أرشيف المقالات

الأدب والفنّ في أسبوُع

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ عباس خضر سر الكافورة: طالعني غير واحد من إخواننا الأدباء، بهذا السؤال: لم لا يكتب الأستاذ الزيات في هذه الأيام؟ وكنت أجيب إجابات مختلفة، ليس منها أنه مستسلم للكسل.

وهل يليق أن أجيب بمثل هذا عن أستاذنا الجليل؟ يقضي الأستاذ أكثر أيام الصيف بالمنصورة.

هناك تحت الكافورة (كافورة الزيات) المشرفة من أحد النوادي على النيل والتي خلدها في بعض ما كتب منذ بضع سنوات. والعجيب أن الزيات، الأديب المعروف بالتعبير الجميل عن كل ما يقع تحت حسه المرهف، يخلد الآن إلى (الكسل الفني) تحت الكافورة.

وهو الذي لم يمنعه مرضه في الأيام التي قضاها مستشفياً بحلوان - أن يكتب ما أوحت إليه، ولم ينس قراء الرسالة تلك اليوميات الممتعة. فما أجدر الكافورة والمنصورة والريف القريب منها الذي يتردد عليه الأستاذ - بأن تفيض على قلمه من جمال البيان ما يصل به صدر الرسالة الذي جافاه من نحو شهرين. ولست أجزم بأن الأمر في ذلك يرجع إلى الكسل، فما يدريني، لعل الكافورة تظل سراً يختمر.
قضية أدبية هامة: تلقيت من الأستاذ عباس السيد أبو النجا المحامي، كتاباً قّفي به على أثر الشاعر محمد محمد علي السوداني الذي عتب على الرسالة بقصيدة لإهمالها نشر أشعاره، فأعتبته ونشرت قصيدة العتاب في العدد (786). يقول الأستاذ أبو النجا إن ما أبداه الشاعر العاتب (ترجمان صادق لما تزخر به من الشكوى نفوس الكثيرين من أدباء الشباب، فقد درجت بعض المجلات الأدبية والصحف اليومية على إغفال ما يرد إليها من ثمرات قرائح المتأدبين من الشباب والإلقاء بنفثاتهم في سلة المهملات رغبة عنهم إلى أولئك الذين نبه ذكرهم وبعد شأوهم من كبار الأدباء). وبين ما يترتب على هذا الاتجاه من آثار بالغة في حياة الأفراد والأمة، بأنه يشكك ناشئة الأدباء في أدبهم، لأن معيار جودة الأدب هو نشره، ومتى تسرب الشك إلى النفس قلقلت ومالت جذوتها إلى الخمود؛ وهذا يميت في ناشئة الأدباء روح الأدب، إذ يصرفهم عن التحصيل وتعهد مواهبهم، إلى أن يقول: (أما النتيجة الضخمة التي يؤدي إليها هذا الأثر وذاك فهي تأخر الأدب في الأمة وعدم ازدهاره فيها، لقلة عدد الأدباء والمفكرين من أبنائها؟ والأدب في كل أمة مرآتها المجلوة، ولسانها المتنبي عن المذخور من أمجادها، والمرجو من تقدمها ونهوضها). ويقول الأستاذ إنه عالج نظم الشعر، ودفع ببعض ما نظم إلى بعض الصحف والمجلات، وفي جملتها الرسالة، فلم ينشر له إلا قصيدة في مجلة قدمها إليها أحد أصدقائه الصحفيين.
ويسأل في آخر كتابه: هل المهم هو جودة الأدب أم شهرة الأديب؟ ويقول: (صحيح أن كبار الأدباء قد انقادت لهم أزمة البيان، ومن المحقق أنهم أقدر على الغوص والسبوح والتحليق.

ولكن هذا لا يمنع من أن يكون في الناشئة موهوب سبق عمره فهما وفطانة وكملت أداته يافعاً، فهل يكون جزاؤه - لأنه مغمور - أن نغفل إنتاجه ونهمله؟)
. وكل ما ذكره الأستاذ في رسالته صحيح لاشك فيه، وتصوير المسألة وبيان آثارها كما صور وبين.
ومن المؤسف أن المهم - عند الكثيرين من المشرفين على الصحف - هو شهرة الأديب لا جودة الأدب، فهم يقرؤون المقالات والقصائد من ذيولها.

أما (الرسالة) فالأمر في ذلك عندها لا يعدو زحمة المواد واختيار الجيد والصالح للمحافظة على مستواها الأدبي المعروفة به، وليس كل ما يهمل لرداءته، فثمة اعتبارات أخرى تتعلق بالموضوع وروح المجلة وغير ذلك.
والرسالة قد فتحت ذراعيها للشباب منذ نشأتها، حتى تخرج فيها طائفة منهم أخذوا أماكنهم بين الكتاب والشعراء، ومنهم من هو في الصدارة الآن؛ ويوم بدؤوا فيها قبلتهم لجودة أدبهم بطبيعة الحال، فلم تكن أسماؤهم معروفة، فلا يجوز مع ذلك أن ترمى بأنها توصد الأبواب أمام الشباب. الألفاظ الأجنبية بين الأمس واليوم: نشرت مجلة الإصلاح الاجتماعي مقالاً لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا، عنوانه (موقف العربية من الألفاظ الأجنبية) وهو من مقالات معاليه القديمة التي كان يكتبها في أوائل هذا القرن، قالت المجلة إنها تنشره للوقوف على آراء قادة الفكر في مطلع النهضة الحديثة.
أثار أستاذ الأساتذة في ذلك المقال قضية لا تزال من قضايا اليوم، فقد دعا الكتاب أن يتساهلوا في قبول الألفاظ الأوربية (كالأوتومبيل والبسكليت) ويدخلوها في الاستعمال الكتابي كما أدخلها الجمهور في المخاطبة قائلاً بأن اختراع أسماء تستعمل في الكتابة وحدها يوسع مسافة الفرق بين لغة الكتابة ولغة الكلام.
والطريف في نشر المقال في هذا الوقت أنه يتضمن وجهات نظر تغير أساسها الآن تغيراً تاماً، فما كان معاليه يدرى - إذ ذاك - أن (السيارة) ستجرى على ألسنة الناس أكثر وأسهل من (الأوتومبيل) إذ قال: (نشر مجمعنا اللغوي رحمة الله عليه أن الأتوموبيل (بالإفرنجي) اسمه (بالعربي) سيارة.
فإذا قلت لواحد من أهل العلم (جاءت سيارة) فهم من ذلك أنك تخبر عن جماعة من الناس سائرين أو عن أحد الكواكب فأما في العرف الفلاحي فالسيارة هي الهيئة المؤلفة من جماعة من الفقراء أبناء الطريق يحملون لواء طريقتهم وطبولها وبإزالتها لينتقلوا إلى مولد من الموالد، هذا هو ما أظن أهل القاهرة يعبرون عنه (بالإشارة) فإن قلت لخادمك جئ بسيارة فتح لك فاه ووقف ينتظر تعريباً للسيارة حتى تقول له جئ (بأتومبيل).
)
وما كان معاليه أيضاً يعلم وهو يترحم على المجمع اللغوي القديم - أنه سيصير رئيساً للمجمع اللغوي الحالي الذي يسير في نفس الطريق فيستبدل بأمثال (الأتومبيل) أمثال (السيارة). وبعد فلا تزال القضية - كما قلت من قضايا اليوم، بل هي من المعضلات، فليست كل الأسماء (كالأتومبيل) والسيارة، فثمة كثير من الكلمات الإفرنجية لا تزال نستعملها في الكتابة، وقد تعبت الأقواس في حراستها.

وكثيراً ما تستأنس فتترك بلا أقواس.
وقد وضع المجمع اللغوي كثيراً من الأسماء لمسميات حديثة، ولكن الكتاب حتى أعضاء المجمع منهم لم يلتزموها في كتابتهم، فلم نر أحداً منهم كطه حسين أو أحمد أمين أو المازني يكتب المسرة أو المشن بدل (التليفون والدش) وهل يعبر الدكتور أحمد زكى عن تحليل الكحول ب (الحلكحة)؟ والفئة الصابرة في هذا الميدان، هم أطفال المدارس وتلاميذها، وهم وحدهم المكلفون بتنفيذ قرارات المجمع اللغوي.

فالطفل في السنة الأولى الابتدائية لابد أن يكون جملا تشتمل على (السحاح) (والأبزن) (والمشرجَّع) وهو حين يشب عن الطوق.

ويقرأ لكبار الكتاب لا يجد هذه الكلمات وأمثالها فيما يقرأ، فينفض يده منها كالمعلومات التي يمتلئ بها ليفرغها في الامتحان! وقد تقول إن بعض الكلمات التي لا نستسيغها الآن، قد تسير كما سارت السيارة وكثير غيرها، ولكن هذا لا يكون إلا في الكلمات التي يقبلها الكتاب ويمنحونها الحياة بأقلامهم.
ولاشك أن للكتاب عذرهم في استعمال الأسماء الأجنبية التي لم توضع لها أسماء عربية موفقة، أو لم يوضع لها شئ البتة.
وأنا لا أرى أحداً يستطيع أن يصف غرفة من الغرف الحديثة فيسمى كل محتوياتها بأسماء عربية صحيحة، ويؤلف من ذلك - إن استطاع - كلاماً يقبله الذوق العصري.
وهذا مثل واحد، وغيره كثير. وما احسبنا إلا متفقين على ضرورة المحافظة على سلامة التعبير العربي، وقبول ما يوفق في وضعه من الأسماء للمسميات الحديثة، بطريق وجود الاسم في اللغة، أو بالاشتقاق أو النحت أو التعريب، ومن التوفيق في وضع الاسم أن تقبله الأذواق، ولا يكفى إقرار المجمع إياه.
والمشكلة فيما عدا ذلك من الأسماء الأجنبية، أفنقبلها كما هي.

أم ماذا نصنع؟ الفكاهة فن: ألقى الدكتور إبراهيم ناجى محاضرة موضوعها (سيكولوجية الفكاهة) بنادي جماعة العمل الوطني الاجتماعي يوم السبت الماضي.
وقد شرح في هذه المحاضرة علاقة الضحك بالغريزة، ثم تطرق إلى العلاقة بين الفكاهة والفن ذاهباً إلى أنها لون من ألوانه، وقال إن هذا الرأي خاص به، لأنه لم يجده فيما لديه من المراجع السيكولوجية والفلسفية، ثم دلل على أن الفكاهة فن يبيان المشابه بينهما فقال: إن الفن مشتق من العاطفة مباشرة والفكاهة كذلك، وقد يلونه الفكر كما يلون الفكاهة الراقية.
والفن عند علماء النفس لعب بالانفعالات، أو هو طاقة حيوية فائضة، ولذلك يتبع من غريزة غنية بالعاطفة، ولا يمكن أن تنتجه الغريزة الضحلة، كذلك الفكاهة الفكرية الراقية لا يمكن أن يجئ بها إلا الأذكياء، ولا يدركها بسرعة إلا الأذكياء.
ويتفق الفن مع الفكاهة في أن كليهما متعة وسرور، وفي أنهما لا يهدفان إلى غاية اجتماعية ظاهرة، وأن التهذيب بوساطتهما ناشئ من طبيعتهما الاجتماعية.
ويرجع السبب في أن عباقرة الفن ممن يجيدون الفكاهة أدباً أو تصويراً، إلى أن الفكاهة والفن من معين واحد، وأكاد أقول إن الكاتب الذي يجيد كتابة المأساة كشكسبير يجيد الفكاهة، لأن أعذب الفكاهة هو الذي يجئ بعد كبت ومرارة كرد فعل.
والنكتة البارعة سرها في حل مسألة أو مشكلة، أو في وصف شئ بقول مبتكر سريع غير منتظر، وهذا يشبه اللفتة الذهنية البارعة في الفن الأدبي كالاستعارة التي ترمي إلى وجه شبه بعيد، أو تناقض غير منتظر. ثم ختم الدكتور ناجي محاضرته بقوله: يلاحظ أن الفكاهة في الأدب العربي القديم كانت تكثر عن الطفيليين والمتسولين، وهذا لون لا نراه الآن كثيراً.
وكذلك تكثر في الأدب العربي الفكاهة باللعب اللفظي، ولا يزال هذا شائعاً. فن مصري: الفكاهة باللعب اللفظي فن مصري، نشأ على ألسنة الشعراء والأدباء في العهد الأيوبي وكثر فيما بعده، ولا يزال شائعاً في فكآهاتنا العصرية كما يقول الدكتور ناجي، وأكثر ما يكون ذلك بالتورية والتجنيس.
وكان من أسبق فرسانه الشاعر المصري أبو الحسين الجزار، قال في زوج أبيه: وقائل قال: ما سنها؟ ...
فقلت: ما في فمها سن وقال على لسان طبيب عيون: يا سائلي عن حرفتي في الورى ...
واضيعتي فيهم وإفلاسي ما حال من درهم إنفاقه ...
يأخذه من أعين الناس ومما يستملح ذكره في هذا المجال أن الأستاذ العقاد كتب إلى شاعر يسكن بشارع العجم في مصر هكذا: (إلى شاعر العرب في شاعر العجم) ولست أدري هل يكون (المرسل إليه) شاعر العرب إذا خرج من شارع العجم؟!. الأدب والفن في قسم حلوان: (وبتفتيش المشتبه فيه وجدنا معه أوراقاً فيها شعر وموضوعات أدبية). هذه فقرة من محضر التحري الذي عمل لي في قسم بوليس حلوان، و (المشتبه فيه) هو أنا، والذي حامت شبهته حولي شرطي ذكي ألمعي.

رآني بحديقة الفندق المجاور لعين حلوان وأنا منهمك في الكتابة، ثم رآني أغادر الفندق إلى مبنى المياه المعدنية، وقد عرجت عليها في طريقي إلى المحطة حوالي الساعة الحادية عشرة مساء، فظن بي الظن كأن لم ير ولم يسمع! ورآها فرصة مواتية لإظهار الكفاية والبراعة، فلا بد أني وضعت قنبلة في مكان من هذه البقعة، وعما قليل تنفجر، وهذا هو ملقيها!. ولم يكن بد من الذهاب إلى قسم حلوان.
وقال الضابط للشرطي الخارق الذكاء: وكل من تراه خارجاً من القهوة تأتي به؟! ولكن هذا لم يمنع الضابط من أن يتمم ما بدأه الشرطي.

فسألني وأجبت، فقال لي: (وحضرتك لازم تتفلسف وتكتب مقالات!! وريني اللي كنت بتكتبه.
)
وجعل الضابط يقرأ صامتاً، وأنا أرجو أن أكسب قارئاً جديداً.
ولم يخب رجائي فقد تفضل وأذن لي بالجلوس على كرسي بجواره.

ولكن (محضر التحري) لا بد منه.
وهذا يقضي بحجزي في القسم حتى يثبت لهم أن (التفلسف وكتابة المقالات) لا ينطويان على خطر.

وتذكرت صديقي الأستاذ سيد قطب فهو من سكان حلوان، فاستنجدت به، فأسرع إلى في القسم، ولو لاه لبت، وبات معي الأدب والفن، في قسم حلوان.
وتركت الصديق الكريم في القسم يتمم معهم (إجراء اللازم) وعدوت إلى المحطة لألحق بآخر قطار من حلوان في منتصف الساعة الثانية صباحاً. ولم آسف أكثر مما أسفت لذهاب نشاط البوليس في اعتقالي هباء.

ألم يكن من المحتمل أن يكون مكاني (عنصر خطر) ولكن لا بأس، وأرجو لهم حظاً أحسن في غير هذه المرة. عباس خضر

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣