البلاد لا يختلف بعضهم عن بعض إلا بالأسماء؛ فكان يصبح الملك ممثلاً لآلهة البلاد الفاتحة والمفتوحة على حد سواء.
وطوراً كان بتولد الاعتقاد بأن إله الملك الفاتح هو الإله الأكبر.
وأما آلهة البلاد المفتوحة فهي من أتباع ذلك الإله الأعظم.

وعلى كل حال كانت هذه المعتقدات - وأمثالها من المعتقدات المتنوعة - تساعد إلى حد كبير على خضوع أهالي البلاد المفتوحة للحكم الجديد خضوعاً نفسياً، فكانت تقلل أو تزيل الحاجة إلى استعمال القوة والقسوة لإدامة ذلك الخضوع. ولا أراني في حاجة إلى القول بأن أمثال هذه المعتقدات الدينية السياسية، ما كان يمكن أن تدوم بعد انقضاء عهود الوثنية القديمة، ومع هذا أرى من الضروري أن أشير إلى نظرية (سياسية دينية) سادت على الأذهان في أوروبا - في عهد تكوين الممالك - حتى القرن الثامن عشر: وهي نظرية القائلة (بأن الملوك يحكمون بتفويض من الله).
ومما لا مجال للشك فيه أن هذه النظرية كانت بمثابة (الأصداء الأخيرة) لتلك المعتقدات القديمة التي شرحناها آنفاً. وخلاصة القول أن الأبحاث التاريخية والاجتماعية تدل دلالة قاطعة على أن خضوع الناس إلى أحكام السلطات، لم يتيسر في بادئ الأمر - إلا بفضل المعتقدات الدينية. ويظهر من ذلك - بكل وضوح - أن ما قاله ابن خلدون في مقدمته المشهورة، عن العرب في طور البداوة، لا يختلف عما يقوله العلماء والمفكرون والمعاصرون عن الأمم القديمة بوجه عام. فنستطيع أن نقول - بكل تأكيد - أن تاريخ العرب لا يشذ عن تواريخ سائر الأمم، من هذه الوجهة أيضاً. بعد هذه النظرات الانتقادية التي وجهناها إلى المقدمات التاريخية، يجدر بنا أن نرجع إلى السؤال الأصلي، لنرى: هل الشقاق طبع في العرب؟ إن المقارنات التي قمنا بها آنفاً بين تاريخ الأمة العربية وبين تواريخ الأمم الأخرى من وجهة الشقاق، تسهل علينا الإجابة عن هذا السؤال إجابة مبنية على قياس صحيح واستقراء تام. إن الشقاق وليد الأنانية، والأنانية طبع غريزي في الإنسان، وجماح هذه الأنانية لا يكبحها إلا التربية الاجتماعية المتينة، والتشكيلات الحكومية القوية، والنزعة المثالية الفعالة، والإيمان الديني أو القومي أو الوطني العميق. ففي كل أمة من أمم الأرض، وفي كل دور من أدوار التاريخ يظهر أناس تتغلب في نفوسهم الأنانية على العوامل التي ذكرناها آنفاً، ولكن الرأي العام من جهة، والقوانين الموضوعة من جهة أخرى، تعاقب هؤلاء وتعزلهم عن المجتمع بصور شتى ووسائط متنوعة، وتجعلهم عبرة للآخرين، فتحول بذلك دون استفحال هذه الأنانية وانتشارها بين الناس. غير أنه يأتي أحياناً في كل أمة من أمم الأرض بعض الأدوار من التاريخ تضعف فيه هذه القوى الوازعة فتتفلت الأنانيات عقالها، ويتضاءل تأثيرات الرأي العام فيها، فتقل سلطة الحكومات عليها، وكل ذلك يؤدي إلى ازدياد الشقاق وانتشار الخلاف بين الناس. هذا ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث في كل أمة من الأمم، وفي جميع أدوار التاريخ. وليس في طباع العرب ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في هذا المضمار. هذا هو جوابي، يا صديقي الأستاذ، عن السؤال الذي وجهتموه إلي. لا يوجد في طباع الأمة العربية ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في أمر الاتفاق والانشقاق. يجب علينا أن نعرف ذلك حق المعرفة، كما يجب علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن طبائع الأمم لا تبقى على وتيرة واحدة على مر العصور.
وقد صدق من قال: (إن من يتوهم الاستقرار في طبائع الأمم كمن ينشد البقاء في الموجات التي تحدث على سطح الماء عندما ترمي حجراً فيها). فإن الماضي لا يقيد الحال تقييداً مطلقاً.
وتحقق الوحدة والاتفاق في الماضي لا يكفي لدرء أخطار التفرقة والشقاق في الحال كما أن، حدوث التفرقة والشقاق في الماضي لا يمنع الاتحاد في المستقبل. فيجب علينا أن نتخلص من نزعة الانشغال بالماضي كثيراً، وأن نقلع عن الالتفات إلى الوراء دائماً.
فلا يجوز أن نحاول تبرير مساوئنا الحالية بنقائض أسلافنا الأقدمين، ولا أن نسعى لإلقاء مسئولية نكباتنا على عاتق تاريخنا القديم، ولا يسوغ لنا - على وجه خاص - أن نستسلم إلى دواعي الخور والكسل، وأن نتقاعس عن الكفاح والعمل، بحجة أن الحالة الحاضرة نتيجة حتمية لطبائع الأمة ولمجرى تاريخها العام. إننا لم نستجمع قوانا المادية والمعنوية، ونحشدها لتحقيق هدفنا الأسمى بل إنما علمنا بتراخ وتردد بدون عزم قوى وتنظيم متين وإيمان عميق فأضعنا بذلك فرصاً كثيرة، ومهما يكن الأمر، يجب علينا أن لا نقطع الأمل في النجاح في المستقبل، وأن لا نتأخر عن إعادة الكرة بإيمان أعظم، إذ يجب علينا أن لا ننسى أنه ما من أمة وصلت إلى الكمال الذي تنشده إلا بعد أن اجتازت عقبات كثيرة، وذاقت مرارة الفشل مرات عديدة، واضطرت إلى تضحيات كبيرة. إن الأمم الحية الوثابة تتعظ بالنكبات فتندفع إلى العمل وتواصل الكفاح بحرارة أشد وعزم أمتن، كما أنها تغضب من الفشل وتستفيد من دروسه فتعيد الكرة لتضمن النجاح ولو بعد حين. وأستطيع أن أقول: إن االايمان المتواصل القوي العميق بإمكانيات أمتنا، والعمل المتواصل لتحقيق غايتنا، والاستعداد التام للكفاح مصحوبا بروح التضحية الحقيقية، ومدعوماً بالأمل الذي لا يقهر! ، وكأني أسمع سلسلة أسئلة اعتراضيه تقابل ما قلته آنفاً:؟ ألا تلاحظ فظاعة الاختلافات التي تهز كيان جامعة الدول العربية هزاً عنيفاُ؟ ألا تشعر بالأخطار التي صارت تهدد مستقبلنا في عقر دارنا؟ بلى، إني أدرك واشعر وألاحظ كل ذلك إدراكاً تاماً وشعوراً عميقاً وملاحظة دقيقة، وأتألم من كل ذلك ألماً شديداً. وهل كان فشل مؤتمر فرنكفورت في ألماني - قبل قرن واحد من يومنا هذا - أقل خطراً من فشل مجلس جامعة الدول العربية هذه السنة؟ ألم يقل بعض الساسة - عقب انحلال المؤتمر المذكور - (أن الألمان فقدوا حتى قابلية الدفاع عن أنفسهم؟) ألم يتساءل بعض الكتاب عندئذ قائلين: (أين هي ألمانيا؟ هل لها وجود في غير مخيلة بعش الشعراء وأحلام بعض رجال السياسة)؟ ومع ذلك، ألم تتحقق وحدة ألمانيا في حياة الكثيرين من حضروا مؤتمر في نكفورن الفاشل؟ وبناء على هذه الملاحظات أقول بلا تردد: لا يجوز لنا أن نترك مجالاً لتسرب الخور والقنوط إلى أنفسنا ويجب علينا أن نعلم علم اليقين: أن النكبة لا تصل إلى حدها الأقصى إلا عندما تثبط العزائم، كما أن الفشل لا يصبح تاماً إلا عندما يؤدي إلى التقاعس عن مواصلة العمل والكفاح.
فعلينا أن نحذر كل الحذر من العمل على زيادة النكبة وإتمام الفشل.
.
بالاستسلام إلى القنوط والخور.
أبو خلدون ساطع الحصري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣