سير عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وبعث معه له أمانا إن هو أطاع، فبقي الحجاج مدة في الطائف يبعث البعوث تقاتل ابن الزبير وتظفر عليه.

فكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره: بأن ابن الزبير قد كل وتفرق عنه أصحابه, ويستأذنه بمحاصرة الحرم ثم دخول مكة، فأمده عبد الملك بطارق الذي كان يحاصر المدينة، ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية، ثم أمر به، وحج ابن عمر رضي الله عنهما تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله، واكفف هذه الحجارة عن الناس؛ فإنك في شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرا، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة.

فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.

فأصاب الناس بعد ذلك مجاعة شديدة بسبب الحصار، فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه، وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أمانا، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك، فوالله إني لأحب بقاءكم.

فقال: ما كنت لأرغب بنفسي عنك.

فصبر معه فقتل وقاتلهم قتالا شديدا، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، وبعث الحجاج برأسه، ورأس عبد الله بن صفوان، ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون، ثم بعد أن أنزله الحجاج عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضوا عضوا فاستمسك، وصلى عليه أخوه عروة، فدفنته.


في هذه السنة انتهي من بناء مسجد قبة الصخرة في بيت المقدس والذي كان عبد الملك قد أمر به في سنة 66 هـ.


هي ذات النطاقين، وهي زوجة الزبير، ووالدة عبد الله بن الزبير، وكانت قد شهدت اليرموك مع زوجها وابنها، بقيت في مكة بعد أن طلقها الزبير في عهد عثمان بن عفان، وكانت قد عميت رضي الله عنها وبلغت المائة سنة من عمرها، وخبرها مع الحجاج مشهور بشأن ابنها عبد الله، وقد توفيت بعد مقتل ابنها بشهرين، وكانت من آخر المهاجرات موتا، فرضي الله عنها وعن أبيها وابنها.


في عهد عبد الملك بن مروان ثار الخوارج في البحرين بزعامة عبد الله بن قيس المعروف بأبي فديك, وأخرجهم منها المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة بعد معركة قتل فيها أبو فديك.


هو أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة: أبو بكر، وأبو خبيب القرشي الأسدي المكي، ثم المدني, أحد الأعلام، كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة, ولد سنة اثنتين، وقيل: السنة الأولى من الهجرة, ولما بلغ سبع سنين جاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلا، ثم بايعه.

له رواية أحاديث، وهو من صغار الصحابة، وإن كان كبيرا في العلم والشرف والجهاد والعبادة، وقد روى عن أبيه وجده لأمه الصديق، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وعن عمر وعثمان، وغيرهم، وحدث عنه: أخوه عروة الفقيه، وابناه: عامر وعباد، وابن أخيه: محمد بن عروة، وكان فارس قريش في زمانه، وله مواقف مشهودة.

أدرك ابن الزبير من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام وأربعة أشهر, وكان ملازما لبيت رسول الله؛ لكونه من آله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة, وفي يوم اليرموك أركب الزبير ولده عبد الله فرسا وهو ابن عشر سنين، ووكل به رجلا، شهد يوم الجمل مع خالته، كما شهد فتح المغرب، وغزو القسطنطينية.

كان معاوية رضي الله عنه في عهده إذا لقي ابن الزبير يقول: مرحبا بابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حواري رسول الله، لما توفي يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ، فحكم الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان، وبعض الشام، ولم يستوسق له الأمر، ومن ثم لم يعده بعض العلماء في أمراء المؤمنين، وعد دولته زمن فرقة، فإن مروان غلب على الشام ثم مصر، وقام بعد مصرعه ابنه عبد الملك بن مروان، وحارب ابن الزبير، فلم يزل يحاربه حتى ظفر به, فأخذ العراق، ثم أرسل الحجاج إلى مكة وأخذها من ابن الزبير بعد أن خذله من كان معه خذلانا شديدا، وجعلوا يتسللون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس, علام تقتلون أنفسكم? من خرج إلينا فهو آمن, لكم عهد الله وميثاقه، ورب هذه البنية لا أغدر بكم، ولا حاجة في دمائكم.

قتله الحجاج ثم صلبه، وكان آدم نحيفا, ليس بالطويل, بين عينيه أثر السجود, فغسلته والدته أسماء بنت أبي بكر بعد ما تقطعت أوصاله، فحنطته وكفنته، وصلت عليه، وجعلت فيه شيئا حين رأته يتفسخ إذا مسته, ثم حملته فدفنته بالمدينة في دار صفية أم المؤمنين.

قال عروة بن الزبير: لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله من أبي بكر، وبعده ابن الزبير، وإذا ذكر ابن الزبير عند ابن عباس، قال: (قارئ لكتاب الله, عفيف في الإسلام, أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمته خديجة، وخالته عائشة، وجدته صفية)، وكان عمرو بن دينار يقول: (ما رأيت مصليا قط أحسن صلاة من عبد الله بن الزبير، وكان يسمى حمامة المسجد).