عن جابر رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط، وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه فركبه، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن، فقال له: شأ، لعنك الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا اللاعن بعيره؟».

قال: أنا، يا رسول الله.

قال: «انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم».

وبواط: جبل من جبال جهينة، بقرب ينبع.


غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قريشا، واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، حتى بلغ بحران من ناحية الفرع.

وسببها: أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا كثيرا من بني سليم بن منصور؛ فخرج في ثلاثمئة رجل من أصحابه، ولم يظهر وجها للسير؛ حتى إذا كان دون بحران بليلة لقي رجلا من بني سليم فأخبرهم أن القوم افترقوا فحبسه مع رجل، وسار حتى ورد بحران وليس به أحد، فأقام أياما ثم رجع ولم يلق كيدا وأرسل الرجل.

ثم انصرف راجعا إلى المدينة.


قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الخوف، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.

وحدث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك، قال: ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه.

وعن صالح بن خوات، عمن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلى صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.

وهي غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة من غطفان، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة، غزوة ذات الرقاع.
  وعن جابر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم محارب، وثعلبة.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، ومعه عشرة نفر إلى بني ثعلبة من غطفان وبني عوال من ثعلبة، وهم بذي القصة، فوردوا عليهم ليلا، فأحدق به القوم، وهم مئة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم جميعا، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضربوا كعبه فلم يتحرك فظنوا موته، فجردوه من الثياب وانطلقوا، ومر بمحمد وأصحابه رجل من المسلمين فاسترجع، فلما سمعه محمد يسترجع تحرك له، فأخذه وحمله إلى المدينة؛ فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارعهم فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فانحدروا بها إلى المدينة.


أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى ذي القصة -موضع قريب من المدينة- على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنه في أربعين رجلا من المسلمين حين صلوا المغرب، فسار إليهم مشاة حتى وافوا ذي القصة مع عماية الصبح -بقية ظلمة الليل- فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصابوا رجلا فأسلم فتركوه، وغنموا نعما من نعمهم فاستاقوه، ورثة -السقط من متاع البيت- من متاعهم، وقدموا بذلك المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقي عليهم.

وعند ابن سعد في طبقاته: أن سبب بعثه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة رضي الله عنه إلى ذي القصة: هو ما بلغه من أن بني محارب بن خصفة، وثعلبة وأنمار -وهما من غطفان- أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وهو يرعى بهيفا -موضع على سبعة أميال من المدينة-، فلعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة رضي الله عنه مرتين إلى ذي القصة، أو أن يكون البعث مرة واحدة، ولكن له سببان: الأخذ بثأر أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنه المقتولين، ودفع من أراد الإغارة على سرح المدينة.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى بني سليم؛ فسار حتى ورد الجموم -وهو ماء على طريق مكة- ناحية بطن نخل عن يسارها، فأصابوا عليه امرأة من مزينة يقال لها: حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم؛ فأصابوا في تلك المحلة نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى المدينة بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها.


ركب خالد في جيوشه بعد فتح الحيرة حتى انتهى إلى الأنبار وعليها قائد يقال له: شيرزاذ، فأحاط بها خالد، وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع معهم أهل أرضهم، ولما تواجه الفريقان أمر خالد أصحابه فرشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين، وسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل شيرزاذ خالدا في الصلح، فاشترط خالد أمورا فامتنع شيرزاذ من قبولها، فتقدم خالد إلى الخندق فاستدعى بردايا الأموال من الإبل فذبحها حتى ردم الخندق بها وجاز هو وأصحابه فوقها، فلما رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن يرده إلى مأمنه فوفى له بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار وتسلمها خالد، فنزلها واطمأن بها، وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية، ثم صالح خالد أهل البوازيج وكلواذى.


لما فرغ خالد بن الوليد من الأنبار واستحكمت له استخلف على الأنبار الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالد.
، قال: صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم -فخدعه واتقى به- وقال: دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم.

فقالت الأعاجم له: ما حملك على هذا؟ فقال: إن كانت له فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى تهنوا، فنقاتلهم وقد ضعفوا.

فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عنده، فإني حامل.

ووكل بنفسه حوامي، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرا، وانهزم صفه من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، واتبعهم المسلمون، ولما جاء الخبر مهران هرب في جنده، وتركوا الحصن، ولما انتهت فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به، وأقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عقة أسير، وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حكمه، وأمر خالد بعقة وكان خفير القوم فضربت عنقه ليوئس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحا على الجسر يئسوا من الحياة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم في أهل البلاء، منهم نصير أبو موسى بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين.


فتح المسلمون بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح مدينة حمص، بعد أن حاصروها حصارا شديدا واضطرت المدينة إلى طلب الصلح، فكتب المسلمون لأهلها كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم.


هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي، أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكان جميلا أبيض أحول، يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي، وكان ذكيا مدبرا للأمور، له بصر بها جليلها وحقيرها، اشتهر هشام في خلافته بالحلم والعفة، وكان قد نظم الدواوين وزاد في موارد الدولة، لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أمر أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام.

أمر بقتل غيلان القدري.

يؤخذ عليه تغافله عن دعاة بني العباس الذين نشطوا في عهده، ولعل كراهية هشام للعنف وسفك الدماء كانت سببا في تغاضيه عنهم حتى استفحل أمرهم قبيل وفاته، بحيث لم يستطع خلفاؤه وقف مد الدعوة العباسية؛ لذا لما مات هشام اضطرب ملك بني أمية، بقي في الخلافة عشرين سنة إلا شهرين، وصلى عليه ابنه مسلمة، ودفن في الرصافة.


كان يزيد بن عبد الملك قد عهد الأمر من بعده لأخيه هشام ثم لابنه الوليد من بعده، وكان الوليد بن يزيد ماجنا غارقا في شرب الخمر، حاول عمه هشام أكثر من مرة عزلة من الخلافة لكنه لم يفعل, فلما توفي هشام بويع بالخلافة للوليد بن يزيد وعمره خمس وثلاثون سنة.

أكثر الوليد بن يزيد العطاء للناس, وسار في الناس سيرة حسنة في بداية خلافته فاستوثقت له الأقاليم بالبيعة, لكن غلب عليه مجونه ومعاقرته للخمرة.


لما قدم إدريس بن عبدالله المغرب سنة 172هـ نزل على إسحاق بن عبد الحميد، فقدمه قبائل البربر وأطاعوه، وبلغ خبره هارون الرشيد، فدس إليه من سمه.

وكان المدسوس إليه رجلا يقال له الشماخ، فسمه وهرب إلى المشرق، فقام بأمر البربر مولاه راشد.

وترك إدريس جارية بربرية اسمها كنزة؛ فولدت له غلاما سمي باسم أبيه، فولي إدريس بن إدريس سنة 187هـ وهو ابن أحد عشرة سنة، وقيل: أكثر من ذلك.


كان إبراهيم المهدي قد خرج على المأمون وبايعه أهل بغداد إلا أن الأمر لم يدم في يده طويلا، حتى انفض عنه الناس وتركوه، فاختفى مدة ست سنين وشهور، ثم ظفر به المأمون, فاستعطفه إبراهيم فعفا عنه وتركه.


هو أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوب المعافري، العلامة النحوي الأخباري، أبو محمد الذهلي السدوسي، وقيل: الحميري المعافري البصري، نزيل مصر، هذب السيرة النبوية لابن إسحاق مصنفها.

سمعها من زياد البكائي صاحب ابن إسحاق, وإنما نسبت إليه، فيقال سيرة ابن هشام؛ لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن، واستدرك أشياء، وكان إماما في اللغة والنحو، وقد كان مقيما بمصر، واجتمع به الشافعي حين وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئا كثيرا.

كانت وفاته بمصر.


هو أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن أغلب، أخو زيادة الله، كانت ولايته من قبل المعتصم بالله، وهو رابع أمراء إفريقية من بني الأغلب، ولم تطل مدة أيامه، كانت ولايته سنتين وسبعة أشهر وسبعة أيام, لما تولى أبو عقال أحسن إلى الجند، وأزال مظالم كثيرة، وزاد العمال في أرزاقهم، وكف أيديهم عن الرعية، وقطع النبيذ والخمر عن القيروان.

وكانت أيامه أيام دعة وسكون سوى عام 224هـ؛ انتفض بعض الخوارج فسير إليهم عيسى بن ربعان فأخضعهم، ولما توفي ولي أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب بلاد إفريقية بعد وفاة والده، ودانت له إفريقية.


عقد الخليفة المعتمد لأخيه الموفق أبي أحمد ومفلح لقتال الزنج، فلما سارا إلى البصرة واجههم علي بن أبان المهلبي فجرى القتال بينهما، وكان نتيجته مقتل مفلح وكثير من أصحابه، ثم إن يحيى بن محمد البحراني- وهو من طرف الزنج- سار نحو نهر العباس فلقيه عسكر أصعجور، عامل الأهواز بعد منصور، وقاتلهم، وكان أكثر منهم عددا، فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب، وجرحوهم، فعبر يحيى النهر إليهم، فانحازوا عنه، وغنم سفنا كانت مع العسكر، فيها الميرة، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان، لتحاسد كان بينه وبين يحيى، فلقيهم جيش الموفق ورشقوهم بالنشاب، فأصابوا يحيى الذي حاول الهرب، ولكنه قبض عليه وسير إلى سامرا فقطعت يده ورجله من خلاف ثم ذبح، ورجع جيش الموفق لوباء حل بالجند بالإضافة لحريق حصل للجيش.


عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينة الموفقية بحصاره والتضييق عليه، فلما أراد العبور إليها أمر ابنه أبا العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعا من السور- فيما بين النهر المعروف بمنكى، والنهر المعروف بابن سمعان- وأمر صاعدا وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجري كور، وتقدم إلى زيرك في مناكفته وأمر مسرورا البلخي بالقصد لنهر ما يليهم من السور، وطلب منهم الموفق ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث، ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماة، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلما كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم فهزمهم أصحاب أبي أحمد وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، إلا أن أصحاب الخبيث تراجعوا فشدوا على أصحاب أبي أحمد وقتلوا منهم جماعة، وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلابا، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا، وانصرف أبو أحمد بمن معه إلى مدينة الموفقية وأمر بجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وأمر بإحصاء المفقودين من أصحابه فأحصوا له، وأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته.


لما ظهر المهدي من سجنه أقام بسجلماسة أربعين يوما، ثم سار إلى أفريقية، وأحضر الأموال من إنكجان، فجعلها أحمالا وأخذها معه، وقد عمل أبو عبدالله الشيعي على زوال ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار الذين منهم اليسع، وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزوال ملك بني رستم من تاهرت، ولهم ستون ومائة سنة تفردوا بتاهرت، وملك المهدي جميع ذلك، فلما قرب من رقادة تلقاه أهلها، وأهل القيروان، وأبو عبدالله، ورؤساء كتامة مشاة بين يديه، وولده خلفه، فسلموا عليه، فرد جميلا، وأمرهم بالانصراف، ونزل بقصر من قصور رقادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد، وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين، وجلس بعد الجمعة رجل يعرف بالشريف، ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدة، ودعوهم إلى مذهبهم، فمن أجاب أحسن إليه، ومن أبى حبس، فلم يدخل في مذهبهم إلا بعض الناس، وهم قليل، وقتل كثير ممن لم يوافقهم على قولهم، فكان أول من حكم هو هذا الملقب بالمهدي واسمه عبيدالله بن عبدالله بن ميمون، وقد اختلف كثيرا في نسبه وصحته، فمنهم من يقول: نسبه صحيح إلى علي بن أبي طالب، ومنهم من يقول: بل هو راجع إلى ميمون القداح، ومنهم من يقول: بل أصله يهودي ربيب الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بل قيل: إن اليسع قد قتل عبيد الله، وجعل مكانه رجلا يهوديا في السجن، وهو الذي أخرجه أبو عبدالله الشيعي، علما أن أبا عبدالله الشيعي لم يسبق له أن رأى المهدي أصلا؛ ولذلك حصل الشقاق بينهم فيما بعد, وعلى أي حال كان ومن أي نسب كان، فإن دولتهم وما كانوا يدعون إليه كفيلة ببيان ما كانوا عليه من الكفر والنفاق والشقاق لأهل الحق والإسلام.


نجح أبو عبد الله الشيعي داعية الإسماعيلية في إعلان قيام الدولة الفاطمية في "رقادة" عاصمة دولة الأغالبة، ومبايعة عبيد الله المهدي بالخلافة، وجاء هذا النجاح بعد محاولات فاشلة قام بها الشيعة منذ قيام الدولة الأموية للظفر بالخلافة.


هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه، شيخ الحنابلة وعالمهم، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي المعروف بالخلال.

ولد سنة 234، أو في التي تليها، ويجوز أن يكون رأى الإمام أحمد، ولكنه أخذ الفقه عن خلق كثير من أصحابه، رحل إلى فارس وإلى الشام والجزيرة يتطلب فقه الإمام أحمد وفتاويه وأجوبته، وكتب عن الكبار والصغار، حتى كتب عن تلامذته، ثم إنه صنف كتاب "الجامع في الفقه" من كلام الإمام.

قال الخطيب: "جمع الخلال علوم أحمد وتطلبها، وسافر لأجلها، وكتبها، وصنفها كتبا، لم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أحد أجمع لذلك منه".

له التصانيف الدائرة والكتب السائرة، من ذلك الجامع، والعلل، والسنة، والعلم، والطبقات، وتفسير الغريب، والأدب، وأخلاق أحمد، وغير ذلك.

سمع من الحسن بن عرفة، وسعدان بن نصر، ومحمد بن عوف الحمصي وطبقته، وصحب أبا بكر المروذي إلى أن مات، وسمع جماعة من أصحاب الإمام أحمد، منهم صالح وعبدالله ابناه، وإبراهيم الحربي، والميموني، وبدر المغازلي، وأبو يحيى الناقد، وحنبل، والقاضي البرني، وحرب الكرماني، وأبو زرعة، وخلق سواهم سمع منهم مسائل أحمد، ورحل إلى أقاصي البلاد في جمعها وسماعها ممن سمعها من الإمام أحمد وممن سمعها ممن سمعها منه، وشهد له شيوخ المذهب بالفضل والتقدم، حدث عنه جماعة منهم أبو بكر عبدالعزيز، ومحمد بن المظفر، ومحمد بن يوسف الصيرفي، وكانت له حلقة بجامع المهدي، ومات يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر.