أرشيف المقالات

هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي - 3 - الاعتراضات ما زالت متوجهة في تعقيبي السابق على حديث معالي الباشا وجهت إليه جملة اعتراضات فصلت القول في بعضها واجتزأت بالإشارة إلى باقيها، وقد حاول معاليه - في بحثه الأخير دفع كل منها بما لا مقنع فيه، وهاك البيان. 9 - الاعتراض الأول: أن معاليه قد اغفل في رأيه الوارد في حديثه والنصوص القرآنية التي استدل لهذا الرأي قوله تعالى.
(فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة) هذا النص الذي هو تتمة الآية التي جعلها معاليه مناطاً للتأييد رأيه، وهي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) وأن عمل معاليه في أغفال هذا النص الذي هو موطن الحكم الصحيح في هذا الموضوع كعمل من يستدل على تحريم الصلاة بقوله (فويل للمصلين) ضارباً صفحاً عن باقي الآية. وقد حاول الباشا دفع هذا الاعتراض من ناحيتين: ناحية الشكل حيث قرر أن القياس مع الفارق وأن الشأن في إغفال باقي آية النص الذي أغفله معاليه يختلف عن الشأن في إغفال باقي آية (فويل للمصلين) وسواء أكان ما قرره معاليه في ذلك أو ما قررته أنا صحيحاً فلا أحب أن أضيع الوقت في مناقشته في هذه النقطة الشكلية البحت.
وحسبي أن معاليه قد اقرني ضمناً في رده على أن للنص الذي أغفله وهو جزء متمم للآية التي استشهد بها شأناً أي شأن في الموضوع الذي كان بصدد الإدلاء عن رأيه فيما هو حكم الشرع فيه، بدليل تسليمه بأنه موطن الحكم في الآية كلها (ولن تستطيعوا لت تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا) وإن كان اعتبره حكماً موقوتاً، وبدليل احتياجه في محاولة دفع ايراده عليه إلى تكليف ما تكلف من افتراض حدوث محن وأمور بين العرب عند نزول آية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وهو ما ورد به على الاعتراض من ناحية الموضوع مستدلاً بذلك في الوقت نفسه على صحة رأيه وقد بسط القول في ذلك وفي الرد عليه في كلامنا السابق عما استدل به معاليه للعنصر الثالث من رأيه. 10 - الاعتراض الثاني: إذا كان المولى سبحانه قد عني بالآيتين اللتين استشهد بهما معاليه مجرد تحريم التعدد، ففيم كان الأخذ والرد بإباحته في إحداهما التعدد بشرط العدل، ثم بتقريره في الثانية أن العدل غير مستطاع إطلاقاً، وتوزيع المعنى بذلك بين آيتين وكانت آية واحدة تجزئ في تحريم التعدد وبيان علته وهي عدم استطاعة العدل الواجب.

وفيم التعبير بمثنى وثلاث ورباع؟! وقد أجاب عن ذلك بما سبق أن أشرنا إليه من تأويله عبارة (مثنى وثلاث ورباع) بما لا تحتمله ولا يناسب المقام ولا سياق النص؛ وقد فندنا هذا التأويل فيما تقدم بما في الكفاية فلا حاجة إلى تكراره هنا. كما أجاب أيضاً محاولاً دفع ما يشوب النصوص - على أساس تأويله - من الأخذ والرد وتوزيع المعنى بغير مقتض، بما سبق أن أشرنا إليه في التمهيد من أن المولى سبحانه أراد ألا يجابه العرب دفعة واحدة بحكم تحريم التعدد الذي كان من عاداتهم المتأصلة (فتدرج) معهم في هذا الحكم كشأنه في كثير من الأحكام الواردة لمعالجة نقائض العرب بطريق التدرج.
فتحداهم أولاً بما يبيح - في ظاهره التعدد بشرط العدل ثم أبان لهم بعد ذلك أن العدل غير مستطاع إطلاقاً. وردنا على هذا الوجه من الدفع أن ما ذكره ليس من قبيل (التدرج) في الأحكام؛ إذ التدرج فيها - كما هو مفهوم اللفظ بداهة وكما وقع فعلاً بالنسبة للأحكام الواردة حقيقة على طريقة التدرج كحكم الخمر مثلاً - هو إتيان المشرع بحكمين أو أكثر منتقلاً من التخفيف إلى التشديد، والوارد في التعدد من أول الأمر على رأي معاليه - حكم واحد هو التحريم لأن العدل في ذاته غير مستطاع.
ويؤيد ذلك ما افترضه معاليه نفسه من اضطراب النبي والمسلمين وتململهم وجأرهم بالشكوى عند نزول الآية الأولى لعلمهم أن العدل في ذاته غير مستطاع إطلاقاً مما استجاب له المولى - في رأي معاليه أيضاً - بتخفيف الحكم بالآية الثانية بجعله العدل المطلق غير مشروط في الزوجات الموجودات فعلاً وقت النزول، فلولا أنهم فهموا الحكم من أول الأمر على أنه التحريم لما تململوا وجأروا بالشكوى.
فليس ثمة أذن تعدد أحكام تدرجت إلى حكم أخير.
أما التعديل الوارد للحكم فيما يرى معاليه فليس تعديلاً دائماً بل موقوتاً.
وهو تعديل إلى التخفيف لا إلى التشديد، فأين التدرج إذن؟ 11 - الاعتراض الثالث: أن أحاديث كثيرة قد وردت بأمر النبي لمن كان تحته من الصحابة أكثر من أربع زوجات عند نزول الآية الأولى، بالإبقاء على أربع منهن ومفارقة الباقيات كما وردت أحاديث أخرى مختلفة الألفاظ وتؤول كلها إلى معنى واحد هو أنه عليه السلام طلب من ربه ألا يلومه على اجترائه بما يملك من العدل المستطاع بين زوجاته دون العدل المطلق مما يدل على أن الأول هو المراد بالعدل المشروط لجواز التعدد. وقد رد معاليه على الأحاديث الأولى بأنها تقضي إلى الظلم بتشتيت بعض الزوجات اللائي كن موجودات من قبل وما قد يكون لهن من أطفال مما يعتبر اعتداء على الحقوق المكتسبة فلا يعقل أن تاتي به شريعة سماوية أو وضعية. ولو أن معالي الباشا ناقشني في إسناد هذه الأحاديث - والأمانة العلمية تقتضيني أن أصرح بأن في إسناد بعضها مقالاً من رجال الإسناد - لقلت له وجهة نظر وإن كانت مدفوعة كما سأبين ذلك فيما يلي، لكنه اقتصر على مناقشتي في المتن، فأجيبه عن ذلك بأن ليس فيما ذكره ظلم ولا اعتداء إذ لم يطلب إلى الرجال سوى استعمال ما لهم من حقوق سابقة في التطليق الذي كانت الزوجات معرضات لوقوعه عليهن قبل ورود الشرع بتحديد التعدد.
فأين هو الحق المكتسب لهن إذن مع وجود حق الطلاق للرجال؟ وإذا قيل أن الطلاق وإن كان حلالاً فهو أبغض الحلال كما وردت بذلك ألسنة فلا ينبغي أن يستعمل إلا عند وجود مسوغاته، رددت على ذلك بأن في مقدمة المسوغات وضع حد لعلاقات دمغها الشارع بالفساد، بتحريمها، ومهما بلغت درجة البغض في الحلال فهي لا تنتقل به إلى مرتبة الحرام، ففي الأمر باستعمال هذا الحق ارتكاب أخف الضررين مما يتفق وعمومات الشريعة.
ثم أن شانهن بعد الطلاق كشأن سائر المطلقات في احترام حقوقهن المتخلفة عن الزواج السابق وإمكان التزوج بهن في نطاق أحكام الشرع، كما أن أطفالهن لا يظلمون بفقد شيء من حقوقهم على آبائهم بل تظل لهم كافة الحقوق كما كانت قبل الطلاق.
فما هو الظلم في ذلك؟ على أن ما يجري في أوامر النبي المتقدمة يجري أيضاً في أوامر الخاصة بباقي من ورد الشرع بتحريم ما كان من نكاحهن في الجاهلية، كزوجات الآباء والختين المجموع بينهما، وقد يرى معالي الباشا أن هذه الأحاديث مفضية بدورها إلى الظلم مما لا يمكن معه الاطمئنان إلى صحتها؟ ورد معاليه على النوع الثاني من الأحاديث رداً مسهباً عن زوجات النبي عليه السلام وظروف زواجه بكل منهن، وانتهى إلى أن التعدد كان من خصوصيات النبي التي ابتلاه بها ربه جل وعلا فلا محل للاستشهاد بالأحاديث الواردة عنها، وأن النبي لم يكن مكلفاً فيما يختص بزوجاته الموجودات وقت نزول آية التعدد إلا بما كلف به سائر المسلمين حينذاك من وجوب مراعاة (العدل المستطاع) بل أنه رفع عنه هذا التكليف مراعاة لظروف؟؟ وذلك بقوله تعالى (ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغت ممن عزلت فلا جناح عليك). (البقية في العدد القادم) إبراهيم زكي الدين بدوي المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات الأزهر وباريس وفؤاد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١