أرشيف المقالات

ساعة مع الحاج أمين

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأديب صبحي إبراهيم الصالح في اليوم العاشر من ذي الحجة سنة 1365 (الخامس من نوفمبر سنة 1946) كنت من فرحي في عيدين: عيد الأضحى المبارك، وعيد مقابلتي لسماحة المفتي الأكبر! كانت المقابلة في ساعة الأصيل، وكنت أقول بيني وبين نفسي: (يا ليتني أستطيع أن أجلس إليه وحدي، أو ليت زملائي الطلاب الفلسطينيين الأزهريين - الذين قدمت معهم لزيارة سماحته - يدخلون مَوْحَد موحد، ليتيسر لي أن أنفرد معه فأفضي إليه بكل ما في قلبي، هذا القلب الذي لم ينطو لحظة إلا على حب العروبة والرغبة في الدفاع عن كل شبر من أراضيها، والحماسة في كره خصومها. وأذنوا لنا بالمقابلة، فخفق قلبي - ونحن نَجوزُ الحديقة في طريقنا إلى قاعة الاستقبال - فأدركت أني سأقابل عظيما، أني ما عهدت قلبي يخفق لمقابلة إنسان، مثل ذلك الخفقان. ولم يكن بين زملائي من هو أصغر مني سناً، فتركتهم يتقدمونني ويسلمون على سماحة المفتي ثم يجلس كل واحد منهم حيث ينتهي به المجلس.
حتى إذا جاء دوري انحنيت محاولاً لثم اليد الطاهرة، فسحبها بلطف.
ونظرت حولي فلم أجد إلا مقعداً خالياً عن يمين مقعد سماحته قد تهيب الجميع الجلوس عليه، فتهيبت مثلهم لولا أن المفتي أشار إليه بنفسه، قال بصوت يسيل رقة وعذوبة: - (اجلس هنا.

أهلاً وسهلاً بكن جميعاً). ولا تسل عن سروري بهذه الجلسة المجاورة التي مكنتني من إطالة النظر إلى ذلك الرجل الربعة القامة، والمعتدل الهامة، الصبوح الوجه، المتلألئ الجبين، ذي العينين الزرقاوين البراقتين اللتين ما وقع بصري على أصفى منهما، ولا أصرح منهما، ولا أشد تعبيراً منهما، والأنف المستقيم، والشفتين المنفرجتين عن ابتسامة مشرقة، واللحية الكستنائية التي وخطها المشيب فأضفى عليها مهابة على مهابة، ثم زاده في نظري جمالاً - وما فيه إلا جميل - بلك العمة على رأسه كأنها تاج - وإنها لأكرم من التيجان - وهذه الجبة تكسو بدنه كأنها لباس الملوك - وإنها لأعز من لباسهم - فتمثل في كل ما فيه أصدق صورة للرجل العربي الفخور بزيه، المعتز به. وكتمت أنفاسي لألتقط الكلمة الأولى التي كنت أرجو أن تطرب لها أذني ذلك اليوم كله - بل عمري كله - وكنت أنتظر بأن يجلجل في القاعة صوت جَهْوَري رنان، فإذا بي أنصت لصوت خافت كأنه الوسوسة، وحديث هادئ موزون لا تخرج من بين شفتي سماحته كلمة من كلماته إلا بعد أن يتأكد أنه لا يعطي ما يريد معناها إلا هِيَهْ، مستعيناً على إيضاح فكرته بحركات من يد محكمة، وإشارات ناعمة: فعلمت أن سماحته يؤثر أن يكون هادئ الحديث، خافت الصوت، قليل الحركات بحكمة الرجل الرشيد، على أن يكون وَحِيَّ الحديث، جهير الصوت، كثير الحركات، بتهور لا يغني، وحماسة لا تفيد. تساءل سماحته عن كل فرد منا، وعن الكلية التي ينتسب إليها، والسنة التي أصبح فيها، والعلوم التي ندرسها، ثم أحب أن يتعرض لقلة المدارس العربية في فلسطين، وأن يستنهض الهمم إلى المطالبة بجعل المعارف في أيدي العرب فقال: - (إن قلة مدارسنا العالية من ويلات الاستعمار ولعناته، فما يريد لنا خصومنا أن نحيا أحراراً كما يحيا الناس، وأن نكون متعلمين كما يتعلمون، وأن نكون متسلحين كما يتسلحون. كنا في بلادنا قُرحْاناً قليلا ما يصيبنا داء، أصحاء نادراً ما يدهمنا وباء: فإذا اعتللنا عرفنا كيف نتناول بأنفسنا الدواء.
.
ثم ما أصابنا الداء إلا من جراثيم اليهود، ولا دهمنا الوباء إلا من عدوى الإنكليز، ولا عافت أنفسنا الدواء إلا لأنهم أرادوا أن يَدُفوه بأيديهم وقد كنا ما نزال لا نقبل من الدواء إلا ما كان مدوفاً بأيدينا؛ لأن مناعتنا أبداً بِحِمْيتنا، ولأن قوتنا في كل حين بالاستغناء عن الآخرين). ولعلك تحسب أن سماحة المفتي الأكبر كان - وهو يلقي هذه الكلمات التي أشعلت صدورنا ناراً - يعمد إلى الخطابة والبيان، فيرتفع صوته، ويبدو الانفعال عليه.
كلا.

وإنما كان يتحدث هذا الحديث الخطير، بصوت أنعم من الحرير، حتى أصبحت أومن بأن الإنسان العظيم يستطيع في آن أن يكون في رشاقة الغزال وقوة الأسد الهصور. ورأيت إلى يدي سماحته فإذا هما كحرير الورد، وأخذت أطيل إليه النظر من جديد لأرى أين تكمن تلك القوة الهائلة التي جعلته يَلقَى العقبات الكأداء فيذللها، وتعترضه الصّعاب فيقتحمها، فقاد الثورة الفلسطينية، وهاجر إلى لبنان ثم إلى العراق ثم إلى إيران ثم إلى ألمانيا ثم إلى فرنسا ثم لجأ إلى مصر بلد الفاروق.

ألا كيف تكمن القوة في طي الوداعة، وأنى تختبئ الشدة وراء المسالمة؟ حقاً إنها قوة الروح! وما أدراك ما قوة الروح! وكأنما استفزت كلمات الحاج أمين أكبرَ زملائي الفلسطينيين سناً، فألقى كلمة كان يهتز معها جسده تأثراً، وتقشعر جلودنا لسماعها حماسةً، فكان مما قاله: - (يا سماحة المفتي الأكبر! إن قلوب المغتصبين اليبيسة، تريد أن تُبقي أفكارنا حبيسة! لكن لنا أرواحاً لن يمنعها من الوثوب، توالي المصائب والخطوب.
فسماحتكم رمزنا الذي نلتف حوله، ونعتصم به؛ وإنا لنتضرع إلى الله أن يعيدك إلى وطنك مظفراً منصوراً، لتدخله دخول الفاتحين، فتجمع الكلمة، وتضم الشتات، وتسوي الصفوف؛ ويومئذ لا تذر على أرض فلسطين من الصهاينة دياراً: فليعيشوا إن شاءوا في أدوية مهلكة أو مدائن عامرة، وفي مفازة موحشة أو في ناطحات السحاب، فلن نسمح لهم بالتوهين والكيد فيما بيننا ونحن ساهرون، ولا بالتقريد والخداع ونحن أيقاظ مفتحو العيون. عُد إلى موطنك فلسطين - يا سماحة المفتي الأكبر - ولا تخشَ في الله لومة اللائمين). فقال سماحته على الفور: - (حاش لله - يا أبنائي - أن أعتبر فلسطين وحدها موطناً لي، فإن الوطن العربي قطعة واحدة، وما من بلد ينطق أهله بالضاد إلا وهو موطني، وموطن كل عربي. ألا وإن الدول الكبرى التي تستطيع أن تستغني - لو أرادت بثرواتها وقواها، واستعداداتها ومواردها - قد أدركت فائدة التعاون، فانضم بعضها إلى بعض، وخطب بعضها ود بعض، وحالف بعضها بعضاَ؛ ألا وأننا أشد منهم حاجة إلى التعاون، وأقرب منهم سبيلا إلى التفاهم: لأن شعورنا واحد، وآلامنا واحدة، وآمالنا واحدة. وإن العروبة - لتعلق عليكم - يا شبابها الأبرار - أملاً كبيراً في أن تعملوا أنتم في الحقل الدراسي وفي الحقل الاجتماعي على توحيد الصفوف، وتكتيل القوى، حتى لا يمر عربي بفلسطين فيبكي دماً حين يرى المزرعة القَراح ليس عليها بناء ولا فيها شجر فيؤكدون له أنها ليست ملك اليهود، ويرى المستعمرة المنظمة عليها البناء وفيها الشجر فيؤكدون له أنها من صنع اليهود. تخصصوا جيداً في شؤون دراستكم، فإن العلم أقوى سلاح في هذا العالم بعد الإيمان بالعقيدة والوثوق بسمو الفكرة). ولاحظنا بعض الزائرين يريدون الدخول، فرأينا أن نقنع بسماع هذه النصائح القيمة، فقام أكبرنا سناً فقمنا، ودنا من سماحة المفتي فدنونا، واستأذن بالانصراف فاستأذن الجميع، فقام الحاج أمين - من لطفه - يودعنا إلى الباب، ويصافح كلا منا وهو يدعو لنا بالتوفيق. لقد خرجت من حضرته - وإن صورته ماثلة في عيني وفي أعماق قلبي - شاعراً بأني أريد أن أقبل على خدمة بلادي بفؤاد مخلص إخلاص فؤاده، وبضمير نقي نقاء ضميره. (طرابلس الشام) صبحي إبراهيم الصالح خريج كلية أصول الدين بالأزهر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣