أرشيف المقالات

من وحي الصوم:

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 عشاق الطعام!! للشيخ محمد رجب البيومي النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرف، وقد هجم رمضان على الناس بلا هواده، فجفف الحلوق وطوى البطون، وأخذنا نتلمس الليل فلا نكاد نظفر به لقصر مدته، وسرعة دورته، وكم امتدت الأيدي إلى عقارب الساعات نستخفها السير، وتسألها العجلة، فتمضي بطيئة ثقيلة وما تتم دورتها المحددة حتى تهن العزائم بعد قوة، وتستسلم الأجسام الفتية إلى الضعف والإعياء. ولقد بينت في العام الماضي على صفحات الرسالة كيف وقف فريق من الأدباء موقف العداء الصريح من هذا الشهر الكريم فأوسعوه ما لا طاقة له باحتماله من الذم والقدح، وأريد اليوم أن ارفه عن القراء بحديث قوم اخلصوا لبطونهم واسترسلوا مع شهواتهم فهم يتفقدون الطعام في كل زمان ومكان، حتى إذا اشتموا رائحته سقطوا عليه كالضواري الفاتكة، وما اجمل أن نشيد بذكراهم في هذا الآونة، لنعتاض عن الطعام بالحديث عن أبطاله الأفذاذ وفرسانه المغاوير. وإن تك قد منعت لقاء ليلى ...
ففي أخبارها أرج يفوح ونحب أن نعلن أن التفتن في المأكل والمشرب ليس مذمة تشين صاحبها، فقد أباح الله لنا أن نأكل من الطيبات ما لذ وراق (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) كما حرص عز وجل على أن يسهب في غير موضع من القرآن في وصف ما بالجنة من فاكهة ولحم طير وخمر ولبن وعسل، لما يعلمه جل ذكره من لهفة ابن آدم على الطعام، وتطلعه إليه في شوق وانكباب. ونحن نرى رجال الصوفية وهم المثل الأعلى في التقشف والزهد لا يتحرجون من الطعام الكثير متى وجدوه سمينا فقد كان عمر بن الفارض رضى الله عنه بطينا سمينا يأكل ويأكل حتى يلفت إليه الأنظار وكأن إبراهيم بن ادهم يتفق معه في مذهبه، فقد دفع إلى بعض إخوانه دراهم عديدة وقال: خذ لنا بهذه زبدا وخبزا وعسلا.
فقال يا أبا إسحاق: بهذا كله؟ فقال إبراهيم ابن ادهم: ويحك، إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. كما يروى عن سفيان الثوري قصة عجيبة فقد جلس على مائدة مليئة وفوقها حمل شهي، فأخذ يأكل مع أصحابه بنهم؛ فقال صاحب المنزل يا غلام ارفع المائدة إلى الصبيان، فرفع الحمل إلى داخل البيت.
فقام الثوري يعدو خلفه فقال صاحب المنزل إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال آكل مع الصبيان.
فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل ثانية إليه. ولقد طلعت في كتب المتصوفين اصطلاحات عجيبة تدل على كلفهم بالمأكل والمشرب.
فالحمل عندهم هو الشهيد بن الشهيد، والقطائف هي قبور الشهداء والفالوذج هو خاتمة الخير، واللوزينح هو أصابع الحور، وهذا قليل من كثير جدا ذكره الثعالبي في كنايته، والأصفهاني في محاضراته فليرجع إليهما من شاء. وإذن فالكلف بالطعام ليس بمذموم على إطلاقه، ولكن لكل شئ نهاية، فإذا أدى الكلف إلى النهم والشره فذلك ما لا يطاق معه صبر واتئاد.
واذكر أن صحابياً جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عينفا، فجعل ينظر إليه في تعجب، حتى إذا خرج من عنده قال لخادمة إياك أن تدخله مرة أخرى، فأني سمعت رسول الله ﷺ يقول: المؤمن يأكل في مع والكافر يأكل في سبعة أمعاء. ويعجب المطلع على الأسفار الأدبية حين يجدها متخمة بأخبار الكثيرين ممن أطاعوا شهواتهم فجن جنونهم بالطعام، ينصبون له الحبائل، ويتصيدونه من مظانه، باذلين ما يملكون من جهد في تحقيق رغبات أمعائهم سالكين شتى الطرق المباحة والمحرمة لا يزعهم وازع من خلق، ولا يقف أمامهم زاجر من ضمير، حتى كان من أحدهم أن رفع يده إلى السماء - حين قيل له هذه ليلة مباركة - فقال: اللهم اجعل التخمة دائي وداء عيالي.
وسلك نهجه شره آخر فقال: اللهم أني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، أكل حملا وشرب معسلا ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريان دفأن ملأن!!. ومن المدهش الغريب أن يجاوز النهم طبقات العامة والدهماء إلى الملوك والخلفاء، وخاصة رجال العصر الأموي فقد أطلقوا العنان لملذاتهم، ونضدوا الموائد الدسمة لرغباتهم، وكأن كل خليفة ينظر إلى طعام من قبله فيزيد عليه متخيرا، وكأن الطعام قد صار كل شيء في الدولة، فهو الميدان الأول للتنافس والمباهاة!. وقد انتقلت حمى الجشع والنهم من الخلفاء إلى الأمراء والحكام في هذا العصر الشره، فكأن عبيد الله بن زياد يأكل قبل غدائه أربع خرادق أصبهانية.
وكأن الحجاج بن يوسف ينسج على منواله، قال سلم بن قتيبة: عددت للحجاج أربعاً وثمانين لقمة، في كل لقمة رغيف من خبز، وفي كل رغيف ملء كفه سمك شهى.
وكم تندر العرب بنهم خالد القسري وعبد الله ابن المغيرة الثقفي، مما يؤكد لنا أن الناس على دين ملوكهم في كل زمان. ونبدأ بمعاوية، فنذكر أنه كان ذا أنياب حادة، وأضراس مفترسة، تأتيه المائدة محملة مثقلة فترجع خاوية خالية.
وكانت الوفود تترى عليه من القبائل النائية فتعجب لما تشاهده من طعامه وشرابه، وتتحدث بذلك في شتى الأصقاع حتى قال فيه الوليد بن عقبة: إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ...
لها أبدا ما دام فيها الجراضم وأهل اللغة يقولون الجراضيم هو الواسع البطن الكثير الأكل ثم نثني بهشام بن عبد الملك فنسجل له مهارته النادرة في هذا المضمار، فقد خرج للتنزه ذات يوم فرأى راهباً يتحنث في بستان له، فدخل عليه فأخذ الراهب يجمع له من الفاكهة ما يقدم عادة للملوك والخلفاء، وهشام يأبى على ما يجيئه غير مقتصد في نهمه، ثم قال له: أتبيعني هذا البستان؟ فسكت الراهب لم يجب، فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال وددت لو مات الناس جميعا غيرك، قال: لماذا ويحك؟ الراهب: عسى أن تشبع!. أما لوليد بن يزيد فلم يكتف بالبطولة في ميدان الطعام بل ضم إليها بطولة أخرى في ميدان الشراب، قال ابن أبي الزناد كنت عند الوليد ذات مساء فدعا بالعشاء فتعشينا ثم جاءت ثم جاءت المغرب فصلينا، وجلس ثم قال اسقني فجاءوا بإناء مغطى وجئ بثلاث جوار فصففن بيني وبينه حتى شرب ودهش فتحدثنا واستسقى ثم مازال كذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا من الشراب!!. وقد يظن كثير من القراء أن هذا الأخبار ملفقة مصنوعة قد ألصقت بأصحابها إلصاقا لما يرون من غرابتها العجيبة، وأنا لا ارتاب في صحتها لحظة واحدة، لأننا نشاهد في عصرنا الذي نعيش فيه من يزيدون شراهة ونهما عمن ذكرنا من الخلفاء، فعندك (فقهاء) الريف يجلسون على الموائد المتعددة في ساعة واحدة ملالة أو سأم، وكأنهم يرجون الخدم فيغسلون الأطباق غسلا لا يحتاج معه إلى تنظيف وتجفيف.
ورحم الله الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري فقد ذكر في الجزء الثاني من المختار ما رآه بعينه من الجشع والشره دون أن يخبره به مخبر، وهو عندنا صدوق مصدق.
ولم لا أعلن القراء شاهدت نهما يأكل من سقط مملوء بالخبز اللين والجبن - وكنا نركب القطار من المنصورة إلى الزقازيق - فما كدنا نقطع الطريق حتى كان صاحبنا قد ترك الوعاء خاليا مما فيه، وكأن يستعين على أداء رسالته الجسيمة بالشراب المثلج بين الفينة والفينة حتى وفق في مهمته اكبر توفيق!! فهل نشك بعد ذلك فيما ترويه الكتب من أنباء؟. أما الطامة الكبرى فهو سليمان بن عبد الملك فقد فاق من تقدمه في مضماره، وتحدث الناس بنهمه كما يتحدثون عن معجزة خارقة أخذت بمجامع الألباب، وهم يروون له قصة عجيبة نسمعها فتدعنا في حيرة منها ومنه، وما ظنك بمن يأكل في مجلس واحد جديا مشويا وخمس دجاجات وقصعة كبيرة من الثريد ثم يقعد ليشتكي الجوع!! ولقد كان جشعه هذا سبب موته ببطنته.

قال أبو الحسن المدائني أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك وهو بدابق بسلتين، أحدهما مملوءة بيضا والأخرى مملوءة تينا، فقال قشروا فجعل يأكل بيضة بيضة وتينة تينة حتى فرغ من السلتين ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله فأتخمه، فمرض ومات صريع الطعام!!. ونعرج على خلفاء العصر العباسي وأمرائه فنذكر أنهم ضربوا في هذا الباب بأوفر سهم، ويكفي أن نعلن أن الواثق والمتوكل والمستعين والمنتصر والمعتمد لم يكن يعنيهم من أمور الدولة ومشاعلها غير الطعام والشراب.
وكانوا إذا فرغوا من الموائد انتقلوا إلى الحديث عنها مع من يلوذ بهم من الأمراء والسمار، حتى ليجوز لنا أن نسمى هذا العصر عصر الموائد والولائم - كما يقول الأستاذ العقاد - وهل رأيت قبل المتوكل على الله خليفة غضب على سميرة ونفاه من مجلسه لأنه لا يتفنن في الطعام؟ وهل رأيت أسفارا ضخمة كتبت في هذا الموضوع بذاته في غير زمان بني العباس؟ فقد ظهرت ثلاثة كتب في فن الطبيخ وحده وضعها أحمد بن يوسف الكاتب، وجحظة البرمكي، وإبراهيم بن العباس الصولي، (وخفت مذمة النهم لأنه اصبح قدوة علما وظمأ وكأنه في ذلك كله اقرب إلى الفخر منه إلى الملامة، وربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد، ومع كل منهم طعامه يتفهون باستعراض ألوانه والمقابلة بين صناعاته وطعومه). وتسألني لماذا أولع المؤلفون بتسجيل نهم الأمويين ومذمتهم دون العباسين مع أن بين أمية لم يبلغوا شأوهم في هذا المضمار؟. والجواب أن خلفاء العصر الأموي مبتدعون مخترعون، فحقت عليهم الملامة والمذمة دون من ترسموا خطواتهم، لا سيما وقد حكموا الناس بعد الخلفاء الراشدين مباشرة، وهم كما نعلم أهل تقشف وورع فكانت عورتهم واضحة، وسبتهم بلقاء، وليت شعري أين الأرض من السماء؟!. هذا ولن يتعجب أحد من ميتة سليمان بن عبد الملك بسبب بطنه فكثير من الآكلين يرون من الفخر أن تحين آجالهم في معركة حامية تستخدم فيها الأنياب والأضراس، وبدور رحى الخضم والمضغ، وهنا تكون الشهادة في ذمة الشره والنهم، وأن قائلهم ليصيح: ألا ليت خبزاً تسربل رائباً ...
وخيلا من البرنى فرسانها الزبد فأقضي فيما بنيهن شهادة ...
بموت كريم لا يعد له الحد!! وخيال هذين البيتين يعطيك فكرة حميدة عن النضوج الذهني لعقلية قائلهما، ويخبرك أن بين المنهومين من صقله الطعام، وثقفه الشراب فأتى في شعره بالتركيب المتسق والمعنى البارع، والعقل السليم في الجسم السليم!!. وأنت لو نظرت إلى أجوبتهم المسكتة، وردودهم المفحمة لعلمت أن وراء هذه البطون المكتظة عقولا فذة مفكرة تفحم مناظرها، وتستحوذ على الإكبار والإعجاب ودونك فاستمع هذه النادرة: كأن للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته فلا يأكل منه، فتقدم أعرابي وتعرق عظامه، فقال: يا هذا أتطالب هذا البائس بزعل؟ هل نطحتك أمه؟ فأجابه على البديهة؟ وأنت شفيق جدا عليه هل أرضعتك أمه؟. وهذا الجواب من الإبداع بمكان وهو ينفي تهمة البلادة التي تلصق بهذه الطائفة إلصاقاً مع أن الذكاء والغباء لا يأتيان من القناعة أو الشراهة، بل عما مما ركب في النفس يوم أن ذراها الله وإلا فلدي قصة عجيبة تدل عل ذكاء لماح ونضوج فذ، وما أظنها تدع القارئ شكا في صحة ما أقول: استضاف أعرابي صديقه وكأن نهما أكولاً، فقدم إليه فحلا من الإوز، وكانت الأسرة جميعها تأكل معه، فأخذ الضيف الرأس وأعطاها لصاحبه، والساقين فأعطاهما لابنتيه، ثم هجم على الباقي فما ترك منه شيئا!! وحين اختلى الرجل بزوجته صمم على أن يكثروا من اللحم ما دام الضيف على هذا الجانب من الشراهة فاحضر على المائدة في المرة الثانية خمس دجاجات وانبرى الضيف للقسمة فقال أقسم بالشفع أم بالوتر؟ فقيل له بالوتر فأعطى الرجل وامرأته دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة وأعطى الولدين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة، وأعطى البنتين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة!! وهنا صاحت المرأة نريد القسمة بالشفع، فأعطى الرجل وابنيه دجاجة وقال أربعة أربعة، وأعطى المرأة وابنتيها دجاجة وقال أربع أربع، ثم أشار إلى نفسه وتخذ ثلاث دجاجات قائلا أربعة أربعة!! ثم فأكل الجميع في وجوم ثم أنصرف الضيف بعد ذلك مشهودا له بالبراعة والتوفيق!! (البقية في العدد القادم) محمد رجب البيومي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢