أرشيف المقالات

وكم في مصر من بنات أمبان!

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ علي الطنطاوي إجلاء هذه البنت عما تسمّيه ملك أبيها، أعظم عندي من إجلاء الإنكليز عن مدن مصر. لأنها تحتل بحق (التملك.
)
وأولئك يحتلون بسيف الغصب. ولأنها توشك أن تصير (كما صار غيرها) مصرية.

في سجلات الإحصاء، على حين أنها لا تزال أجنبية الدم والهوى واللسان، وأولئك يبقون إنكليز غرباء، غاصبين أعداء، ويبقون قذى في عين كل مصري، وغصّة في حلقه، وثقلا على قلبه، حتى يخرجوا، وما من خروجهم بدّ، لأن الباطل إلى اضمحلال وإن كانت له جولة، والحق إلى ظفر وإن كانت له كبوة، وقد طالما بغى باغون، وظلم ظالمون، ولكن لم يدم باغٍ ولا خلد ظالم! هذه البنت وأمثالها شر من الإنكليز، وسند التملك في يدها أقطع في رقابنا من السيوف في أيديهم، وفندقها في مصر الجديدة أخطر على استقلال مصر من ثكنات قصر النيل، لأن المصيبة في هؤلاء أنهم يعدون (في جنسيتهم الرسمية) منا، وهم في حقيقتهم من غيرنا، فيدخلون في الأمة دخول السم في الجسم، وصندوق الديناميت بين أحجار البناء، ويكونون منا كالشيطان من الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه.
ثم إن أصحاب كل بلدٍ هم ملاّك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاءوا عطلوا هذه الأراضي وتركوها مواتاً فجعلوا البلد مقفراً، وردّوه فقيراً، وإن شاءوا أخلوا عماراتهم للبوم والعناكب أو هدموها، وإن شاءوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاءوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحساناً، فتزورّ عنهم وتنأى بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها الجميل.
من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى إن شارعاً عظيما هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بق مصرية لأنها موقوفة.

وسائره للخواجات.
فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقي إلا بإذنه سقفاً يكنُّك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوباً يسترك، وأن يسيّرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟ ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيئ؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفي من خير مصر؟ وأنت تمشي حافياً وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخلق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحب البلد، وابن مصر يصير غريباً في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد! لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم، أنتم آتون (لتقشمرونا)، ويبغضون السوري الذي يزاحمهم على مورد الكسب في التجارة، ومنبع الربح في العمل، فكنت أتألم من ذلك وأقول، ليتهم تعلموا اللطف ومحبة الغريب.
فلما جئت مصر، ورأيت هذا اللطف وما جر إليه من الضعف، وحب الغريب وما أوصل إليه من الخراب عرفت أن الخير فيما يفعل العراق. وأنا لا أدعو العرب ليكره بعضهم بعضاً، ولكن أدعو إلى شيء معقول: هو أن العرب اليوم في أقطار العربية كلها، كجيش في مصافّه، على كل فرقة أن تدفع العدو عن حماها، ولا تدع الجيش يؤتي من قبلها، ونحن نحارب (فيما نحارب) الفقر والإفلاس، فعلى كل قطر عربي ألا يدع في أبنائه فقيراً، وألاّ يترك فيه رجلا بلا عمل، وأن يمنع الغرباء عنه من مزاحمة أهله في زراعته وتجارته وصناعته، حتى إذا اشتغلوا جميعاً، وبذلوا قواهم كلها، وبقي فيه بعد ذلك فراغ لأيد غير أيديهم، وأموال غير أموالهم، استعانوا بأبناء الأقطار العربية الأخرى، ولم يفتحوا لهم الباب إلا بمقدار الحاجة، أما أن يجيء السوري ليعمل في مصر، ويجيء المصري ليشتغل في الشام، ويترك أهل البلد بلا مال ولا عمل، فتفسد البطالة أخلاقهم، ويذلّ الفقر نفوسهم، ويعلّمهم هذا وذاك كره أخيهم العربي، فليس من مصلحة العرب أن يكون.
هذا رأيي أعلنه بلا جمجمة ولا مداراة. وهذا للعرب.
أما (الخواجات) فأجلوهم عن بلادكم إجلاءً تاماً فلا يأتوها إلا سياحاً أو زوَّار آثار.
وارفعوا أيديهم عن مرافقها فلا يملكوا منها إلا ما يملك مثله الأجنبي في بلادهم.
وكل بلاد الدنيا، تمنع الأجنبي أن يملك فيها أرضاً أو عقاراً إلا بمرسوم فما بال مصر مائدة ممدودة لكل طاعم، وكنزاً مفتوحاً لكل آخذ؟ وما بال الخواجة يجيء مصر فقيراً مفلساً، لا يبتغي إلا القوت يمسك رمقه أن يموت، ولا يتمنى إلا قرشين يعود بهما إلى بلاده، فلا تمر السنون حتى يصير الفقير غنياً، والواغل على البلد مالكا له، ويغدو الشحاد صاحب المنزل؟ ويجيء معه بالغانية راقصة أو بغياً، فيقدمها للمصري بيد ويأخذ منه الإسناد على موسم القطن بيد، ثم تتجمع الإسناد فتأكل الموسم، ثم تعجز المواسم عن سداد الدين، فيملك الأرض، ثم تتبدل الدنيا غير الدنيا، وينقلب الفلك، فيصير السيد عبداً، والعبد سيداً.
هذا احتلال شر من احتلال الجيوش الإنكليزية، لأنه احتلال المومسات: راقصات وارتيستات، واللصوص: أصحاب متاجر وأعضاء شركات.
والخلاص منه أصعب وأشق، لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان (النفير العام) في الكتاب أولا، وتجنيد القوى الأدبية كلها، للعمل على إعلاء همة هذا الشعب، وأن نعيد إليه ثقته بنفسه، وان نردّ عليه عزّته وكبرياءه، حتى ترتفع هامته، وتشتد عضلاته، ويشمخ أنفه، ويعلم انه لا يكون حقيقاً بملك مصر، ولا أهلا للاستقلال، ولا سليل من ملكوا الدنيا، إن لم يكن عزيزاً في نفسه، سيّداً في بلده. ثم نعمل على أن نصب فيه روح المغامرة، وندفعه إلى اقتحام المخاطر، وركوب الأسفار، ونعلمه حب المال، فما يفلح شعب لا يريد فراق وطنه، ولا النأي عن عشه. ثم نعلمه بغض الأجنبي، حتى يكون له ديناً، ويغدو له طبعاً، نعم البغض.

لماذا تنفرون من سماع هذه الكلمة؟ إلا أنها منافية للّطف والمجاملة والكرم؟ يا ناس.
لقد قتلنا اللطف، لقد ضيعتنا المجاملة، لقد أودى بنا الكرم.
الكرم صيّرنا شحادين، والتواضع جعلنا عبيداً، فلنتعلم الاقتصاد، والعزة، أو فلنعلمهما أولادنا إذا لم يمكن أن نأخذ بهما نفوسنا. ثم لنفهم هذا الشعب أن الأوربي يضحك علينا بالأرتستات والخمور والأزياء، كما يضحك على زنوج أفريقية بالخرز والأجراس، فلنره أننا عقلنا وشببنا عن الطوق، وأننا لم نعد نرضي أن يضحك أحد علينا، وما لنا ولارتستات وعندنا نساؤنا أزكى واطهر واجمل وأكمل؟ وما لنا ولأزيائه ولنا أزياؤنا؟ وما لنا ولخموره ولنا.

شرائعنا التي تحرم علينا الخمرة، وأخلاقنا؟ فإذا استكملنا عدة الهجوم، شرعنا الرماح وهجمنا، وخضنا المعركة نحاربه بمثل سلاحه، بالعلم والجد والدأب والتعاون حتى نلقي عنا هذه القيود التي كبلنا بها، حلقة بعد حلقة، كما شدها من حولنا حلقة بعد حلقة، على أن المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى، ومصانع الطرايش والزجاج إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها، ولنؤلف لكل ميدان فرقة: شركة اقتصادية، فيكون لكل مرفق من المرافق شركة، حتى إدارة الفنادق والمقاهي، وتسيير الترام وبناء المنازل. لقد أعلن فاروق مصر المعركة المقدسة، بإجلائه هذه البنت عن أرض مصر، وعقد لكم اللواء، ورفع العلم فامشوا تحته أدباء واقتصاديين وعلماء، فإن الميدان يتسع لكم جميعاً، ويحتاج إليكم جميعاً، واعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت المصري فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجراً لأجنبي، ولا عقاراً يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات مصر لأبناء مصر! هذا هو الاستقلال، فعلى كل مصري أأأألأ [بشضضيبشسبشسبشن يعمل له ما يستطيع! علي الطنطاوي

شارك الخبر

المرئيات-١