أرشيف المقالات

القسم الثالث

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 فرنسا ومستعمراتها للأستاذ أحمد رمزي بك إن العالم الإسلامي في يقظته وفي كفاحه مع الاستعمار البريطاني والأوربي والصهيوني يواجه ثلاث هيئات اتحادية: الاتحاد السوفيتي في الشمال والاتحاد الفرنسي في المغرب والاتحاد الهندوكي في الهند.
وكل اتحاد منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد كل منها أن يقنع العالم أن هذا الاتحاد أو الضم جاء وليد إرادة شعبية، وإنه في مصلحة هذه الأمم وفي الهند يأخذ الاتحاد شكل حركة قومية كبرى.
ولو كان الأمر قاصراً على المناطق التي يسود فيها الروس والفرنسيون والهندوس لما أثار ذلك اعتراض أحد من الناس. ولكن الباحث المدقق لا تغريه الألفاظ والمظاهر، إذ يتبين له أن كلا منها ينتزع أقطارا شاسعة ويحاول أن يضم أمما إسلامية لا تمت بصلة إلى الاتحاد الذي يفرض نفسه فرضاً عليها ولذلك لا تلبث أن تنكشف حقيقة هذه الأنظمة الاتحادية حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، إذ تبدو لنا هذه الأنظمة في ثوب قوات رجعية تعسفية، لا تمنح للمسلمين حريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم، بل تجعل للتحكم والسيطرة والاستغلال الاقتصادي شكلا جديداً براقا لا يغتر به إلا الواهمون. فالاتحاد الفرنسي يحاول بقوة التشريع ضم أراضي شمال أفريقية وسكانها وهم اكثر من عشرين مليونا، لهم تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم، وبدون أن يسمح لهم بإبداء رأي في هذا الاتحاد، والاتحاد السوفيتي يضم اكثر من أربعين مليونا من المسلمين الآسيويين لا يسمع لهم صوت ولا يسمح لهم بالاتصال بالعالم الخارجي، والاتحاد الهندي يمنع إنشاء دولة الباكستان الإسلامية ولا يسلم بها. ولا يمكن للعرب في أفريقيا والمسلمين في آسيا قبول وضع من الأوضاع يجعل منهم أقلية في بقعة من بقاع الأرض: لأن تجارب الماضي كانت شديدة الوقع عليهم، ولذلك فهم لا يسلمون للأقدار أن تتحكم فيهم مرة أخرى، ثم هم أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة وهو في قوته وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن بتاريخ أي أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة، وقد ألقى علينا هذا الماضي درساً قاساً لا يمكن أن ننساه، فنحن قد فقدنا ملايين من العرب في إسبانيا وجزائر صقلية وسردينيا وكريت ومالطة، كانوا عرباً دخلوا هذه البلاد واستوطنوها، ثم زالت أيامهم فادمجوا بالسيف في جنسيات واديان اخرى، ولا تزال دماء العروبة في عروقهم إلى اليوم، وهناك ملايين من المسلمين كانوا سادة في القرم ورومانيا والبلقان فأين هم اليوم؟ انهم يوم أن اصبحوا أقلية أفناهم الظلم والاستبداد. ولهذا فكل اتحاد يفرض بالقوة على أقطار المغرب وشعوبه العربية، ويحول بينهم وبين جامعتهم هو حركة استعمارية رجعية تعسفية تستهدف إفناء العروبة والإسلام والوقوف أمام نهضة الشعوب العربية في مراكش وتونس والجزائر وإضعافها كقوة فعالة في تاريخ العالم.
ولذا وجب على كل فرد منا أن يفهمه على حقيقتها وأن يشعر بالأخطار التي تهددنا من هذه الناحية، وأن نحشد كل ما لدينا من القوى الروحية والعقلية للوقوف أمامها حتى يشعر العالم اجمع انه ليس في عزمنا نحن معاشر الأمم الإسلامية والعربية أن نفنى بهذه السهولة من الأرض فتذهب ريحنا لدى الصدمة الأولى. ولقد عرضنا في القسمين المتقدمين لمصاعب الاستعمار الفرنسي ولمسنا تأخره عن ملاحقة العالم، وكشفنا عن إفلاس - فرنسا كدولة حاكمة، وقلنا أن هذه الأمور جهر بها كتاب الغرب وسلم بها الفرنسيون أنفسهم أو فريق منهم، وكنا نقدم للقارئ ما يجول بنفسية الفرنسيون من آمال وسط هزائمهم وبعد أن ظهر للعيان تقصيرهم، وكنا نرمي بهذا أن نضع الحقائق مجردة أمام القارئ حتى يكون على علم بأقوال الخصم، وما يدخلها من غرور ووعيد وغايتنا من ذلك أن يفهم العالم العربي إن محاربة الاستعمار ستستلزم الوقوف على أساليبه والإلمام بطرقه وأن الدول الغاصبة مهما كانت سياستها غاشمة ومع ما بين أيديها من وسائل القمع، تحاول أن تفرغ هذه السياسة في قالب يقبله العقل ويسلم به، فعلى الذين نصبوا أنفسهم على الحقائق وأن كانت مرة ليتسنى لهم تحقيق ما رسموه لأنفسهم ومبادئهم من أهداف. والدول الاستعمارية لا تفهم ما نقرره لأنفسنا بل لا تسلم به، وإنما لديها المنظمات التي توافيها بكل صغيرة وكبيرة عنا، وهي لا تنوي أن تتنازل عن أملاكها ومستعمراتها أو تفرط في حق من حقوقها، إلا بالقدر الذي تنزعه الشعوب منها، وهذه في تقدمها وسيرها نحو الوعي القومي واليقضة تؤمل في أن تتشبع بالحقائق، حتى لا تذهب جهودها وضحاياها هباءً، ثم هي تروم أن تحقق لها مجداً وأن تسير في طريق التحرر والخلاص وأن تعالج مشاكلها على ضوء العلم ووضع الأمور في نصابها، فعلى المتصدرين للحركات العامة أن يهيئوا أنفسهم للقيادة، ولا يكون ذلك بغير العلم والبحث والدرس، وتتبع الدول الاستعمارية والكشف عن أغراضها ومراميها والوقوف موقف الحريص على حقوق هذه الشعوب بل موقف المتيقظ للدفاع عنها أمام الضمير العالي. وقف في القرن الماضي بعض كتاب الإنجليز يتحدثون عن أعباء الرجل الأبيض ومسئولياته إزاء الشعوب المحكومة فقالوا انه يحمل عبئاً ثقيلاً هو قيادة هذه الشعوب نحو الحضارة والتقدم، وفي نفس الوقت أطلق كتاب أوروبا على دولة آل عثمان اسم رجل أوروبا المريض.
فمن كان ينتظر بعد مضي سنوات أن تتبدل أحوال الكون وأن تصبح الأوضاع مقلوبة؟ فإذا بالإمبراطورية الفرنسية هي الرجل المريض الذي تخشى الدول الغربية وفاته، وإذا من أعباء الرجل الأبيض ممثلا في الحكومات الانجلوسكسونية بريطانيا وأميركا؛ حماية إمبراطورية مريضة في حالة النزع، والمحافظة على وحدتها، وأحياناً مجاملتها على حساب حرية الأمم المغلوبة على أمرها. إن الأسلحة والمعدات الحربية التي تسلمتها من هذه الدول لم تستعملها في قتال الألمان وتحرير البلاد منهم، وإنما وجهت إلى صدور الشعوب المظلومة في مدغشقر والهند الصينية، وهذ1 العتاد سيستعمل يوما ضد أمم العروبة في المغرب فما الثمن الذي قبضه الرجل الأبيض؟: هو تحطيم السور الفولاذي حول المستعمرات أمام نشاطه وفتح حدودها واعتبارها أسواقا تجارية له، وماذا كسبت فرنسا الأم الحنون؟ كسبت المجد الدائم وهو أن تمر العمليات بطريق باريس بدلاً من أن تتجه رأسا إلى أراضي المستعمرات وفي سبيل ذلك يسلم الرجل الأبيض ببقاء فرنسا مدة أخرى في شمال أفريقيا محتفظاً لنفسه بحق الرجوع مرة ثانية إليها أما لتحريرها أو للمساعدة في تهدئتها. في الوقت الذي كان رجال فيشي يفضلون فيه التضحية بأرض من فرنسا محافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية، كان الفرنسيون الأحرار يفكرون تفكيرا استعمارياً من نوع آخر، فقد عقدوا قبل نهاية الحرب مؤتمراً لهم في مدينة برازافيل بأفريقية جمع عدداً من حكام المستعمرات تبادلوا الرأي فيما بينهم واتخذوا قرارات بشأن سياسة المستقبل بعد أن استعرضوا مسائل هامة: منها العمل على رفاهية السكان الوطنيين ورفع مستواهم المادي مع تحسين حالتهم الاجتماعية والفكرية وعرضوا لمسائل التعليم واثر الدين وتوزيع العدالة، ثم بحثوا مسائل الحكم الذاتي والإدارة المباشرة وغير المباشرة، واتخذت قرارات سرية نحو وحدة الإمبراطورية والسير بها في طريق الاتحاد الفرنسي، وهذه القرارات هي التي نقلوها معهم إلى الجزائر وادمجوها في مشروع الدستور الجديد، فعلى الذين يدوسون هذا الاتحاد أن يرجعوا إلى البحث قرارات هذا المؤتمر الاستعماري وسنأتي على شيء من ذلك في القسم التالي. أحمد رمزي

شارك الخبر

المرئيات-١